قصص معاناة مغترب / الحلقة الثالثة

                                                        

                                  بقلم احمد فخري

                

     قصص معاناة مغترب - الحلقة الثالثة (قصة اليابسة وتمن)

في عام 1971 وبعد معاناة شديدة من العنصرية في المدرسة الداخلي بشمال انكلترا قررت الانتقال من تلك المدرسة بقرية (سنت بيز) والتي تبعد 500 كلم عن العاصمة وانتقل الى لندن بدلاً من ذلك لسبب وجود كمية كبيرة من الاجانب بلندن وذلك سيخفف عني معاناة العنصرية. مباشرة بعد عودتي من العراق في زيارة للاهل بالعطلة الصيفية وبعد وعمل جواز سفر جديد (بدل ضايع). بدأت ابحث على الفور عن غرفة سكنية في ضواحي لندن. يسمى هذا النوع من الغرف بالانكليزية BEDSIT وتعني جليس السرير ويقال انها سميت بذلك لان الذي يزورك لا يسعه الجلوس سوى على السرير وهي طرفة طبعاً.


             

لم يتطلب مني سوى 3 ايام حتى عثرت على الغرفة السكنية الملائمة بمنطقة پادنگتون بلندن. كانت عبارة عن غرفة صغيرة جداً وبها حمام صغير إذ كنت ادخل اليه بالعرض ومطبخ صغير سعته متر مربع واحد وبه طباخ كهربائي ذو العين واحدة.
      

ومع ذلك كنت سعيداً بتلك الغرفة لانها منحتني الاستقلالية الكاملة لاول مرة في حياتي.
في اليوم الاول من المكوث بها نظرت الى الطباخ الكهربائي وقلت لنفسي آن الاوان ان اتعلم الطبخ فانا لم اعد في القسم الداخلي حيث يجهز ويقدم الطعام للطلاب من قبل كادر الخدمات هناك.
ذهبت في الصباح الباكر من اليوم الاول الى متجر للمواد الغذائية واشتريت الكثير من المستلزمات التي احتاجها للطبخ مثل الارز والمعلبات والملح والسكر والقهوة والشاي ووو. وحالما رجعت لغرفتي، وضعت كمية من الارز في قدر معدني ثم غمرته بالماء ووضعته على الطباخ. درت المفتاح الى الدرجة القصوى إذ كان يحتوي على 5 درجات.
بقيت اراقب القدر وانتظر منه الغليان لكنه لم يغلي. وبعد حوالي ربع ساعة وضعت اصبعي في الماء فوجدته مازال بارداً. تركت الطباخ لنصف ساعة اخرى ورجعت اليه لكن الماء بقي على حاله بارداً. قررت ان اتذوق الرز فاخرجت بضع حبات من الرز بالملعقة وتذوقتها واذا بها لينة، بدت لي وكأنها قد نظجت. وقتها استنتجت ان هذا النوع من الطباخات هو حتماً اختراع جديد يقوم بطهي الاطعمة دون استعمال الحرارة حفاظاً على سلامة المستخدم. حسناً، لقد طهيت الرز الآن، فماذا اعمل به؟

                   

هنا خطرت لي فكرة سديدة، بما ان عندي علبة الفاصولياء المطبوخة جاهزة لذا بامكاني فتحها وصب محتواها فوق الرز الذي قمت بطهيه للتو. نفذت تلك الفكرة إذ اني نجحت بطبخ (يابسة وتمن) بالرغم من ان الرز كان صلباً نوعاً ما لكني كنت جداً سعيد بما حققت من انجاز لان العملية كانت بالنسبة لي باهمية شهادة الهندسة التي ساحصل عليها بالمستقبل.
بعد ان تناولت تلك الوجبة الدسمة خلدت لقيلولة قصيرة وكلي فخر واعتزاز بما حققت لكني لم انعم بها اكثر من ربع ساعة فقط إذ ايقظني طرق على الباب. فتحت الباب فوجدت رجلاً طويل القامة وذو ملامح غربية فقلت له،
- نعم، بماذا استطيع مساعدتك؟
ارت : انا جارك الذي بالغرفة المجاورة اسمي ارثر وبامكانك ان تسميني ارت، سمعت انك انتقلت بجواري.
- اتشرف بمعرفتك يا ارت، هذا صحيح، انتقلت اليوم الى هذه الغرفة. يبدو من لهجتك بانك امريكي او كندي.
ارت : انا امريكي واعمل بالبحرية الامريكية هنا ببريطانيا.
- تفضل بالدخول
دخل ارت فصُدم بحجم غرفتي وقال،
ارت : ان غرفتك صغيرة جداً
- نعم لكنها تحفظ لي خصوصيتي وانا سعيد بها
ارت : ما رأيك ان تلقي نظرة على غرفتي؟
- بكل سرور
خرجنا سوية من غرفتي متوجهين الى غرفته التي تبعد بضعة امتار. دخلنا الغرفة واذا بحجمها يعادل حوالي ثلاث اضعاف غرفتي وفيها سريران وطباخ بنفس شكل وحجم الطباخ الذي عندي. وحمامه كان اكبر من حمامي بقليل. وجدت صديقته جالسة على السرير فاستقبلتني بابتسامه عريضة.
ارت : يا احمد، اعرفك بصديقتي مورين، يا مورين اعرفك بجاري احمد
- نتشرف بمعرفتك سيدتي
مورين : شكراً، وانا كذلك
نظر ارت الى صديقته وسألها،
ارت : هل لك ان تعدي لنا القهوة؟
مورين : بكل سرور
توجهت مورين الى الطباخ الذي يشبه طباخي بالضبط ووضعت وعاءاً فيه ماء وبعد خمس دقائق تقريباً صار الماء يغلي بشدة والبخار يتطاير منه وكأنه قطار فحم قديم. كان ذلك منظراً مذهلاً لاني اكتشفت ان هذه الطباخات بامكانها ان تسخن وتغلي ما فوقها. فبدلاً من ان احرج نفسي وافضح سذاجتي قررت ان اقول،
- يبدو ان طباخي معطوب لانه لا يسخن ابداً
ارت : وهل وضعت النقود في فتحة العداد؟
- عن اي عداد تتحدث؟
ارت : هناك عداد بالقرب من الطباخ يشبه هذا الذي عندي.
اشار الى عداد يشبه الصندوق مثبت على اسفل الحائط بالقرب من الطباخ


           

- لكنني لا املك مثل هذا العداد في غرفتي
ارت : هذا مستحيل، كل الغرف بها مثل هذا العداد، دعنا نذهب الى غرفتك ونبحث عنه. ذهبنا نحن الاثنان الى غرفتي واذا به مثبت تحت الطاولة التي وضع عليها الطباخ، ادخلت بها قطعة نقود 5 بنسات واذا بعين الطباخ تدب بها الروح وصارت تسخت بسرعة فائقة.
- دعني اعترف لك بجهلي عن هذا العداد لاني تصورت ان الطباخ هو اختراع جديد يقوم بطهي الطعام دون ان يسخن.
ارت : لا عليك فانت تتعلم شيئاً كل يوم، انت مازلت صغير السن.
رجعنا الى غرفة جاري ارت وتناولنا القهوة سوية ثم عدت الى غرفتي وانا اضرب اخماساً باسداس واضحك على نفسي وعلى قلة خبرتي.
بعد تلك الحادثة صرت اجرب جميع الطرق بالطبخات العراقية التقليدية والاوروبية والعالمية حتى اصبحت طباخاً ماهراً.
غايتي من هذه القصة هي ان انبه اولياء الامور بالعالم العربي عموماً وبالعراق خصوصاً على ان دلال الاولاد بالشكل المفرط هو شيء سلبي وليس ايجابي. فالامهات العراقيات يتندرن ويفتخرن بان اولادهن لا يستطيعون قلي بيضة لانفسهم، اشارة الى انها تمنحهم الدلال المفرط. فهل هذا شيء جيد؟ وهل سيبقى الولد باحضان امه مدى الحياة؟ ربما هذا ما تود الامهات ان يحصل. لماذا تدخل البنت مع امها الى المطبخ وتتعلم فنون الطبخ منذ نعومة اظفارها بينما لا يسمح للولد تعلم الطبخ. وإذا اراد ان يشاركهم عملية الطهي فانهم يطردوه ويقولون له (لا تصير زنانه، هذا شغل نسوان، اطلع من المطبخ).
وهذا ما كان يحصل معي في الطفولة.
تمت
للراغبين الأطلاع على الحلقة الثانية:

http://algardenia.com/maqalat/27841-2017-01-09-12-46-48.html

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

931 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع