دولة كردستان بين بغداد وأنقرة وطهران

                                       

                         إبراهيم الزبيدي

لا يعترض على حلم الشعب الكردي بإقامة دولته المستقلة إلا متحامل جاهل، أو طائفي حاقد، أو عنصري متخلف. فمن أبسط مباديء حقوق الإنسان أن يملك حق تقرير مصيره بحرية وكرامة وسلام.

ولكن الخلاف لم يكن على المبدأ، ولا على الحلم، بل على التوقيت والطريقة والنتيجة. فإن مئات الكتاب والمحللين المحبين للشعب الكردي قالوا آلاف المرات إن التهديد بالانفصال، وبإقامة الدولة المستقلة في كردستان العراق، في هذا الظرف العراقي والإقليمي والدولي المشتبك المأزوم سلاح ضار لا ينبغي التلويح به، على الأقل في المدى المنظور. لأن الجريُ وراء عصفور تائه بين طيات السحاب، وقتلُ عصفور ذهبي في اليد حماقة لا تُغتفر.
ورغم أن الحزبين الكورديين الرئيسْين المختلفين المختصمين دائما كانا دائما يجهدان في إخفاء الخلاف، والتستر عليه، والتظاهر بالتناغم والانسجام، سرعان ما كسر قشر البيضة وخرج إلى العلن، وافتضح ووقع المحذور.  
وقد يكون الخلاف بين حزبين شريكين في غنيمة واحدة أمرا عاديا وغير مثير للغرابة، ولكن أن يلجأ الإخوة الأعداء إلى المَيَلان، هذا إلى الشرق، وذاك إلى الشمال، ليقاتل شقيقه الآخر بعصا هذه الجارة أو تلك.، فهذا هو الخطيئة بعينها، وهو الخيانة العظمى بحذافيرها. لأن النتيجة لم تصب بعارها الحزبين وحدهما، بل تعدت نتائجها المدمرة إلى الشعب البريء.
فقد تتسامح إيران، وقد تتساهل تركيا، مع تمرد القيادات السياسية الكردية على مركز الدولة العراقية الممزقة، وقد تغمضان عيونهما عن الانفصال عن الوطن الأم، وقد تشجعانها عليه، لغايات ظاهرة ومستترة، قريبة وبعيدة، ولكنهما لن تقبلا، بأي شكل من الأشكال، بأن تقوم دولة كردية حقيقية، ويعترف العالم باستقلالها، حتى لو كان نصفها، عمليا وواقعيا، في قبضة الولي الفقيه، ونصفها الآخر بين أصابع السلطان أردوغان.
وما التفاهم الإيراني التركي الأخير على كسر أكراد سوريا، وإعادتهم الى بيت الطاعة، إلا دليل على ذلك الواقع المرير الذي ينبغي أن يفهمه الساسة الكورد العراقيون، قبل فوات الأوان.
وحتى العاصمة بغداد، برغم ضياع بوصلتها، وتخبط حكامها، وإفلاس خزينتها، تتحول يوما بعد يوم إلى منصة لإطلاق السهام المسمومة على الإقليم، تديرها المليشيات، ويفرض سطوته عليها مسلحون أميون متعصبون تحركهم الأيدي الخفية وأحلام العظمة وحب السطوة والجبروت.
ولابد أن السياسين الكورد العراقيين لمسوا، قبل غيرهم، وأكثر من غيرهم، أن الفريق العراقي الإيراني بدأ يجاهر بعدائه لكردستان، ويرى في البيشمركة كيانا أخطر عليه من داعش. وبالتالي فإن تحرير الموصل، سواء بمشاركة البيشمركة أو عدمها، لا بد أن يعقبه صراع آخر من نوع مبتكر، قد يكون أكثر وجعا على الشعب الكوردي من الدواعش.
وهذا يعني أن القائد الكوردي الذي يأتمن إيران على أمن شعبه ودماء شبابه، واقتصاده، وحتى على ثقافته، إنما يقامر بمصير أهله، ويقودهم إلى مجهول.
ولا نريد هنا أن نُقلب المواجع، ونستذكر الأوراق القديمة، ونُعدد الأخطاء القاتلة التي ارتكبها السياسيون الكورد، من أيام المعارضة العراقية السابقة، ومن قبل الغزو الأمريكي، بسنين.
فقد اختاروا أن يقتسموا الفريسة مع الفريق الإيراني، بالمناصفة، معتقدين بأن ترك الوطن العراقي يحترق، ويصبح ملك سُراقه ومفسديه، سوف يُبعد شرورهم عن أقطاعياتهم الأسرية والعشائرية في كردستان. وظنوا أن خراب النصف العربي من الوطن أنفع لهم ولدولتهم القادمة، ويُعجل خلاصها.
وهذه هي أكبر خطاياهم التي اجاءت بجميع الخطايا اللاحقة، على جميع العراقيين، وعلى شعوب المنطقة كافة.
فأي نوع من القادة ذلك الذي لا يفهم أن عراقا موحدا وقويا وعزيزا ومهابا ومزدهرا أضمن لأمنه، وأنفع لكرسيه المذهب، وأفضل لكرامة شعبه من رهن إرادته وكرامة أهله ومصيرهم لهذه الجارة أو تلك، ولهذه الدولة الأجنبية وتلك؟.
لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال. كيف كان سيكون حال إقليمهم وحال الوطن، اليوم، لو كانوا رفضوا خدعة المحاصصة، وعارضوا حل الجيش الذي لم يكن جيش البعث، ولا جيش صدام، ولو اكتفوا بإحالة كبار ضباطه البعثيين فقط على التقاعد، مع ضمان كراماتهم وحقوقهم وأرزاق أسرهم، وأوكلوا إليه حفظ الأمن والثروة والحدود؟
وماذا كان سيكون لو عارضوا ذلك السلاح الخبيث المسمى باجتثاث البعث الذي يعلمون بأن الطائفيين المتعصبين الحاقدين الجهلة لن يستخدموه، قط، بعدل وحق وشرف ونزاهة، وبأنه لن يفتح على الوطن وأهله غير أبواب الجحيمم.
وماذا كان سيكون العراق اليوم، لو رفضوا الديمقراطية المغشوشة، وأصروا على صياغة قانون انتخاب شريف ونزيه، وتمسكوا بضرورة فصل الدين عن الدولة، ورفضوا تدخل السيستاني وغيره من رجال الدين ورؤساء العوائل والقبائل في السياسة وشؤون الحكم وكتابة الدستور؟
 وماذا كان سيكون لو تحالفوا مع القوى العراقية الديمقراطية العلمانية واليسارية، فقويت بهم وازداوا بها قوة، وأصروا على إقامة دولة القانون والأمن والمساواة والعدل الاجتماعي؟
أما كان العراق اليوم دانمرك جديدة وسويسرا ثانية؟ أما كان اليوم في مأمن من نار المفخخات والمليشيات وعصابات الخطف والسرقة والاختلاس؟ أما كان هذا الوطن البريء قد حقن دماء عشرات الآلاف من أبنائه، عربا وكوردا، شيعة وسنة، مسلمين ومسيحيين؟ أما كان لم يرَ يعش ليشهد اليومَ الأغبر الذي يقوده فيه جهلة وحمقى وفاسدون وانتهازيون كنوري المالكي وعمار الحكيم ومقتدى الصدر وهادي العامري وابراهيم الجعفري والشهرستاني والأخوين نجيفي وصالح المطلق والإخوة كربولي وسليم ومشعان الجبوري؟  
ولكنهم أثبتوا، بالقول والعمل، من أول ركوبهم على ظهر شعبهم الكوردي، وإلى اليوم، أنهم لم يكونوا يريدون ديمقراطية، ولا عدالة ولا هم يحزنون . والدليل أنهم لم يقيموا في (كردستانهم) دولة العدل والمساواة وسلطة القانون، بل تقاسموها على طريقة: هذه (الصُرة لي، وتلك الصُرة لك)، ثم راح كل فريق منهم يُطلق أولاده وأبناء أعمامه وأخواله، وأفراد قبيلته ومحازبيه، ليتسلطوا على البشر والحجر، ويصادروا الماء والهواء والدواء، حتى أوصلوا شعبهم إلى ما هو عليه اليوم، بلا سيادة، ولا أمن، ولا مال ولا غدٍ معلوم.
مناسبة هذا الكلام الذي يَغمُ ويسد النفس هو التصريح العجيب الغريب الذي صدحت به عضو التحالف الكردستاني عن كتلة التغيير النائبة شيرين رضا، مؤخرا، والذي أعلنت فيه "أن الاتحاد الوطني والتغيير (گوران) قد اتفقا على أن مشروع الاستفتاء أو الانفصال لا يمكن التفكير به في الوقت الحاضر، وذلك لأسباب واقعية وموضوعية”.
واضافت تقول “إننا لا نملك حاليا مقومات إعلان الدولة، بسبب انهيار الوضع الاقتصادي. كما أن الوضع الأمني غير مشجع في الوقت الحاضر، بسبب تهديدات داعش، والخلافات الداخلية مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، فضلا عن الخلافات بين حكومة بغداد والاقليم، وغيرها”.
وأكدت أن “كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت من تحالفنا الجديد يميل الى عدم التفكير بالانفصال، الا بعد الانتهاء من جميع المشاكل التي ذكرتها”.
إذن، فالدولة المستقلة سراب، والعودة إلى أحضان الوطن العراقي لم تعد متاحة، بعد أن صار خرابة تسرح فيها الديدان.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1068 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع