صفحات من تاريخ العراق: المملوك الأخير(داود باشا ملك بغداد غير المتوج)

                                              

                        قاسم محمد داود

صفحات من تاريخ العراق:المملوك الأخير(داود باشا ملك بغداد غير المتوج)

                            

رفع داود باشا جفنين ثقيلين الى دجلة من خلال نافذة غرفته في السراي المطلة على النهر الخالد في وسطهما عينان مبتلتان كما هي عيون المسنين ، مياه النهر الهائج الملونة بالطمي التي غمرت شوارع وازقة بغداد التي يجتاحها الطاعون تاركاً الجثث ليجرفها الفيضان ، نهر دجلة فاض حتى اغرق المدينة المحاصرة ’هدمت دور ومساجد وأسواق ودكاكين وضاعت أموال وبضائع وكتب واملاك وهلك اناس ودواب ،غرقت ارياف بغداد فدمرت الزروع والثمار وقلت المؤن.خارج اسوار بغداد كان علي رضا باشا يحاصر المدينة التي تتهيأ لموجة جديدة من السلب والنهب ، يحمل الفرمان السلطاني بعزله  من ولاية بغداد وتسلمها منه .
عرف هذه المدينة منذ اكثر من نصف قرن ,لا يملك سوى ذكريات تكاد تنمحي من ذاكرته عن مدينته تفليس كما يسميها العرب او تبليسي (عاصمة جورجيا الآن)التي ولد فيها لأسرة مسيحية هناك  سنة1767م رغم ان نهر دجلة يذكره احياناً بنهر( كورا) الذي كما هو دجلة يشق وسط المدينة .
كان عمره ثلاثة عشر سنة عندما اختطف من هناك وجيىء به الى بغداد ،اشتراه احد وجهاء بغداد ثم باعه  وصار بعدها داود ينتقل من شخص لأخر حتى انتهى به المطاف  الى سليمان باشا الكبير والي بغداد المملوكي الذي كان يشتري المماليك باعداد كبيرة لتدريبهم على وظائف الدولة ولحماية البلاد فأدخلَ نظام تربية المماليك، وكان داوود باشا حسن الصورة، ذكيا مولعا بالعلوم والآداب وكان أكبر أساتذته العلامة أسعد بن عبيد الله بن صبغة الله بن إبراهيم الكردي مفتي الحنفية والشافعية في بغداد   ، وقد برز بشكل خاص في الامور الادارية والسياسية ، لذلك الحق بالحرس الخاص للوالي سليمان باشا الكبير الذي سرعان مااكتشف فيه هذه القدرات واعجب به حتى انه زوجه احدى بناته، وبعد ذلك اسند اليه منصب الخازندار. .
توفي سليمان الكبير عام 1802م وأوصى ان يتولى منصب الوالي بعده صهره علي باشا الكهية ولكن سرعان ما ظهرت الخلافات حول المنصب بين اسرته ثم حسم الامر لعلي باشا الذي دام حكمه خمس سنوات مليئة بالقلاقل والصراعات وفي سنة 1807 وبينما كان علي باشا يقيم صلاة الصبح قام احد المقربين منه بغمد خنجره في خاصرته وسقط صريعاً على الفور ،تولى ابن اخته سليمان باشا الذي لقب بالصغيرتميزاً عن سلفه سليمان باشا الكبير والذي افل نجمه بعد ثلاث سنوات من الحكم لينتهي صريعاً في تشرين الأول سنة 1810  على ايدي الجيش العثماني بعد معارك طاحنة بينهما .
آلت الولاية الى مملوك آخر هو عبد الله آغا التوتنجي لم يدم حكمه سوى سنتين ونصف قضاها في خوف دائم من سعيد بك ابن سليمان باشا الكبير ومن التف حوله من المماليك الذي دخل معه في حرب بمعاونة بعض عشائر جنوب العراق انتهت بأسر التوتنجي وقتله في بلدة سوق الشيوخ.صار سعيد باشا واليا في بغداد لكن نفوذ العشائر صار اكبر من نفوذه مما أدى الى تردي الأوضاع في العراق .
استعان سعيد باشا بزوج اخته داود باشا لقمع التمرد بعد ان اسند اليه منصب الكهية (معاون الوالي)استطاع داود باشا من اخماد تمرد العشائر في الجنوب بأستخدام القوة لكن الوالي وما ان انتهى داود باشا من قمع التمرد حتى  اصدر امراً بعزله من منصبه وذلك بعد الحاح من نابي خانم والدته .وسرعان ما تردت الأوضاع في  العراق من جديد لاهمال سعيد باشا شؤون البلاد .
في أيلول من سنة1816م غادر داود باشا مدينة بغداد خلسة مع مجموعة من اتباعه الى مدينة السليمانية و من هناك وبمساعدة من محمود باشا بابان أُرسِلت عريضة رسمية الى استانبول تطلب تعيينه واليا على العراق .
في 7كانون الثاني 1817م كان داود باشا مع أنصاره مشتبكاً في معركة مع الوالي سعيد باشا وانصاره خارج اسوار بغداد من جهة باب المعظم ،لم يستطيع المهاجمين الانتصار في المعركة فقد لعبت مدفعية الوالي دوراًحاسما في صد المهاجمين كما ان فرسان حمود الثامر شيخ عشيرة المنتفك المتحالف مع سعيد باشا قاموا بهجوم مباغت جعل النصر يكون الى جانب الوالي . اضطر داود باشا على أثر هذه المعركة ان ينسحب بقواته بعيداً عن بغداد لكي يرتاح و يعيد تنظيم قواته مما دفع الوالي بالسماح لشيخ المنتفك واتباعه بالعودة الى مناطقهم ظناً منه بأن الخطر قد زال وامر بفتح أبواب بغداد لكن الامر لم يكن كذلك،فوجود داود باشا وقواته لا زال يهدد المدينه التي انتشرت فيها الاشاعات والفوضى وكثر السلب والنهب بسبب ضعف الإدارة ،لذا أجتمع اعيان بغداد ورجال الدين فيها  وكتبوا محظراً ارسلوه الى داود باشا يطلبون منه القدوم الى بغداد لانقاذها مما هي فيه من فوضى ،في 20 شباط 1817 م دخل داود باشا بغداد والياً عليها من قبل السلطنة العثمانية واستقبل من قبل سكانها بالترحاب ،اما الوالي سعيد باشا فقد كانت نهايته على يد رئيس الانكشارية سيد عليوي الذي قتله في حجرة نوم والدته نابي خانم التي لم تفلح بأنقاذه من القتل .
واجه داود باشا الكثير من المشاكل اثناء ولايته التي استمرت أربعة عشر عاماً، فقد واجه مشكلة كبيرة مع الدولة القاجارية في ايران التي كانت تتحين الفرص لاحتلال بغداد لكنها منيت بالفشل بفضل حنكته السياسة وخبرته من حروبه السابقة ضدها والتحالفات التي أقامها مع القبائل العربية.
كما تصدى للعشائر البدوية التي كانت لاتخضع لسلطة الوالي واجرى تغيرات في مشايخها بمن يضمن ولائهم لسلطته حتى انه توصل الى عزل غريمه السابق حمود الذي عزله ثم ارسله الى السجن واقام مكانه ابن أخيه عقيل ابن محمد الثامر. كما كسب ود قبيلة شمر بقيادة زعيمها صفوك بن فارس الجربا وصار للحكومة جيش رديف من القبائل الموالية له.كما اعد حملة احتلت مدينة الاحساء في مساهمة منه في الحملة التي أعدتها السلطنة العثمانية للقضاء على الدولة السعودية الناشئة  .
وجه داود باشا اهتمامه نحو الجيش فعمل على تدريبه وتقويته وفق النظم الحديثة فأستعان بضابط فرنسي يدعى ديفو والذي كان احد ضباط نابليون للقيام بذلك .
اهتم داود باشا بالجوانب الثقاقية في البلاد فأصدر اول جريدة في بغداد باسم (جرنال بغداد )كانت تطبع باللغتين العربية والتركية وارتفع عدد المدارس في عهده الى ثمان وعشرون مدرسة عين لها مدرسين لهم رواتب ثابته ،ومن المدارس التي حصلت على شهرة في عهده المدرسة الداودية في جامع الحيدرخانة جانب المدرسة العادلية والاحمدية والآصفية وغيرها من المدارس .كما ادخل الكثير من الإصلاحات على نظام الحكم ،واهتم بالاقتصاد وخاصة في التنمية الزراعية فشق الترع المائية للاستفادة من مياه الأنهار ،كما رمم اسوار بغداد لحفظها من الغزوات الخارجية وإشاعة الامن والطمأنينة لدى السكان .
كان النفوذ البريطاني في العراق قد تعاظم منذ عهود الولاة السابقين واراد الإنكليز الإبقاء على هذا النفوذ فكان هذا من الاخطار التي تصدى لها داود باشا عن طريق الغاء الامتيازات والحقوق الاوربية في العراق ورفع قيمة الضريبة المفروضة على البضائع الإنكليزية التي تدخل البلاد ،نتيجة لذلك تصادم مع المقيم البريطاني في العراق (كلوديوس ريج ) وكان ذا مكانه اكثر من أي ممثل اجنبي في بغداد،
واخذ ريج يعمل على تقوية المقيمية البريطانية ، فجعل احدى السفن العسكرية تقف امام المقيمية في نهر دجلة رافعة العلم البريطاني، مما دفع داوود باشا لارسال قوة  لمحاصرة المقيمية البريطانية، وبعد ذلك قام المقيم باثارة الناس ضد داوود باشا، خاصة كبار التجار في بغداد الذين تضررت تجارتهم مع الانكليز وكان ريج على صلة وثيقة بهم، كما اثار الموظفين الاتراك وشيوخ العشائر واصدر اوامره الى البواخر البريطانية بعدم جلب بضاعة الى العراق، الامر الذي ادى الى حدوث مجاعة، فاوقع العراق في ضائقة مالية كبيرة، لان داوود باشا لم يتخذ الاحتياطات اللازمة لمثل ازمة كهذه، وعندما وجد ما حل بالبلاد من دمار اقتصادي اضطر للتنازل عن مطاليبه، خاصة وان ايران استغلت الفرصة واخذت تهدد العراق اضافة الى ضغط السلطان العثماني عليه، فاضطر الى توقيع اتفاقية مع بريطانيا حققت مطامع بريطانيا في العراق وحافظت على جميع الامتيازات، مع التزام داوود باشا بجميع الامتيازات التي منحها الباب العالي لبريطانيا خاصة مايتعلق بالضريبة التي حددت 3% فقط، كما اجبر البريطانيون داوود باشا على دفع اثمان البضائع التي صادرها، وبذلك انتهت محاولة داوود باشا للتخلص من الانكليز وسيطرتهم، والشئ الوحيد الذي حصل عليه هو نقل المقيم البريطاني ريج، حيث عين محله مقيم بريطاني جديد هو المستر تايلور .
كان العراق طيلة فتر حكم المماليك لا يخضع للباب العالي في إسطنبول بصورة مباشرة وقد تعزز ذلك في فترة حكم داود باشا فعندما قام  السلطان محمود الثاني بالقضاء على الانكشاريين سنة 1826م ارسل فرمان سلطاني الى بغداد يأمر فيه بالقضاء على الانكشاريين فيها ولكن الوالي داود باشا لم ينفذ الامر بالإضافة الى ذلك لم يرسل المبلغ المالي المقرر الى إسطنبول عندما أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية لذا اعتبر الامر عصيان على الدولة .
في صيف 1830م قدم الى بغداد صادق افندي مبعوث السلطان العثماني لتفقد أحوال الولاية ومحاولة عزل الوالي ،كشف داود باشا الامر فبعث بمجموعة من الجنود الى دار الضيافة في محلة الصابونجية في بغداد وقتلت المبعوث السلطاني واخفت الجثة‘ اثار الامر غضب السلطان محمود الثاني فأصدر امره الى  والي حلب علي رضا باشا بالتوجه الى بغداد والقضاء على المماليك فيها .
الطاعون الذي انتشر في بغداد والفيضان الذي غمرها افشلا كل الخطط التي وضعها داود باشا في مواجهة الجيش العثماني ،وعندما كانت طلائع هذا الجيش تصل الى بساتين الكاظمية تحت قيادة قاسم باشا العمري ومعه صفوك الجربة شيخ قبيلة شمر وسليمان الغنام من شيوخ قبيلة عقيل ،كان داود باشا يجيل بصره في بغداد الغريقة ولم يبقى معه احد سوى عدد قليل من المماليك الخائفين  بدلاً من عشرات الاغوات الكرج ولم يبقى من كتائبه الشهيرة الا بضع عشرات اما السراي التي كانت عامرة فقد تهدم نصفها بفعل الفيضان .
في المساء ركب الباشا حصانه وبجانبه عبده الحبشي الوحيد تاركاً
قصره والتجأ الى بيت حبيبة خانم .ثم بعد ذلك   جاء وفد من اشراف بغداد وقادوا الباشا الى دار صالح بك ابن سليمان باشا الكبير على ان يُسلم الى الوالي الجديد علي رضا عند وصوله من الموصل،وعندما وصل علي رضا بغداد بعد ان لم يعد في المدينة المُتعبة أي مقاومة واكتملت السيطرة عليها بعث ضباطه الى المكان الذي احتجز فيه داود باشا الذي لم يعد له لا حول ولا قوة وجاءوا به فأستقبله الوالي الجديد بكل احترام ثم رتب سفره مخفوراً الى العاصمة إسطنبول .
 في إسطنبول لم يعاقب الوالي المتمرد الذي أراد ان يتبع  طريق محمد علي في مصر وينهي علاقة العراق بالدولة العثمانية وانما ارسل منفياً الى مدينة بورصة التركية مصحوباً بعائلته ،وفي سنة 1832م استدعي من جديد وتم تعينه والياً على البوسنة ثم صار بعد ذلك رئيساً لمجلس الدولة في إسطنبول ،وفي سنة 1839م عين والياً على مدينة انقره لكن شكوكاً حامت حوله فأعيد الى مدينة بورصة .
استطاع داود باشا في سنة 1845م وكان قد بلغ الثامنة والسبعين من العمر ان يقنع السلطان عبد المجيد الأول  (1822م-1861م ) ليحصل على منصب يناسب مؤهلاته وهو منصب حامي( العتبة المقدسة )في المدينة المنورة،قضى سنوات عمره الاخيره في هذا المنصب حتى وفاته سنة 1851م ودفن في البقيع 

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

767 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع