من حكايات جدتي... الخامسة عشر

                                                          

                                بدري نوئيل يوسف

حكاية السلطان الكذَّاب

بدأ الحر يخف وأصبح الجو مائلا للاعتدال، ونشاهد بعض الغيوم في السماء، وستكون اخر ليلة ننام في السطح . كانت جدتي سعيدة فرحة لأنها تحب النوم في غرفتها ومنامها الخاص، وضعت بطانية على كتفها تحمي نفسها من الهواء البارد الذي يهب بين فترة وأخرى، قالت :اليوم سأقص عليكم حكاية السلطان الكذاب .
كان يا ما كان على الله والتكلان،كان في قديم الزّمان سلطان يحبّ الكذب حبَّاً جمَّاً، وكان الكذب يسري في عروقه بحيث لا ينطق بأية كلمة إلاَّ إذا تأكد من كذبها حتّى إنّه كان لا ينطق بحرف الصاد كي لا يذكّره بكلمة صدْق ،‏أحسّ أن أكاذيبه أصبحت مكرّرة، لذا أعلن عن مسابقة للكذب، وجعل جائزة أكبر كذبة صندوقاً كبيراً مطعّماً بالصدف غير أنه لم يكشف عن محتوياته، وحان موعد المسابقة وتجمهر النّاس لمشاهدة الكذابين وأشار السّلطان للمتسابق الأوّل بالكلام فقال:‏كنّا يا سلطان الزّمان ثلاثة، هاجَمَنَا المَحْلُ صرنا ستة (أَيِ انْقَطَعَ عَنْهمُ الْمَطَرُ فَيَبِسَتْ الأَرْضُ) عاش من عاش ومات من مات، أصبحنا اثني عشر، ذات يوم ذهبنا إلى حمَّام السوق فانزلقنا في سواقيها، رجعنا ثلاثة، الأول أطرش والثاني أعور والثالث أعرج، قال الأطرش: أنا أسمع صوت بعوضة في أعلى سمائه ، أجاب الأعور: صحيح فعيني تراها، ورد الأعرج: هيَّا لنركض وراءها، ركضنا فوجدنا برغوثاً يسلخ جملاً، وقفنا عنده، قلنا: ألا تعطينا فخذاً؟ قال: حصّلوها وخذوها، المهم حصّلنا الفخذ، وقصدنا عجوزاً مشطها في جيبها زيّن الله شيبها، قلنا لها: ألا تطهين لنا هذه الفخذ؟ قالت عندي طنجرة (شرقه مرقه) تأكل اللحم وتترك المرق، أعطيناها الفخذ، جئنا بالخبز، فتتناه في صينيّة كبيرة، دلقنا فوقه المرق، ورحنا نأكل بالمغارف، حتّى إننا لم نترك فيها لقمة واحدة.‏
ضحك السلطان فور انتهاء المتسابق من سرد كذبته، قال: أين الكذب؟ إنّك لم تذكر حتى كذبة ضئيلة بحجم رأس الدبّوس، هيا اذهب وأفسح المجال للمتسابق الثاني.‏ تقدم رجل أحمر الشّعر، يرتدي ثياباً ريفيّة، يحيّي السّلطان ويقول:‏
يا سلطان السلاطين، ذهبتُ البارحة إلى البيدر، فرأيت الفلاَّحين يحصدون البيض، يكوّمونه ويدرسونه قلت لحالي: لماذا لا آتي بالجحش وأملأ خرجه بالبيض؟ ركضتُ مثل الريح، جئت بالجحش وملأت عِدْلَي الخرج بالبيض، ولحسن الحظ كان عِدْلاً الخرج مثقوبين، والبيض يقع على الأرض، ينكسر يتحول إلى دجاج ويركض ورائي، حتّى إنني عندما وصلت إلى البيت وجدت خلفي دجاجاً كثيراً، فتحت له الباب (ادخل بيت، بيت) دخل الدّجاج، نظرت إلى الخرج، وإذا ببيضة كبيرة، مددت يدي لأمسكها، وقعت وفقست جملاً، أنخت الجمل وضعت عليه حملاً ثقيلاً فانعقر سنامه، أخذته إلى البيطار، قال: ضع له قشرة جوز مكان العقر، وضعت له القشرة، وإذا بشجرة جوز كبيرة تنبت فوق سنامه، فجأة أزهرت الشجرة وأثمرت، قطفتها فجمعت قنطاراً، لكن بقيت حبة جوز في رأسها، أمسكت طينة وضربتها، وإذا بالطينة تتحوّل فور ملامستها حبّة الجوز إلى أرض حمراء نفرا ما فيها ولا حشيشة خضرا قلت: سأحرث الأرض. أحضرت مقلاعاً، وضعت فيه الثور ورميته، وضعت عُدّة الحراثة ورميتها، ثمّ وضعت نفسي ورميتها.‏
حرثت الأرض وزرعتها بالسمسم، مرّ أحدهم، قال: أخطأت، المفترض أن تزرعها بالبطّيخ. قلت: بسيطة: سأزرعها بطيخاً، ناديت أولاد الجيران ورحنا نلمّ السمسم المبذور، وفور انتهائنا وجدته ناقصاً حبة، بحثنا عنها هنا وهناك، أخيراً وجدناها في فم نملة، أمسكنا الحبّة، شدّت شددنا، انعفست الحبّة فغرق أولاد الجيران كلّهم في بحر السّيرج، تركتهم وجئت إلى هنا.‏
قطّب السّلطان جبينه، نظر إلى الرجل بقسوة، قال:‏يا لك من رجل أحمق، الظّاهر أنّك لا تفهم الكلام، أنا أقول لك أريد سماع كذبة كبيرة، وأنت تسرد عليّ حكايات لا تحوي حرفاً كاذباً، هيا استدر واغرب عن وجهي.‏
استدار الرّجل مكسور الخاطر، ومَثَلَ أمامه رجل لمّاع العينين قائلا :أيُّها السّلطان المبجّل، عندي كذبة مُتَبّلة.‏
نظر السلطان إليه، قال: هاتِ أسمعني.‏ قال: احم، احم، منذ ثلاثين سنة استدان والدكم السلطان الأعظم جرة مليئة بالذهب الخالص من والدي،‏ فتح السلطان فمه دهشاً، قال:‏ماذا تقول يا مجنون؟ والدي أنا يستدين من والدك جرّة مليئة بالذهب! قال مولاي: إن كنت كاذباً، فقد فزت وأصبح الصندوق من حقّي، وإن كنت صادقاً، ردّ لي مال أبي، حكّ السلطان جبينه، قال لنفسه: فِعلاً إنه لكذَّاب محترف، لكنه أبداً لن يكون أكذب من السلطان.‏
ثم صاح:‏ أنت لقد فزتَ بالمسابقة، واستحققت لقب أكبر كذَّاب في البلاد، هيا، تقدم وخذ الجائزة.‏
نظر الرّجل إلى الصندوق بعين حالمة، تراءت أمام عينيه صور اللؤلؤ والمرجان والفيروز والذهب والفضة، ركض نحوه فرحاً نزع القفل وفتح الغطاء وشهق مذعوراً.‏
هرع الناس إليه مستفسرين، نظروا داخل الصّندوق وقعت عيونهم على الحجارة والحصى، فشهقوا واجمين.‏
أمَّا السلطان، فكان الوحيد الذي يضحك حتى دمعت عيناه وأصبحت معدته تؤلمه من كثرة الضحك، وكأن أحداً يدغدغ خاصرتيه وهو يقول متفاخراً: لن يكون هناك من هو أكذب مني.
وفي ختام الحكاية تقول جدتي :وكنا عندكم وجئنا، لو بيتنا قريب لجلبت لكم حملاً زبيب .
نلتقي من حكايات جدتي... السادسة عشر

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

889 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع