الحاج أُسطه زاير الرشيد رائد صناعة الخراطة في مدينة العمارة- العراق

                                     

                  د.محمد زاير / السويد

الحاج أُسطه زاير الرشيد رائد صناعة الخراطة في مدينة العمارة- العراق

                   
أهدي مقالي إلى والدي الذي علمني الصدق والإيمان والإخلأص والكفاح في الحياة وإحترام الرأي ألأخر

  

مات أبوه وهو في بطن أمه, وٌلد عام 1880 حسب التقديرات, ثم ماتت أمه وهو طفل رضيع, فكفلته أخته نوره سلطان (أم عاشور) واعتنت به فنشأ يتيم الأبوين. تكلف برعايته أخوه الأكبر محمد جعفر الذي كان ميسور الحال يتعاطى مهنة تجارة الحبوب في مدينة العمارة, محلة المحمودية, فاعتنى به وأدخله إحدى كتاتيبها. 

مله بابي: تعلم فيها القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن الكريم. كانت تقع في جامع النجارين بمدينة العمارة, خرابه مفروش قسم منها بالحصران والبواري حيث الأطفال يجلسون على الأرض ومله بابي جالس والعصا بيده يضرب الفلقه إذ اقتضى الأمر ويعيد الدرس على الأطفال الذين يرددون ما يقوله. لم تكن هناك دفاتر أو أقلام بل يوجد مع كل طفل صفيحة (تَنَكْ) وحبر أسود يكتب فيها بقصبة هي القلم, وبعد الانتهاء من الدرس يذهبون ويغسلون ما كتبوه في مياه موجودة في القرب منهم. ولم تكن هناك مراحيض "بيوت الراحة" عندهم وإذا أراد الطفل أن يتبول عليه أن يرفع إصبعه الصغير,أوأراد التغوط عليه أن يرفع إصبعه الكبير طالبا الاستئذان من مله بابي لكي يسمح له فيخرج إلى الدربونه القريبة لقضاء حاجته. حدثنا عن تلك الفترة من طفولته فقال: مدينة العمارة بناها الأتراك سنة 1861. كانت آنذاك صغيرة جدا و أكثر بيوتها من الطين, والأكواخ والخرائب منتشرة في كل مكان, تحيطها النخيل والبساتين من كل صوب, ودرابينها ضيقة مملوءة أكثرها بالأوحال والمياه الآسنة خاصة حينما تهطل الأمطار, بعضها مضاءة بالفوانيس النفطية الخافتة, وقد ظل صديق طفولته إبراهيم البوصطجي (موزع البريد) يُذكّره كيف أنه كسر إحدى هذه الفوانيس بعد أن رماها بالحجارة ثم ألقى باللائمة على الوالد الذي أنكر وحلف أغلظ الأيمان بأنه لم يفعل ذالك. كانت ألعابهم أيام الطفولة هي: " البلبل, طق طق حجر, صيد العصافير بالمصياده الخاصة والسباحة".
لقد أبدى الوالد ذكاءً واهتماما في تعلم القراءة والكتابة والحساب, وحينما شب وكبر أراد الالتحاق في المدرسة النظامية الرسمية الوحيدة آنذاك في مدينة العمارة, والتي أصبحت بنايتها لاحقا "المدرسة الفاطمية للبنات", لكن طلبه رُفض لأن المدرسة كانت مقصورة على أبناء الذوات و أبناء الأتراك الموجودين في المدينة, وحينما بلغ أشده أخذ يساعد أخاه محمد جعفر في علوة الحبوب فكان مسؤولا عن حسابات البيع والشراء.
لا ندري ماهي الأسباب المباشرة التي جعلته يترك أخاه ومدينته العمارة, في أوائل القرن العشرين فأخذ "المركب النهري" ويمم شطر بغداد التي كانت خاضعة إلى نفوذ الأتراك في عصر انحطاطهم. يتذكرها جيدا: بدرابينها الضيقة وأكثر بيوتها طينية وبقايا السور (باب الطلسم) الذي كان مستودعا للسلأح, فجره الأتراك أثناء الحرب العالمية الأولى ولم يبقى منه إلا قطعة صغيرة أقيم فيها متحف الأسلحة الحاضر. لم يكن هناك شوارع معروفة. وأول شارع أُفتتح ببغداد هو شارع النهر الذي شقه ناظم باشا في عام 1910. أما شارع الرشيد فقد بدأ العمل بشقه في شهر مايس سنة 1916. أفتتحه الوالي خليل باشا يوم 23 تموز سنة 1916 فأطلق عليه أسم خليل باشا جادة سي وكُتب هذا الاسم على قطعة من الكاشي وضعت على جدار جامع السيد سلطان علي وبقيت الى نهاية الأربعينيات وقد شاهدتها بنفسي سنة 1944. بقى الشارع مليء بالحفر يعلوه التراب. لم يكد الإنكليز أن يحتلوا بغداد في 11 آذار سنة 1917 حتى بدأوا يبلطون الشارع لتسهيل نقلياتهم ولاستعراض الجيوش البريطانية الغازية, فأطلقوا عليه اسم الشارع الجديد الذي أبدلته أمانة العاصمة الى شارع الرشيد.


  

اشتغل حوالي الثماني سنوات: في معمل للثلج يملكه هنود في محلة المصبغة فأتقن صنعته في الاعتناء بالمكائن وتشغيلها فحصل على ثقتهم وأعطوه لقب (أُسطه) الذي لازمه طيلة حياته. ثم اشتغل في بعض المعامل الصغيرة (تورنات) التي كانت موجودة بصورة بدائية في منطقة العبخانة الصناعية أنذاك فأتقنها وأبدى ميلا كبيرا للاستمرار فيها لتصبح فبما بعد حرفته واختصاصه. من أقرب أصدقائه في تلك الفترة المرحوم أوسطه إبراهيم بربوتي الذي افتتح معمله بعد ذالك (تورنه) في بداية الشارع المقابل الى جامع سيد سلطان علي وبقى صديقا مخلصا وفيا له طيلة الحياة. إنتقل إلى جوار ربه سنة 1956 رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.

   

الإنتقال الى كربلاء:
أرسله الهنود إلى مدينة كربلاء لتأسيس معمل للثلج هناك, لدرايته في أعمال النصب والتشغيل والتصليح للمكائن بكفاءة ودراية, فأقام فيها خلال فترة الحرب العالمية الأولى. أستطاع فيها تعلم اللغة الفارسية بطلأقة فحصل على الجنسية الإيرانية تجنبا لسوقه الى الحروب التي كان يكرهها كرها شديدا, وكان قبلها يتكلم الكردية بطلاقة لظروف ساعدته لذاك. احتفظ بجوازه التركي. كان يتذكر بألم وحزن أصدقائه الذين كان معهم في بغداد وكيف أن جندرمة الأتراك أحاطوا بهم في وقت النفير العام (سفر بر) سنة 1914 فسفروهم على عجل إلى جبهات القتال في القفقاس وماتوا هناك غرباء بعيدين عن أهلهم ووطنهم. أما هو فقد برز الباسبورت الإيراني فتركوه. ومن أصدقائه الكربلائين مهدي أبو أخشوم الذي أصبح مطوفنا الخاص ومن بعده أبنه سيد محمد حيث كانوا يستقبلون عائلتنا أثناء زيارة الأضرحة المقدسة في كربلاء. وفي النجف الأشرف صديقه هادي الخرسان الذي أصبح مطوفنا الخاص أثناء زيارتنا لها. أخبرنا الوالد عن بعض ذكرياته من تلك الفترة فقال: مدينة النجف: كانت صغيرة محاطة بسور قديم ووسائل السفر بينها وبين كر بلاء وبغداد هي العربات التي تجرها الخيول ولم تكن السيارات معروفة آنذاك. سافر ذات مرة مع إحدى هذه القوافل من العربات التي يحرسها نفر من الناس, وفي مكان ما من الصحراء اعترضهم قطاع الطرق (ألمسلبجيه) فدارت المعركة (ألعركه) استعملت فيها المكَاور واللكمات والدفرات وضرب العكَل, فوجئ الوالد بهذا المشهد الغريب الذي لم يألفه في حياته وهو المسالم الذي لا يعرف فنون العركات وأصولها, ووجد نفسه وسط هذه العركة رغم أنفه دون أن يعرف التصرف والتدبير فاكتفى بالتشجيع والكلام :
" ها اخوتي عليهم .. دير بالك اجاك..يا الله انصرهم .. يا محمد.. يا علي". هذا في الوقت الذي كان يدفن فيه نقوده في الرمل والتي أخرجها بعد انتهاء المعركة.
عاد الوالد إلى مدينة العمارة بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وقد اكتسب الخبرة والعلم والطموح والتفاؤل والنضوج وبعض المال. إشتغل فترة قصيرة في معمل الثلج العائد الى عائلة أبى القاسم فتعرف على جدي مراد الذي أَُعجب بأخلاقه فزوّجه أمي كميله سنة 1919 في خرابة تقع عند تقاطع دربونة مراد الطباخ وشارع السوارية (أنظر خريطة شارع السوارية أدناه رقم 2), أنجبت له الوالدة عشرة مواليد (أربعة ذكور وستة إناث): ثلأثة بنات ماتوا في سن الطفولة والرابعة نبيهة (1934- 1952) كانت مصممة على دراسة الطب لكنها أصيبت في التهاب اللوزتين في طفولتها ولم يكن البنسلين معروفا فانتقلت الى رحمة الله بسبب مشاكل القلب, ورتبة (1926-2010) لم تتزوج و منارس (1928 – 2008) تزوجت ابن العم العقيد عيسى محمد جعفر) والإثنتان واصلوا دراساتهم الى الصف الثالث متوسط, والأخ حامد (1923- 1097) تخرج من كلية الحقوق, وكاتب المقال محمد (1932-), والمهندس محمود (1936-) تخرج من جامعة كلأسكو- اسكوتلأنده في هندسة الميكانيك, والدكتور أحمد (1941-) تخرج من حامعة مدريد- إسبانيا). رحم الله الأموات وأسكنهم فسيح جنانه وأطال الله في أعمار الباقين وكل نفس ذائثة الموت.
إنتقال العائلة الى بيت جديد بناه الوالد: تم ذالك بعد ولادتي, قريبا من الخرابة التي تزوج فيها بشارع السوارية, مقابل جامع الحاج سالم والمرقم 48/11 آ (أنظر خريطة شارع السوارية أدناه رقم 1). ثم انتقلنا ثانية الى مكان الخرابة عام 1947- الخمسينيات بعد أن بناها التاجر عبد الحسين الأبكَع دارا اوربية ذات طابقين) – رقم 2 بالخارطة, ثم انتقلت العائلة بعدها الى رفم 3 في الخارطة).

   

تأسيسه أول معمل للخراطة بالعمارة بالإشتراك مع زميله المسيحي يوسف بُنّي
تم ذلك في بداية العشرينيات من القرن الماضي. كان المعمل صغيرا يقع في إحدى الدرابين الفرعية القريبة من السوق الكبير من جهة نهر دجلة. كانت أمي تتذكر تلك الفترة التي أصبح شريكا فيها لصديقه يوسف بني وكيف يعود إلى البيت بعد غروب الشمس ملطخا بالدهن الأسود من جراء عمله وقد جهزت الماء الحار انتظارا له لتقوم بمساعدته في الغسيل ولكنه يستمر بسكب الماء على جسده مرارا وهو يردد أسماء الله لطرد النجاسة (يتعللّه).
بعثة دراسية الى الهند عام 1928 بمساعدة أصدقائه الهنود فأخذ الباخرة (الميل) إلى مدينة بومباي الهندية على الساحل الغربي وبقى هناك حوالي السنة تدرب فيها على بعض المكائن والتورنات واطّلع على آخر المستجدات في ذالك الحقل. وقد ولدت ابنته (منارس) عند زيارته إلى مدينة (بنارس) الهندية.
حدثنا عن زيارته تلك ونحن أطفال فقال: أنه شاهد حية كوبرا كبيرة ترقص على أنغام الموسيقى وقد سألوه إذا كان يريد مشاهدة الساحر الذي يذبح الرجل ويمسك برأسه ويطوف على الحاضرين للحصول على المال وبعدها يرجع الرأس إلى مكانه فيفيق الرجل معافا وسالما بعد هذا الذبح المخيف, لكن والدي رفض الذهاب والسبب كما قال: " خفنه من بشاعة الخبر" ولأنه لا يؤمن بالسحر والشعوذة خاصة وأيمانه بالله كان قويا ليس له حدود. أخبرنا عن الشاذي (القرد) في مدينة بومباي الذي كان يرقص أمام المشاهدين, فيضرب على صدره إذا أعطوا صاحبه الدراهم, و إذا امتنعوا عن ذاك فيقوم بالضرب على قلاقيله الحدرانية. ومن الأخبار الأخرى وجود عصابات للعركة بالأجرة, وكل شيء له سعر خاص, فمثلا إذا طلب شخص منهم أن يكسروا يد عدوه فلها سعر, بينما كسر الرجل فلها سعر آخر وهكذا دواليك. وهناك قصة الطير الأسود الناطق والمعلق في المقهى التي كانوا يزورونها, يساعد ويردد ما يقوله صاحبه: "يك سي دلو" يعني "تعال جيب جاي".
كان معجبا بالمعامل التي زارها وبالتطور العلمي السائد آنذاك في الهند, فاشترى بعض ماكان يحتاجه إلى معمله. وقد تعلم الكثير من اللغة الهندية أثناء مكوثه هناك لمدة سنة, يتحدث بها أحيانا مع صديقه غفورى الهندي حينما يزوره بين حين وآخر في معمل التورنة بالعمارة, ويذكر لنا بعض الكلمات والمعاني مع الضحك والتعليق. ومن طموحاته ورغبته كان قد تعلم كتابة وقراءة الحروف الإنكليزية في بغداد بمساعدة مدرس خصوصي بأجر, كان من أصدقائه المسيحيين, لكن تطور الأوضاع آنذاك خلال الحرب العالمية الأولى حالت دون تعلمه هذه اللغة, فندم وتحسر كثيرا. وما زلت أتذكر نصائحه وتشجيعه: " اللسان زين إيفيد, إشكَد متكَدرون تعلموا لغات أخرى لأن إتفيد بالحياة"..
فسخ الشراكة مع يوسف بني وتأسيسه معمل التورنة لوحده:
لاندري متى تم ذالك ولكن الأرجح قد يكون بعد عودته من سفرته الى الهند فانتقل لوحده مع التورنات إلى مكان أكبر و أوسع مقابل السجن المركزي القديم الملاصق الى بيت شيخ مطلكَ السلمان الملاصق الى جامع الأنصاري الحالي, في الشارع الذي سمي لاحقا بشارع بغداد, كانت العرصة هذه تعود إلى فايق عرب كرلي ذو الوجه المرح الضحوك المعروف بامتلاكه الموتور سيكل مع الدوبه, الوحيد في ذالك الوقت في مدينة العمارة.
نستطيع القول بأن الوالد يعتبر المؤسس لأول معمل للخراطة في مدينة العمارة في فترة كان الجهل والتأخر يضرب إطنابه في العراق والصناعات والمعامل محدودة العدد وبدائية التكوين. (أنظر الخريطة أعلأه):
كان معمل التورنة أشبه بالجامعة التي يتخرج منها الطلاب المتدربين ليأخذوا دورهم في الحياة لتطوير البلد إلى حالة أفضل خاصة وأن الجهل والتأخر ضرب إطنابه في ذالك الوقت. كان الناس يأتون بأطفالهم راجين إدخالهم إلى المعمل الذي يعتبر بمثابة المعهد الوحيد لكي يجربوا فيه حظهم في الحياة العملية وليحصلوا على شغل يؤمن رزقهم وحياتهم في تلك الفترة القاسية من تاريخ بلادنا الحبيبة. وبرنامج العمل يقضي آنذاك أن يبدأ الطفل حياته الأولى بالمساعدة في التنظيف وجلب الأدوات وإطاعة مرؤسيه, والذهاب أحيانا إلى السوق لشراء ما يحتاج إليه من مبارد ومناشير لقص الحديد, وقد عشت أنا مثل هذه الفترة خلال العطل الصيفية حيث كنت واحدا منهم أشعر بشعورهم وألبس البنطلون الملطخ بالدهن الأسود, حيث كانت أمي تنتظرني غروبا لكي تغسل بالماء الحار ما كانت تسميه "هاي السيانات والأوساخ".
يتدرج الطفل بالعمل والتدريب وقد يأخذ ذالك سنينا طوال, يحصل في النهاية على لقب "أوسطه" ومنهم أوسطه عاشور (أبن عمتي وزوج خالتي), وأوسطه جميل إبراهيم, وأوسطه جابر (إبن عمي), وأوسطه جاسم (أبن عمي), وأوسطه احسين, وأوسطه ياسين, وأوسطه صادق وآخرون كثيرون. منهم من يحصل على ألقاب إضافية أمثال أوسطه فلان الأعور وأوسطه فلان الأعرج, وذيبان اللحيمجي, وهاشم الأعور (أبن عمي) الذي كان مسؤولا عن كتابة الطلبات والرسائل في نهاية الثلاثينيات, ومحمد اجنازه لأنه بطئ الشغل (أبن عمي). وهناك من الأطفال الذين كانوا بعمري يحصلون على ألقاب غريبة, منهم حسن فيط البهل و نجس وانجيرس وهما لقبان منحهم أخي حامد إلى أصويدق (مصغر صادق) ابن عبود البصوان (حارس ليلي) و خليل الملقب بخليل الضعيف لوجود خليل آخر والملقب بخليل السمين وسيد محمد الذي لم يوفق في عمله وعبود أخو جميل التكمجي الذي انتقل الى رحمة الله وهو في سن المراهقة لأصابته بمرض مفاجئ, رحمه الله. هذا والزائرون إلى معمل التورنة أنفسهم لم يسلموا من الألقاب الغريبة, فهناك التاجر عبد الحسين الأبكَع, وسائق السيارة حامد الأطرش, والأفنص, والأشرم والأعمى, والأشرح والشلولو, وأبو قنبوره,..الخ.
كان الوالد صريحا جدا في تقيم قدرتهم ومستقبلهم, يجربهم ويختبرهم ثم يقول بصراحة تامة: " إبني إنته هاي الشغله متوالمك, شوفلك غير شغله أحسن", أما الشخص المناسب فكان يلاقي كل التشجيع والسند. وعلى سبيل المثال فأن خليل الضعيف كان مشاكسا يخلق المشاكل ويسموه أحيانا بالنغل فكان والدي يردد القول: " ولك انته إذا تبقه على هذي الأخلاق والتصرفات تره ميصير ابرا سك خير", وفعلا فشل خليل في عمله وانتقل إلى البصرة حيث انقطعت أخباره. أما الطفل هاشم عباس والملقب (كَركَه) لأن أنفه كان يشبه أنوف جنود الكركه المحتلين سنة 1941 فكان شاطرا شجعه والدي وتنبأ له بمستقبل جيد فصدق تنبؤه وانتقل إلى بغداد بعد أن اشتد ساعده وقوى ومعه شهادة توصية من الوالد, فاستطاع بسهولة الحصول على شغل متقدم في أمانة العاصمة وبقى وفيا يتذكر الفضل ولا ينساه, وقد عزمني مرة في الخمسينيات في بيته على طعام الغذاء وهو يردد الشكر والدعاء الى الله أن يحفظ أستاذه ويوفقه.
محتويات المعمل: (أُنظر خريطة المعمل أدناه):

   

خريطة المعمل في شارع بغداد
 ماكينة تانجي (50 أحصان) تديرالتورنات, وماكينة بلوكي صغيره للاحتياط (25 أحصان) تستعمل عند الحاجة إذا أصيبت ماكينة التانجي بالعطل.
 تورنه طول 12 فوت أنكليزيه (التورنة الكبيرة).
 تورنه ثانية طول 10 فوت أنكليزيه (التورنة الوسطانية).
 تورنه طول 6 فوت أنكليزيه (التورنة الصغيرة).
 مزرف يدوي كبير وآخر صغير.
 رندة طرحي أنكليزيه.
 ماكينة اللحيم.
 كوسره تُدار بالقايش
 منفاخ للسباكة. وكل التورنات تدار بواسطة القوايش المنتشرة في سقف المعمل وهي بدورها تدار بواسطة ماكينة ألتا نجي أو البل وكي.
 هناك العديد من الشفتات والبوريات وبعض المكائن المهشمة والسكراب والبساتن والبوشات القديمة والأدوات المتعددة الأخرى التي يحتاجها المعمل منتشرة هنا وهناك. كما يوجد ألتزكَاه الكبير (منضده) مع المنكَنات (ألماسكات) المتعددة.
كان السقف عبارة عن جملون كبير مصنوع من الجينكو يغطي معظم أرجاء المعمل لكي يقيه الحر صيفا والأمطار شتاء, وفي الطابق الأعلى من جهة الشارع تسكن عائلة يهودية لهم بابـهم الخاص.
المشتغلون في المعمل كانوا يتبدلون بمرور الزمن وفي نهاية الثلاثينيات اشتغل أوسطه عاشور على التورنة الكبيرة بعد أن خلف ابن العم أوسطه جابر الذي ترك العمل وافتتح معملا لنفسه, و أوسطه جميل إبراهيم على التورنة الوسطانية والوالد له التورنة الصغيرة لكنهم كانوا يبدلون أماكنهم أحيانا تبعا إلى نوع الشغل وأهميته. أما الوالد فهو المخطط لسير العمل وإدارته. كان يرسم خرائط البساتن والبوشات مع القياسات بنفسه ويرسلها إلى صديقه أوسطه نافع ألتكمجي (السباك) في ألعباخانه ببغداد وأبنه أوسطه توفيق, وأحيانا يرسل الخرائط والتعليمات إلى صديقه أوسطه مصطاف في ألبصره فيسبكون (إيصبّون) هذه الطلبات مسترشدين بالخرائط المرسلة ومستعملين الآهين (نوع من الحديد), فيقوم الوالد وعماله بخراطتها (جرخها) وتهيئتها لكي تعوض التلف الحاصل في المكائن المتضررة التي تحتاج إلى تصليح. وقد استغنى عن الكاتب أبن العم هاشم في نهاية الثلاثينيات وأخذ يكتب بنفسه قوائم الحسابات لتكاليف التصليح والمواد المطلوبة للعمل ويرسلها إلى الزبائن, فمنهم من يدفع التكاليف عن رحابة صدر ومنهم من يماطل ويحاول التهرب لشهور أوسنين. وأذكر مرة في بداية الأربعينيات خلال الصيف. أرسلني وأنا بملابس الشغل الملطخة بالدهن الأسود إلى بيت شيخ حاتم الصيهود في شارع بغداد قريبا من جسر الكحلاء ففتحت الباب حسناء هيفاء أشبه بالراقصة المتغنجة فنادت على شيخ حاتم الذي كان آنذاك شابا وسيما أنيقا, مشهورا عنه الكرم, سلّمته قائمة الحساب فوعدني خيرا والدفع عن قريب مع السلام على الوالد.
لِباس العمال أثناء العمل:
(البنطلون), أما الوالد فكان إلى نهاية الثلاثينيات يلبس البنطلون أثناء عمله مع جراويه بغدادية كبيرة. أما خارج المعمل أو في البيت فكان لباسه العربي: العقال واليشماغ والزبون مع الحياصه والبالطو مع الجيوات, وأحيانا يستعمل نظاراته أثناء العمل, إشتراها في بغداد أثناء إقامته هناك في بداية القرن العشرين وقد اشتراها كما قال بعد أن وقف عند البائع في سوق بغداد وأخذ يجرب بنفسه المقياس المطلوب, وأشترى أيضا ساعة حائط قديمة (صُنعت في نيويورك سنة 1874) احتفظنا بها طيلة حياتنا, ورثتها من أبي فاحتفظت بها في السويد بكل إعتزاز وافتخار كذكرى غالية عليّ تذكرني دقاتها بالطفولة البعيدة وذكرياتها التي لا تعود. أهديتها في خريف سنة 2009 الى المحروسة عالية بنت أخي أحمد في إسبانيا لمناسبة زواجها الميمون, لكي تكمل المشوار فتبقى ذكرى خالدة الى الأجيال القادمة!
عمله في الأهوار:
كان يخرج إلى الأهوار في فترة العشرينيات والى منتصف الثلاثينيات, مع مساعديه وجنطة خشبية سوداء كبيرة فيها كل الأدوات التي يحتاجها للتصليح ولنصب مكائن ضخ المياه الكبيرة فكان يقال: " أوسطه زاير راح للعرب " وهو الذي نصب أكثر المكائن المنتشرة في المجر الكبير (شيخ مجيد) وفي أمسيعيده (شيخ محمد العريبي), ومكائن صديقه المقرب سيد جواد في البتيره وكاظم السدخان بصدور المجر ومناطق أخرى عديدة مازال أكثرها موجودة إلى يومنا هذا تشتغل وتضخ المياه في أماكنها.
كانت له طريقته الخاصة لنصب المكائن الكبيرة رغم الإمكانيات المحدودة, فيقوم في بداية الأمر بصب الأسمنت في المكان الذي ستستقر عليه الماكينة الضخمة بعد أن تأخذ القياسات وتوضع الأستدات (ألبراغي) الكبيرة داخل الصبة الكونكريتية وبصورة متساوية, وتُترك لمدة قد تطول أسبوعا أو أكثر لكي تقوى وتتصلب, وبعد جفافها يتعاون الجميع من رهط القوم وبمساعدة البكرات (ألعتلات) من رفع جسم الماكينة الثقيل لكي يستقر فوق الصبة بين الابتهالات إلى الله والرسول والأئمة الطاهرين, يقوم بعدها بتركيب الآلات العائدة إلى الماكينة وقد تأخذ أياما, وما أن تنتهي عملية النصب يقوم الوالد بتشغيل الماكينة بين الهلاهل والهوسات المناسبة وهنا يقوم الشيخ صاحب الماكينة بذبح الذبائح كفدية وقربانا إلى الله عز وجل.
دقته وإخلاصه بالعمل:
صادف في العشرينيات أن بيت هداية كانوا يملكون بساتين في العمارة فاشتروا ماكينة "بلاك أستون" لضخ المياه وأتى معها خبير إنكليزي لنصبها في البستان ولتشغيلها ولكن بعد محاولات عديدة ولمدة ثلاثة أيام لم يتمكن الخبير الإنكليزي من ذاك فأخبروه بوجود فني عراقي لعله يتمكن من تشغيلها, لكن الإنكليزي استكبرالأمر فرفض في البداية, ثم رضخ للواقع فأتى الوالد وهو في ملابسه العربية مع العقال واليشماغ والصاية والبالطو مع الحياصة والجيوات فاستكثر الإنكليزي الأمر وأخذ ينظر للوالد من فوق والى أخمص قدميه غير مصدق عينيه. أشار الوالد عليه أن يدير الفلاوين (العجلة الكبيرة) ففعل .. يمنه يسره وهنا سألنا الوالد: " ليش انته ما فرّيت (أدرت) الفلاوين؟ " فأجاب: " خفت ليكَول بأن صاحبكم هو خرّب الماكينة " وبعد الجهد استطاع الوالد تشغيل الماكينة. وهناك الكثير من القصص المعروفة التي تثبت كفاءته وخبرته ودقته وإخلاصه في العمل. ففي إحدى المرات تعطلت مكائن الطحين والجرش العائدة إلى بيت سيد مصطفى الواقعة على شاطئ دجلة فجلب لها سيد مصطفى أحسن الأسطوات ولم يفلحوا في تصليحها وبعدها استنجد المذكور بالوالد الذي اكتشف العطل إذ أن جزءا من أجزائها رُكّب بصورة غير صحيحة مما سبب كسر في بعض الأجزاء فتم تصليحه وتشغيل المكائن. أخبرنا الوالد من أنهم دعوه مرة إلى ماكينة كبيرة لضخ المياه, تشتغل لفترة قصيرة بصورة طبيعية ثم تتوقف عن الدوران. فقام الوالد بفحص الماكينة بصورة دقيقة دون أن يعثر على سبب العطل. ثم فكر طويلا, طلب بعدها من المساعدين حفر الأرض المحيطة بأنبوب النفط الموصل بين مخزن النفط (ألتانكي) والماكينة نفسها فاستغربوا لذاك لكنهم أطاعوا, وبعد جهد جهيد إكتشف قطعة كبيرة من القماش في أنبوب النفط تعرقل وصوله, وبعد التحقيقات اعترف سائق الماكينة بذاك لأنهم طردوه من عمله.
كان طموحه شديدا وكفاحه في الحياة متواصلا, عمل بجد ومثابرة, دون كلل أو ملل أو عطلة يرتاح فيها إلا أيام الأعياد والمناسبات الدينية, استمر على تلك الحالة إلى أواخر الأربعينيات حيث أخذ بعدها يرتاح أيام الجمعة. كان إيمانه بالعلم ليس له حدود, شجعنا على التعلم والسفر خارج البلد وكما كان يقول: " حتًه إيصير إلكم كَلب (قلب) وتتحملون المشاكل.
كان الوالد يتجنب الدهنيات واللحوم في طعامه, اعتبرها زفر تضر صحة الجسم وكذاك الحلويات والأملاح, لكنه يأكل السمك والدجاج أحيانا, ويكثر من تناول الحليب والخبز خاصة في طعام العشاء. أما طعام الغداء فالرز مع المرق والخضروات دون لحم الذي يكون من حصتنا نحن الأطفال حيث كنا نتناول الطعام سوية, وأحيانا يُحمل طعام الغداء على صينية إلى معمل التورنة من قبل الصناع الصغار حيث يتناول الطعام في غرفة الإدارة بعد أن يصلي ويدعو الله, وفي فترات متعددة يأتي بنفسه إلى البيت وقد وضع العباءة على رأسه تجنبا لحرارة الصيف وكنت وأنا الطفل أحيانا ممسكا بيده أُصاحبه إلى البيت حيث نتناول طعام الغداء سوية, وبعدها ينام الظهر أثناء الصيف الحار وسمومه اللهابة في الوقت الذي نتناوب فيه نحن الأطفال على تحريك (ألمهفه) لتبريد الجو. ومن عادته المنتظمة إذا ما حل الربيع يتناول دهن الخروع كمسهل ينظف جهاز الهظم من الأوساخ المتراكمة خلال السنة. كان يدخن كثيرا ويكرر نصيحته بالقول: " لا تبلشون بالتدخين لأنه مضر وصعب تركه ". سألناه مرة في شهر رمضان حينما كان صائما في عزة الصيف: " شنوا أصعب شي عليك بالصيام " فأجاب: " التدخين! ". كنا نحن الأطفال والعمال الصغار نأخذ العلبة المعدنية الفضية حينما تفرغ من السيكاير ونذهب بها إلى دكان رؤوف التتنجي الواقع في زاوية التقاء شارع المعارف والسوق الكبير وابنه عباس الطويل لنجلب السيكاير, فكان رؤوف أو ابنه عباس يملآن العلبة بالسيكاير دون أن ندفع ثمنا فنأخذها مسرعين إلى الوالد.
تعرفه على الشيوخ بحكم عمله:
طبيعة عمله جعلته يتعرف على كل الشيوخ المعروفين الذين هم بأمس الحاجة إلى هذه الخبرة الميكانيكية التي انفرد بها لوحده في تلك الفترة, لتصليح مكائنهم إذا تعطلت (أو كما يقولون رفست المكينه أو طارت عواره) خاصة أثناء الصيف اللهاب حيث يقع الشيوخ في اضطراب كبير خوفا من تلف المزارع فيهرعون لزيارة والدي في المعمل وأحيانا في ألبيت راجين الإسراع بتصليح المكائن بأسرع وقت, الأمر الذي يتطلب الشغل نهارا وليلا حيث تضاء الأضواء الكهربائية في المعمل لتصليح العطب بأسرع وقت ممكن. كان من هؤلاء الشيوخ الذين يترددون عليه وأتذكرهم جيدا هم :شيخ محمد العريبي, شيخ مجيد الخليفة, شيخ فيصل, شيخ حمود, شيخ شواي الفهد, شيخ امناتي الفعل, شيخ مطلكَ السلمان الذي كان يقرأ و يكتب وهو شيء نادر جدا في ذلك الوقت, إذ كان أكثر الشيوخ في العراق أُميين لا يقرؤون أو يكتبون, شيخ كاظم السدخان, شيخ tفالح وأخوه حاتم الصيهود, شيخ كَاطع العوادي, شيخ منيع, شيخ عبد الكريم الجوي صديق الوالد المقرب الذي كان نائبا عن العمارة رغم أنه كان يطنطن في كلامه فيقول " تنهي ويقصد شنهي ". وهناك من الشيوخ الآخرين شيخ مزبان الساكن قريب من بيتنا في دربونة بيت الحسو, قيل أنه يلعب القمار رغم أنه تجاوز سن التسعين. و شيخ الطيف وإبنه عبد العزيز, و شيخ درجال.وآخرون. الشيوخ كانوا أشبه بملوك الطوائف لهم مقاطعاتهم و قوانينهم القبلية وأعرافهم وعاداتهم و تصرفاتهم. و هناك شيوخ صغار كثار أو عوائل تملك مقاطعات صغيرة أو بعض البساتين المنتشرة خارج المدينة ومنهم شامل الخضيري أبو طارق الذي كان يلبس السترة والبنطلون, وعبد الخالق البدراوي أبو زميلي سامى وعائلة محمود أبو زميلي عبد الودود, و أخيه أحمد فرمان, وشيخ عبد الرحيم السوداني المعمم ووالد زميلي خالد, و سيد هاشم أحسوني, الذي كان بشوشا يشع النور من وجهه يستطيع القراءة والكتابة ولا يكذب, يعطينا البخشيش ويكلمنا جميعا صغارا وكبارا فكنا نحبه ونحترمه وندعو له بالخير وشيخ داود الحميد أبو سلمى, و هناك شيخه اسمها طاكَه, قصيرة ذات حدبه (قمبوره) تلبس ملابس الرجال مع جرغد أسود يلف رأسها على شكل عمامة, وفي إحدى الأيام في الأربعينيات جاءت إلى بيتنا لزيارة الوالد لأمر يخص تصليح الماكينة في مقاطعتها, وما أن اقتربت من بيتنا أحاطها الأطفال من كل جانب لغرابة منظرها و أخذوا يضربونها بالحجارة ويرددون الأهزوجة المعروفة عند الأطفال: " هذه الياكلنه هذه.. آو هذه الياكلنه هذه…". ولكنها هرعت خوفا ودخلت بيتنا دون أن تطرق الباب فخرجنا وأمي معنا التي صاحت على الأطفال وأنبتهم على هذه التصرفات المشينة.
كان أكثر الشيوخ أن لم يكن جميعهم أميون لا يقرؤون أو يكتبون, اللّهم إلا الشيخ مطلكَ السلمان الذي كان له دِراية بالقرآئة والكتابة. الشيوخ لهم موكب رهيب وغريب فالشيخ يسير ومعه وخلفه الحوشيه (ألحاشية) يأتي بسيارته المفخخة وهي آخر مود يل, يلبس الملابس الغالية من صاية أو زبون مع البالطو والعقال مع اليشماغ والعبائة, لكن أكثرهم في الثلاثينات حفاة لا يرتاحون إلى لبس الأحذية, يدخلون المعمل بهذا الموكب خلأل الصيف يُسلًمون ويستفسرون, بينما العمال الصغار وأنا أحدهم, نسأل الشيخ قائلين: محفوظ انريد بخشيشنه فيجيبنا: تامرون بعد ماإتخلصون تصليح الأغراض, يعطونا في النهاية مبلغ لأ بأس به قد يصل إلى الدرهم لكل واحد منا وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت.
أصدقاؤه المقربون:
- سيد جواد, شيخ له مقاطعة صغيرة في البتيره وقد رفض لقب الشيخ واحتفظ بلقب سيد جواد, يزور الوالد في المعمل كثيرا وكنت أنا "الطفل" أتصوره شبيها للأمام علي "كرم الله وجهه" نظرا لضخامته وحسن طريقته في الكلام فيخلط الفصحى بالعامية ويذكر الشعر والأمثال والحكم والقصص الطريفة, يزور الوالد في المعمل و يجلس على كرسي من الحديد تحت المروحة السقفية أيام الصيف التي تدار بواسطة القايش في السقف. ويزور الوالد أحيانا في البيت فيتناول الطعام مع الأصدقاء الآخرين, كما أن الوالد كان يزوره ليلا في بيته القريب من السوق في اتجاه المقبرة وكنت أصاحبه في أكثر الأحيان فنتناول الأكل والفواكه ويشربون الشاي ونستمع إلى إذاعة برلين العربية الممنوع سماعها, وهي تردد بصوت يونس بحري "حي العرب", وأحيانا يزوره في مقاطعة كاظم السدخان القريبة من مدينة العمارة وقد صاحبته مرة في بداية الأربعينيات حيث قام الوالد بتصليح ماكينته الجرمنيه والمكناة (بالمخبله) وقد سبحت في حوض الماكينة فكانت أسعد اللحظات. وقد رجعنا على ظهر الحصان فجلست خلف الوالد بعد أن أمسكت في ظهره ومعنا فلاح صاحبنا إلى بيتنا.- الحاج أُسطه سوزه الجيزاني: من أقرباء الوالد وصديقه المقرب الذي هو الآخر يُعتبر المؤسس لصناعة جرش الحبوب والطحين فى مدينة العمارة. وُلد في قضاء "قلعة صالح" عام 1895, درس وتعلم في إحدى كتاتيب العمارة, إشتغل في معمل جلبه الأتراك لطحن الحبوب, الذي كان يُديره شخص هندي فتعلم على يديه وأجاد في تشغيل وتصليح مكائن الطحن. وبعد سقوط العمارة على يد الإنكليز سنة 1915 أصبح هو الأُسطة والمسؤول عن التشغيل والتصليح. وفي العشرينيات أسس بالإشتراك مع صيهود المحسن معملا للجرش وطحن الحبوب في محلة المحمودية الذي كان يحتوي على ماكنة رستون وكروسلي كبيرتين تدير أعداد من الجاروشات وعلوة كبيرة لأستيعاب الحبوب. كان معروفا عنه بذكائه وكرمه الحاتمي ومساعدة الفقراء والمحتاجين. لم يترك مالا أو عقارا. إنتقل الى رحمة الله سنة 1974. رحمه الله وطيب ثراه وأسكنه فسيح جنانه. كان الوالد يستنير برأيه أحيانا.- إبراهيم (الربيعي) البوسطجي: صديق طفولته الذي كان يُذكّره كثيرا بحادثة كسر الفانوس وألعابهم الأخرى.- جاسم البزاز: الذي كنت أذهب إلى دكانه حينما يقترب العيد لاختيار قماش الفاصونة المعروف وأخذه إلى الخياط محمود لخياطته (قاط) وإنجازه قبل العيد والحلأق الأديب خليل رشيد الذي كان حلأقه الخاص وآخرون كثار لأ مجال لذكرهم.
بالأضافة الى تصليحه مكائن ضخ المياه في البساتين وعند الشيوخ كان الوالد أيضا مسؤلا عن تصليح أكثر المكائن المنتشرة داخل مدينة العمارة كمكائن الكهرباء ومكائن طحن الحبوب, أو صناعة الثلج وهي:
مكائن بيت أبو القاسم :(عند مدخل شارع السوارية من جهة نهر الكحلاء), الحاج أُسطه سوزه الجيزاني: (في محلة المحمودية), محمد الصالح وأخيه أحمد الصالح (في شارع الكحلاء), مكائن سلومي بني (في محلة القادرية), ومكائن البواخر الى بيت حنا الشيخ, وأخيه رفولي, وماكينة منخي أبو بدريه قرب معمل وعلوة إبن العم موسى محمد جعفر, وبيت العرس (في شارع السوارية), وغيرهم إضافة إلى مكائن صغيرة وكبيرة لا تحصى في البساتين المنتشرة خارج المدينة, هذا ولم يؤثر على شغله أبدا حينما ترك أبن العم أوسطه جابر عمله في المعمل سنة 1938 وأفتتح معملا للتورنة قريبا من المعمل الذي افتتحه الوالد لأول مرة في مدينة ألعماره.
إصابته في ظهره أثناء عمله:
أصيب الوالد في سنة 1936 بحادث أثناء عمله سبب له أوجاعا شديدة في ظهره وأرجله طيلة حياته. أخبرنا بأنه أثناء ضغطه الشديد على السبانه وبينما كان محني الظهر شعر بطرقة وألم شديد في الظهر لم يستطيع الحركة بعدها فحملوه إلى السرير للراحة والعلاج, و من المؤكد فأنه أصيب بانزلاق (ألدسك) في ظهره والذي بقى ضاغطا على العصب القريب (عرق النسا). لم يستطيع الوالد بعد هذا الحادث الإستمرار في نصب المكائن, وقد راجع أشهر الأطباء في بغداد وعلى رأسهم عميد كلية الطب آنذاك الدكتور الإنكليزي "سندرسن", وكذاك الدكتور هاشم ألوتري, وجاك عبودي وآخرون ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل ولم تفده العلاجات والأدوية في وقتها. أما حالته حسبما عرفتها أنا بخبرتي الطبية لاحقا, هي حالة انزلاق الدسك الضاغط على العصب يتطلب عملية جراحية لرفعه من مكانه لكن العلاج لم يكن متطورا إلى هذا المستوى آنذاك فعالجوه بالدهونات والأدوية المسكنة. كانت الأوجاع شديدة عليه لكن إيمانه بالله وإرادته كانت قوية جدا حينما كان يردد القول كثيرا:
" المشتكى إلى الله, هذه إرادته و لا إعتراض عليها ". بعد أن يأس من علاج الأطباء المختصين, إتجه إلى طب العرب البدائي الذي كان يمارسه بعض البدو والدجالين, فقاموا بكيه عدة مرات, وجرّب بعض النباتات الحارة التي وضعها على أماكن الأوجاع حيث تركت بصماتها من تلف في الجلد (فركَاسات), ثم تفتقت عبقرية أحدهم فاقترح ذبح صخل في بيتنا ثم إدخال الوالد في جلد الصخل الحار بعد ذبحه. جرى ذالك في أوائل الأربعينات فأجتمع الأطفال من كل حدب وصوب وامتلأ البيت منهم ومن المارة الفظولين, ثم قام البدوي بذبح الصخل وأدخل الوالد المريض في جلده حيث أخرج يديه ورجليه من الفتحات في الوقت الذي أخذ البدوي يسأل الوالد:
" ها اشلونك إرتاحَت؟ " وبالطبع فان حرارة الجلد خففت بعض الأوجاع التي عادت بعدها كما كانت. وبالمناسبة فأن الوالد كان يرتاح كثيرا حينما نقوم نحن الأطفال بالمشي على ظهره وهو ممدد على بطنه, وهي طريقة مشابهة للطريقة المستعملة حاليا في العلاج بالوسائل الطبيعية وتسمى Articulation and Manipulation”".
أشرف على الموت أثناء عمله:
حدث ذالك في بدابة الأربعينيات, حينما حاول تبديل مسار القايش للتورنة الكبيرة لتغير السرعة, وفجأة التحق ساعده الأيسر لينحصر بين القايش والتورنة نفسها دون استطاعته الإفلات من هذه القبضة المحكمة. ومن حسن الحظ كان العامل حسن جاره ابن فانوس ابنة عمتي أم عاشور واقفا أمامه من الجانب الأخر الذي استطاع أن يمسك بالقايش ويتعلق به فسحبه الى فوق ولكنه وبثقل جسمه العضلي أوقف دوران القايش مع الصياح وطلب النجدة, فأسرع العمال الآخرين وأنقذوا الموقف.
ومرة أخرى بالأربعينيات ألقى بقطعة حديد كبيرة على كومة السكراب للتخلص منها, ولسوء الحظ أدت الى تطاير شظايا صغيرة متعددة من السكراب أصابت إحداها قاعدة أنفه فأحدثت شقا عميقا أخذ الأشهر الطويلة لالتحامه, فلم يكن البنسلين معروفا ولكنه كان يضع صفار البيض عليه ويحافظ على نظافته.
اللغة العلمية في المعمل عند العمال:
كانت خليط عجيب غريب من الإصطلاحات والأسماء المشتقة من لغات متعددة: فاالجاكوج (ألمطرقه) والجراخه والتكمخانه والتكمجي كلمات تركيه, والبنطه والسنتر والشفت والولف والوكم ألبستن والبوش واكَلاتوروالرنكَ (وجمعها رنكَات) كلمات أنكليزيه, والمزرف كلمة عربية على ما أعتقد. وهناك الكثير من الكلمات المتعددة الأخرى التي لا أعرف شيئا عن مصادرها: كَجم بيم, قلاوُزْ, دايس, برغي والجمع براغي, صمونه, يطغ, كرنك. أفلاوين, منكَنه, تزكَاه, إكَزوز, ياغدان, ..الخ.
المعمل أشبه بسوق عكاظ: بالإضافة إلى كون المعمل الجامعة التي يتخرج منها العمال المهرة لخدمة البلد وتطويره الصناعي, كان أيضا أشبه بسوق عكاظ مفتوح بابه لكل الأجناس والطوائف دون تميز في الدين أو أللغه, فقد كان يزخر بالأعداد الكبيرة من الناس كل يأتي بوقته الذي تعود عليه, فبائع اللوبيه والسميط واللوزينه والشاي والشربت والحلاوة والدوندرمة يأتون في الصباح والمساء. وهناك من يدخلون ويسلمون ويتكلمون ويجادلون بالأحداث السائدة آنذاك خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية ومنهم حسن روله سائق الروله العائدة إلى البلدية, يحلل الأمور تحليلا علميا دقيقا, ومن أقواله المعروفة إن الحرب القادمة سوف يسموها بالحرب الكونية وليس العالمية, ومنهم من يدخل لشرب الماء من كوز الماء عند المدخل أو قضاء الحاجة في المرحاض في نهاية المعمل (أنظر خريطة المعمل أعلأه).
ألدين لله والوطن للجميع:
كانت علاقته بالطوائف والأديان الأُخرى حسنة تقوم على الإحترام والحوار والمصالح المتبادلة, مكرراً القول: "الدين شي شخصي بينك اوبين ربّك, ولا إكراه في الدين! لكم دينكم ولي ديني, فمن الطائفة المندائية (الصابئة) كان حمد الصُبّي بلحيته الطويلة ووجهه الضحوك, يزور الوالد باستمرار فهو يسافر إلى البصرة كثيرا ويجلب معه الأدوات والاحتياطات لبيعها على طالبيها كالبوريات والجاين والأسبستوس والبراغي والواشرات, يقص علينا نحن الأطفال المجتمعين حوله بعض القصص والأخبار. ولا أنسى أنه قص علينا ذات مرة في نهاية عقد الثلاثينيات موضوع الأهواز وكيف أن شاه أيران بمباركة الإنكليز غدر بالشيخ خزعل في إمارته, فقد كانت الحادثة مازالت حديثة العهد يتناقلها الناس في البصرة. والصابئ الآخر من أصدقاء الوالد هو أوسطه عامر بقامته ولحيته الطويلتين وثوبه الأبيض والوجه الضحوك كان هو الآخر يشتغل في تصليح بعض المعدات في بيته ويزور الوالد للمناقشة وأخذ الرأي والنصيحة. وهناك إسعيّد الصبّي المشهور بتصليح الوراور (المسدسات) وقد فقد بعض أصابع يديه نتيجة حادث, دكانه يقع في محلة السرية, يقوم أحيانا بتصليح بعض المعدات الصغيرة التي كان الوالد يرسلها إليه. وكذاك حربي الصبّي الذي كان يقوم بإصلاح العطب في المكائن في حدود اختصاصه ويزور الوالد بين الحين والآخر. أما علاقة الوالد بالمسيحيين فهي قائمة على الاحترام المتبادل واشتباك المصالح ومنهم بيت بني (سلومي وتوماس) حيث كان يصلّح مكائنهم لجرش الحبوب. وبيت حنا الشيخ الذين يملكون المراكب المتنقلة بين بغداد والبصرة وكذالك بيع البنزين والنفط, يصلّح بواخرهم ومكائنهم وهناك لويس برجوني في العمارة ممثلا للشركة الإنكليزية لبيع مكائن ضخ المياه للمزارع المشهورة وهي مكائن " رستون, وروبسن, فلدنك, وبلاك ستون " التي كان يسميها الوالد بلاك سيان لرداءتها, محله يقع على الشط قريب من مدخل السوق وأمام البانزينخانه في ذالك الوقت. أما جان بحوشي أخو لويس الساكن في بغداد فكان الوالد يزوره في بغداد لأمور عمله. حدث ذات مرة أن زاره وهو محتاج إلى بعض المال فسأل لويس عن إمكانية الاقتراض ووعده بإرجاع المبلغ حالما يعود إلى العمارة, فما كان من جان إلا وسلم الوالد مفتاح القاصة وطلب منه أن يأخذ أي مبلغ يحتاجه دون كتابة أي تعهد ملزم, فرفض الوالد وأصر على كتابة تعهد لذاك لأنه كما قال: " هاي دنيه حياة ممات, وما أريد آكل حرام ". ومن اليهود كان إفرايم كاشي, يملك محل لبيع الأدوات الاحتياطية قريب من دائرة الشرطة وعند مدخل دربونة بيت الحسوا. وكذاك أبن القالبجي الذي كان له دكان صغير جدا يقع في السوق الكبير قريب من مدخل دربونة بيت أبو القاسم, يبيع المبارد (جمع مبرد) والمناشير التي تقص الحديد فكنا نحن الصناع الصغار نذهب لشرائها والعودة إلى المعمل. ومن اليهود صاحب مخزن أحذية " باتا " في السوق يعرفه الوالد, وما أن يقترب حلول العيد السعيد, أذهب مع أخي الصغير محمود قائلا: " عمي باتا, أبويه إيسلم عليك وأيكَول اختاروا الشي اللي إتريدونه " فيرحب بنا ويساعدنا لاختيار الأحذية والسداره العراقية ذات اللون القهوائي مع البلوزات السميكة, والكُليته (التي تغطي الرأس والرقبة) للأخ محمود. وهناك العائلة اليهودية التي تسكن الطابق العلوي من المعمل في شارع بغداد لاحقا, وما زلت أتذكر رئيس العائلة الذي يلبس الفينة الحمراء, له شارب سميك أبيض يغطي فمه و كلما يقابل والدي يسلم عليه باديا الإحترام.
كانت تحيات الداخلين والخارجين إلى غرفة الإدارة تسمع طيلة النهار بكلمة " السلام عليكم…عليكم السلام..صبحكم الله بالخير..مساكم الله بالخير….هنيئا (إذا شرب أحدهم الماء)….بعد سلامه….الله أيوفقكم وينصركم…..(حينما يغادر أحد الجالسين مكانه ليفسح المجال للقادمين الجدد) ". أما الوالد فكان مشغولا بعمله في المعمل, يأتي بين الفينة والأخرى لاستقبال الزوار والتعرف على حوائجهم. من هؤلاء الناس بعض الفقراء, منهم من وضع على رأسه عمامة بيضاء أو سوداء بيده مسبحة ينطق بكلمات التسبيح والشكر لله والدعاء بأن يحفظ الله أوسطه زاير وعائلته. ساعد هؤلاء الفقراء المحتاجين وأعطى كل ذى حق حقه دون أن يظهر ذلك للملأ. ومن الوافدين الكثار أتذكر مله عباس المشهور في وقته يرتدى السيديه ويأتي في فترات خاصة إلى التورنة لجمع التبرعات, وجهه ضحوكا وصاحب نكته وهو المسؤول عن نقل توابيت الموتى (الأمانة) إلى النجف الأشرف, فالفقراء لا يستطيعون إرسال موتاهم إلى النجف الأشرف مباشرة فيدفنوهم موقتا (أمانة) ويقوم مله عباس بجمع التوابيت أثناء فترة زيارة (مرد الروس) فيدور على التجار والمتمكنين من الناس لجمع الأموال اللازمة لنقلها ودفنها في النجف الأشرف, وبالطبع لا ينسى " خمس جده " من هذه الأموال فهو مورد رزقه الوحيد. قيل في إحدى السنين عاد مله عباس وبعض التوابيت الفارغة مسجاة على سقف الباص, وفي الطريق صعد بعض الأعراب وجلسوا قرب التوابيت الفارغة لأن الجلوس على سقف الباص أرخص من الجلوس في داخله, وبعد فترة انهالت الأمطار بغزارة كثيفة, فما كان من هؤلاء الأعراب إلا ودخلوا التوابيت الفارغة بعد أن قلبوها على أنفسهم تجنبا لمياه الأمطار الغزيرة. سار الركب وصعدت مجموعة أخرى من الأعراب وجلست قرب التوابيت دون أن تعلم شيئا عن المختبئين في داخلها. وبعد فترة من السير أخرج بعض الأعراب الراقدين أياديهم من التوابيت يلوحون فيها لكي يتأكدوا فيما إذا كان المطر قد توقف أم لا! فما كان من الأعراب الجالسين حول التوابيت ألا وألقوا بأنفسهم من سطح الباص خوفا من الأموات الذين عادوا إلى الحياة (اللي أتكسر تكسر واللي إنهزم إنهزم, بعد أكو رجال يبقه فوق سطح الباص؟)
ومن الزائرين بانتظام يوميا عند الغروب عبود البصوان (حارس ليلي) يكنى " أبو اصويدق " لأن أبنه اصويدق (صادق) بنفس عمري بدأ يشتغل صانعا في المعمل. كان أبو اصويدق يأتي كعادته قبل الغروب حيث يشتغل حارسا ليليا في شارع السوارية يتردد مع الآخرين على دائرة الشرطة لكي يجلب بندقيته القديمة من عهد العصمللي "الأتراك" فيصاحب زملاؤه الآخرين وكأنهم في مظاهرة صاخبة يذهب بعدها كل إلى دربه. أبو اصويدق قد تخطى سن الأربعين يلبس دشداشه مع العقال واليشماغ حافي القدمين (أروح كما يقول), ويترنح في مشيته ذات اليمين وذات الشمال ويُسمع له فحيحا كفحيح الأفاعي حينما يسير, يقذف الزفير من منخريه مع صعوبة التنفس (فحطان) وأسنانه بارزة من فمه ولكنه سباحا جيدا لذلك جعله والدي الأستاذ الخاص لتعليمي السباحة أيام الصيف. هناك الكثير من الناس على اختلاف مراكزهم ووظائفهم وطوائفهم يدخلون ويخرجون من المعمل للزيارة والترفيه أو لقضاء حاجاتهم واستفساراتهم أو طلب الإرشاد والنصيحة والمساعدة الممكنة.
كما قلنا ففي المدخل على جهة اليسار تقع غرفة الإدارة, وعلى جهة اليمين قسم السباكة بأشراف أوسطه عمران التكمجي الذي كان يعرج في مشيته ومساعده أوسطه جميل ألتكمجي الأعور الذي كانت إحدى عينيه زجاجة ثابتة تشبه العين, وأحيانا يتردد أوسطه هوبي التكمجي للنقاش والمساعدة وعيونه كانت توحي بإصابتها بمرض التراخوما. كان له دكانا خاصا للسباكة يقتات عليه يقع في سوق الدجاج, كانت الرمال في قسم السباكة تغطي مكانا كبيرا لأنها مهمة في صنع القوالب المطلوبة لسبك ما يراد لتصليح العطب الحاصل في المكائن. وهناك منفاخ يدار بالقايش الذي يدار مع القوايش الأخرى بواسطة ماكينة ألتانجي حيث يساعد على إدامة النار لصهر المعادن المطلوبة في السباكة. وبعد هذا المدخل ينتصب كوز الماء الكبير (حِبْ) له حنفية في أسفله ومغطى بغطاء من الخشب فوقه طاسة الماء المصنوعة من المعدن والملطخة بالدهن الأسود من كثرة استعمالها. وكوز الماء هذا ملك مشاع لكل العطاشى سواء العاملين في المعمل أو المارين في طريقهم لإطفاء ظمأهم. وبعد كوز الماء باتجاه اليسار تنتصب التورنة الوسطانية التي يديرها أوسطه جميل إبراهيم وبعدها بمسافة تأتي التورنة الكبيرة بأشراف أوسطه عاشور وأحيانا الوالد. وينتهي خط اليسار هذا بزاوية تظم المرحاض (بيت الراحة) ذو مساحة لا تتعدى الثلاثة أمتار تفتقر إلى الشبابيك والضياء, لهذا فالظلام دامس والروائح كريهة تكزم الأنوف. دخلت ذات مرة فيه فطمست في الغائط المنتشر. أما الزوار القادمين لاستعماله فعليهم أن بأخذوا بطل الماء الفارغ من المرحاض ويملؤه بالماء من حنفية قريبة من كوز الماء قبل دخولهم بيت الراحة. نعود إلى كوز الماء وباتجاه اليمين تنتصب الرنده الكبيرة وبعدها التورنه الصغيرة التي يتناوب عليها الوالد وأوسطه جميل التورنجي. أما في وسط المعمل فيوجد المزرف اليدوي والكوسره التي تدار بالقايش, وبعدها تأتي ماكينة ألتانجي والبلوكي,وينتهي المطاف بالتزكَاه وهو عبارة عن طاولة كبيرة تنتصب فيها عدد من الماسكات (منكَنات) حيث تمسك بالأشياء التي يراد بردها بالمبرد أو قصها بالمنشار. إضافة إلى ما ذكرنا هناك الكثير من السكراب والشفتات والمكائن القديمة والمهشمة والبوشات والبساتن القديمة منتشرة هنا وهناك وفي الغرف الأخرى الموجودة في الجوانب عند الحائط.
وفي نهاية صيف سنة 1939 (وكان عمري سبعة سنوات) صاحبت الوالد الى بغداد: لجلب الوالدة بعد ان عولجت في مستشفى المجيدية وشُفيت من قرحة المعدة وكانت قد أقامت عند بنت خالتها أم فيصل وزوجها عبد الكريم البياع وعائلتهم الكثار الساكنين في باب الشيخ. نزلنا عند بيت الخالة أم فيصل لكن والدي انتقل إلى فندق بين النهرين الواقع في الشارع المؤدي إلى جسر العتيق (الشهداء لأحقا). كنت ملأزما للوالد في أكثر أوقاته ومقابلاته مع أصدقائه فاسمع الأخبار والتعليقات والحكم والنصائح. كانت ذكريات سعيدة جدا في طفولتي أعتز بها, زرنا معمل الهنود الذي أشتغل فيه في بداية القرن العشرين في المصبغة, كما صاحبته إلى معمل آخر يقع في طريق الجعيفر- الكاظمين بين البساتين المنتشرة آنذاك, فأخذنا الكَاريات التي تجرها الخيول,

كما أخذني إلى أكثر المقاهي البغدادية القديمة,: مقهى الخفافين في مدخل سوق السراي قريبة من دكاكين الخبازين الذين يصنعون الكاهي اللذيذ, ولها شبابيك كبيرة مع ثضبانها التي تشبه السجن, مُرّة استغربت كيف يشربها الناس.
كان صديقه الحميم أوسطه إبراهيم بربوتي فرحا جدا لقدومه فكنا نزوره كثيرا جلسنا ذات مرة في مقهى المربعة المقابلة إلى سينما ألزوراء وحينما رأى أوسطه إبراهيم فيلما هنديا تعرضه هذه السينما دعانا وأصر على الوالد الذي امتنع في بادئ الأمر خاصة انه لم يذهب طيلة حياته إلى السينما التي اعتبرها من بدع الغرب. إمتثل بعد الإلحاح. كان الفيلم الهندي مضحكا مع ضرب البوكسات والدفرات والكر والفر. أعجبنا الفيلم كثيرا خاصة والوالد يفهم الهندية ويترجم لنا أحيانا ما يقولوه وهو يضحك من تصرفاتهم وأقوالهم. هذا وقد دعانا أوسطه إبراهيم ذات مساء للعشاء وركوب عربانة الربل ذات الحصانين فانسابت بصوتها وصهيلها إلى مناطق أبى نؤاس والكرادة بينما حل البدر كاملا والجو أروع ما كان.
ذهبنا ذات يوم إلى مقهى البيروتي التى تقع على شاطئ دجلة من جهة الكرخ وهناك التقى بأصدقائه القدامى الكثار فكان السلام والكلام والحديث عن الماضي والحاضر, كما زار بعض المحلات لشراء الشفتات والأدوات الأخرى التي يحتاجها في عمله فأرسلوها إلى العمارة عن طريق النهر في إحدى المراكب النهرية, كما زرنا محلات السباكة الواسعة في العباخانه والعائدة الى صديقه أُسطه نافع وأبنه أوسطه توفيق, والتي كان ينتصب فيها عمود التلغراف الطويل المشهور. تجولنا في التكماخانه (محل السباكة) حيث أطلع الوالد على سير العمل وقوالب الرمل للبوشات والبساتن. وفي الليل كنت أصاحبه أيضا, ومرة جلسنا في مقهى بالصالحية قريبة جدا من تمثال الملك فيصل الأول فأكلنا الكباب اللذيذ, كما سمعت لأول مرة بوجود بيض غنم فسالت الوالد مستغربا: " كيف يجوز للغنم في بغداد أن تبيض والذي أعرفه أنا فأن الغنم لا تبيض كالدجاج؟ ".ضحك الجميع وشرحوا لي الأمر وقالوا إن المقصود هو خصيان الغنم وليس البيض العائد الى الدجاج. تكلم أصدقاؤه كثيرا عن ذكرياتهم السالفة وهم يرددون كلمة عجيب...غجيب إستحسانا, وعن زمن العصمللًي وناظم باشا ونامق باشا الوالي التركي الذي وصل بغداد سنة 1899 وعن بغلة الوالي المشهورة المربوطة خارج داره, فلم تكن السيارات معروفة آنذاك. والدار هذه مازالت قائمة إلى يومنا هذا في شارع الرشيد قريبا من ساحة الوثبة وقد تحول طابقها الأرضي المطل علىا شارع الرشيد الى محلات لصبغ الأحذية. وبغلة الوالي هذه لها قصة ظريفة معروفة. قيل أنها ماتت في ذات يوم فشيعتها جموع البغداديين الأشاوس جاؤا من كل حدب وصوب. حملوها إلى مثواها الأخير مترحمين عليها داعين الله أن يرحمها ويدخلها جناته, وبعد مدة انتقل الوالي نفسه إلى رحمة الله فلم يشيعه أحدا. صاحبت الوالد إلى الكاظمين فذهبنا إلى حمام ملاصق إلى مدخل الصحن من الجهة المقابلة إلى مدخل الباب الصفوي فسبحنا في حوض كبير عميق أشبه بحوض السباحة ففرحت لذالك كثيرا ثم قمنا بزيارة مرقد الإمامين الكاظمين عليهما السلام.
جاء وقت السفر والعودة إلى مدينتنا "العمارة". لم تكن أمي ترغب العودة بالسيارة لأنها تستفرغ (اتزوع) كثيرا أثناء السفر ولأنها مازالت تأخذ الدواء بعد علاجها من قرحة المعدة. قام الوالد باستئجار غرفة (قمارة) في مركب "الشيخ" الكبير العائد إلى بيت حنا الشيخ في العمارة, ينتقل بين العمارة وبغداد لنقل البضائع والمسافرين. كان القبطان نوشي من أهالي العمارة صديق حميم للوالد وأولاده جبار صديق الأخ حامد وأخوه ستار.
سفرة نهرية لا أنساها في نهاية صيف 1939:
أخذنا الباخرة (مركب الشيخ) من بغداد-الشريعة, وعلى ما أتذكر تقع قريبا من محلة المربعة التي ترسو فيها الزوارق والسفن, وقد ودعنا الأقارب والأحباب وعلى رأسهم الخالة أم فيصل والعائلة كذاك أوسطه إبراهيم بربوتي الذي أراد أن يطمئن على راحتنا ومكاننا في المركب الكبير الذي سار في انحدار النهر بين الدموع والتلويحات والدعاء بسلامة الوصول. (وهي ذكرى لأ أنساها لأمجال لذكرها ).
إنتقال المعمل الى شارع السوارية صيف عام 1940- انظر الخارطة أعلأه (وهي قصة طويلة لأ مجال لذكرها لكني ذكرتها مع أحداث كثار في كتابي الذي أرجو طباعته)
ألمعمل الجديد في شارع السوارية: بنى الوالد فيه ثلاثة غرف عند مدخله, اثنان على :اليمين استعملت إحداها للإدارة (ألأوفيز) واحتوت قنفات بيتنا القديمة مع الساعة القديمة المعلقة على الحائط التي اشتراها الوالد في بداية القرن العشرين. أما الغرفة الثانية على اليمين فقد استعملت مخزنا إلى الأدوات الميكانيكية واحتياجاتها من البوريات والشفتات…..الخ. أما باقي المعمل فكان توزيع التورنات والمحتويات ألأخرى أشبه بالقديمة في شارع بغداد مع بعض التعديلأت.
يبدأ العمل صباحا عند شروق الشمس وينتهي عند الغروب, وكان مشهدا لافتا للنظر حينما ينتهي العمل, يخرج الوالد يحيطه العمال الكبار والصغار يسيرون مسافة في شارع السوارية, يتفرقون بعدها بالتدريج كل يذهب إلى بيته ونخن الأطفال نلعب في الشارع قرب بيتنا مقابل

  

جامع الحاج سالم وما أن نرى الموكب المتبقي مع الوالد قد اقترب من نهايته, نركض مرحبين ومحيطين به نمسك يديه ونصاحبه إلى داخل البيت فيقوم بنزع ملابس العمل ويغتسل ثم يرتاح وبعدها يذهب للصلاة في جامع بيت أبي القاسم حيث كنت أصاحبه أيام الصيف فنذهب أولا إلى المقهى الكبيرة عند مدخل السوق الكبير من جهة الشط. كنا نسلك شارع بغداد ثم شارع المعارف وبعدها ندخل السوق الذي ينتهي بالمقهى. وأحيانا نأخذ طريق شارع بغداد إلى نهايته ثم ندور يسارا بمحاذاة نهر جلة وننتهي عند المقهى الكبيرة. كان يصادفنا في الطريق على الجانب الآخر بعض الحانات التي تبيع الخمر, وقد حذرني مرارا من أضرارها قائلا :
" الله جل جلاله حرم الخمر لأنه مضر للصحة, وليشرب يروح للنار عليه لعنة الله وبئس المصير" , وبالمناسبة وفي إحدى المرات التقينا بوالد صديقي في المدرسة الابتدائية, فأدار الوالد وجهه وتجنب السلام عليه فاستغربت كثيرا وسألته عن السبب فأجاب:
" هذه شوفت وجهه حرام, الله يذبه بالنار لأنه يأخذ فايز اللي الله حرمه." ثم استغفر الله وردد بعض الأدعية والآيات القرآنية المتعلقة بالربى.
كانت المقهى هذه ملاذا إلى أكثر الناس على طبقاتهم. ففي الصيف وعندما تميل الشمس باتجاه الغروب, تجد القنفات والكراسي منتشرة قرب النهر مع ستائر مرفوعة لتصد أشعة الشمس, بينما يتجول العاملون وهم يرشون الماء على الأرض لتلطيف الجو الحار ولتوزيع الشاي. كان الوالد يعطيني عانه (أربعة فلوس) أذهب بها لشراء شربت زبيب لذيذ من صديق يعرفه مقيما في طرف المقهى من الجانب الآخر وهو محاط بالأواني المملؤة بالشربت مع الأقداح الزجاجية المتعددة. وما أن تغيب الشمس, نأخذ طريقنا إلى الجامع حيث الصلاة والدعاء فأقف بجانبه مصليا خاشعا وداعيا الله ورحمته. أما في ليلة العيد المبارك فكان يذهب لوحده إلى بيت عبد الغفار الأنصاري المرجع الديني في المدينة للتأكد من رؤية الهلال, فكنا ننتظره بفارغ الصبر لمعرفة حلول العيد أو عدمه.
كانت الحرب العالمية الثانية في إتساع سريع, وانتصارات المحور وهتلر قد طغت على كل الأخبار والناس أكثرهم إن لم يكن كلهم إنحازوا عاطفيا إلى جانب هتلر وأسموه "هترل" تيمنا بالمثل القائل: "عدو عدوى هو صديقي". كنا نكره الإنكليز المحتلين لبلادنا كرها شديدا, لأن جيوشهم الغازية تعسكر في الحبانية و (ألشعيبة) بالبصرة, وقد أطلق اليهود لقب "أبو ناجي "على الإنكليز المحتلين.
ثورة رشيد عالي الكَيلاني سنة 1941: (شرحت ذلك بالتفصيل في كتابي) أذكر بعضها:
قامت الطائرات الإنكليزية المعادية بقصف مقر الجيش في صوب الشبانة قُتل بعض الجنود وأتوا بهم إلى مستشفى العمارة القريب من بيتنا فشاهدت أنا "الطفل" الأيادي والأرجل المقطوعة والجثث المشوهة من جراء القصف الإجرامي. كان بعض الناس قد تركوا بيوتهم أثناء القصف إلى البساتين البعيدة عن المدينة للاختباء بها, ومنهم من احتمى في المقبرة الإنكليزية في العمارة آملين ألا ينالهم سوء, لكن والدي رفض ذاك رفضا قاطعا ومازلت أتذكر أقواله خلال القصف الشديد حينما طلب منا جميعا ان نقف تحت مداخل الغرف التي سقفها أقوى من الأماكن الأخرى, وقال:
" أشرف إلنه انموت في بيتنا من أن ننهزم ونترك بيوتنا, والأمور بيد الله والمقدر إيصير" ,في وقت ردد فيه الأدعية والآيات القرآنية وشكر الله.
كان بعض الناس يقفون خارج بيوتهم في شارع السوارية للتفرج على قصف الطائرات غير خائفين, منهم جيراننا عبد اللطيف العاني والد صديق طفولتي أحمد, وكذاك عباس أفندي الذي أشتغل مضمدا بالمستشفى لكنه ترك عمله هذا وافتتح دكان البقالة المقابل إلى جامع الحاج سالم. والمذكور كان يملك بندقية قديمة من زمن العصمللي, وما أن تظهر الطائرات المعادية, ينبطح على بطنه في وسط الشارع موجها بندقيته القديمة صوب الطائرات بين ضحك المتفرجين وتعليقاتهم بالقول: " يابه عباس أفندي هاي تفكَتك متوصل للطيارة شوفلك غير شغله" في الوقت الذي كان الوالد و عبد اللطيف العاني يستأنسون التعليق والضحك. ورغم كرهنا جميعا إلى جرجل وألإنكليز إلا أن الوالد إعتقد أن سياسة جرجل (ألذي كان يسميه أبو الويو- إبن أواى) كان فيها من الدهاء الكبير وقد تنبأ في وقت مبكر جدا من أنه سيورط أمريكا في الحرب, التي كانت في بدايتها, على الحياد,
كان الوالد خلال فترة ثورة مايس ساكتا صامتا لا ينبس ببنت شفة وقد عبر عن رأيه لاحقا في أن هذه الحركة جاءت في فترة إختارها الإنكليز فكانت خطأ فادحا آنذاك وهو القول الذي يتفق مع رأي موسى الشابندر في كتابه "ذكريات بغدادية". كان رأي الوالد سليما خاليا من العواطف الجياشة المهلكة للبلد وتطوره آنذاك, لكنه بنفس الوقت غيورا ومحبا للعراق يدعو الله في صلواته أن ينجيه من المحن والمصائب وشرور الحروب وأهوالها. وفي الفترة التي سبقت ثورة مايس وحتى نهايتها الفاشلة تبرع بدون أي مقابل بتصليح المكائن والرشاشات القديمة المعطوبة عند الجيش, وما زلت أتذكر مرة أن قام أوسطه جميل إبراهيم التورنجي في المعمل بتصليح رشاش كبير قبل قيام ثورة مايس بأيام وأراد أن يجربه فذهب معه بعض من أفراد الجيش محاطا بعدد كبير من الناس والأطفال وأنا منهم إلى شاطئ نهر الكحلاء القريب من ماكينة الثلج العائدة إلى بيت أبي القاسم حيث قاموا بتجربته فنجحت بين أصوات الهلاهل من النساء والهتافات الوطنية من جموع الناس التي احتشدت عند النهر .
سيطر الأنكليز على مقاليد البلأد وكان لجيشهم مقرا ًقرب بستان جاني في العمارة, ولم يكتفوا بذاك بل كانوا يتجولون أحيانا في الأسواق والمحلات للإرهاب واستعراض العضلات والإيحاء باهتمامهم لأوضاع الناس. وذات مرة داسوا (فتشوا) معمل الوالد ووضعوا حراسة مشددة عليه من قبل الشرطة بأمر منهم بحجة التفتيش عن معدن (ألوايت متل) المفقود في معسكراتهم في الشعيبه في البصرة فلم يعثروا على شيء وكان القصد هو الإرهاب وإظهار سلطتهم وجبروتهم. وفي مرة أخرى جاؤا إلى معمل الوالد للإطلاع على مستوى العمل والصناعة فيها, أتذكر ذاك جيدا أنهم جاؤا ,بحدود العشرة ومعهم مترجم, وأكثرهم يلبس الملابس العسكرية وقد سلموا على الوالد لكنه لم يصافحهم أبدا والقوا الأسئلة المتعددة عن طريقة العمل والمكائن التي يقوم الوالد بتصليحها, والظاهر أن لويس برجوني صديق الوالد أعطاهم صورة واضحة عن مستوى العمل وعن مكانة الوالد العلمية وقدرته في تصليح المكائن وتشغيلها رغم الإمكانيات المحدودة في تلك الأيام, فأخذوا انطباعا حسنا وأخبروا الوالد بأنهم سيعترفون بالشهادات التي يكتبها إلى العمال الذين يريدون الاشتغال والالتحاق في مراكز العمل الصناعية سواء كان ذاك في العمارة أو في البصرة. وبقيت تلك الشهادات التي أصدرها الوالد معترفا بها في كافة الشركات الأجنبية والعراقية والنقابات العمالية لاحقا فاعتُبرت من الأعمال والخبرات الهندسية.
إزدهرت الأحوال الاقتصادية موقتا في فترة الحرب, ومنها العمل في التورنه فكان الوالد يشتغل طيلة أيام الأسبوع دون انقطاع وكذاك ليلا خلال الصيف, وتقاضى العمال اجورا إضافية فتحسن مستوى معيشتهم.
السبايات في شهر محرم:
كنت في الرابعة عشر من عمري آنذاك, وبأغراء الأصدقاء ومنهم صديق طفولتي أحمد العاني قررنا ذات ليلة الإنظمام إلى ركب السبايا مع اللطم على الصدر والقفز في الهواء وترديد الألحان. وحينما سمع الوالد بذاك أنّبني كثيرا على ذالك وقال:
"الحسين عليه السلام ميرضه على هذه الأعمال من اللطم والأذية, لكن لو بيكم خير اتعظوا بالمغزى اللي جعله يفدي نفسه. جوز من هذا اللطم وبالك وياك أن تعيده ". الجدير بالذكر أن الوالد لم يلطم أو يبكي أبدا في حياته. صاحبته مرة وأنا الطفل إلى "ألقراية" فجلست إلى جنبه في جامع أبي القاسم, وحينما وصف الشيخ اليعقوبي مأساة ألطف وأهوالها تعالى البكاء واللطم على الجباه فشاهدت لأول مرة في حياتي نزول دمعتين من عين الوالد جففها بيديه لاحقا, وقد عبر بها عن حزنه العميق بعيدا عن اللطم والتهريج والتمثيل والنفاق والدعايات والقفز في الهواء.
تحسن في الأوضاع السياسية سنة 1946:
أُجيزت بعض الأحزاب في سنة 1946 وسُمح للناس في التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم وتشكيل النقابات والمطالبة بتحسين أوضاع العمال. ما زلت أتذكر مجيء مجموعة من المسؤولين الحكوميين إلى معمل الوالد الذي رحب بهم واستجاب لنقاشهم ومطالبهم فصار لكل عامل دفترا خاصا فيه كل المعلومات والإرشادات المطلوبة عن عدد ساعات العمل واجورها. تجاوب كليا مع هذه التطورات رغم أن معمله كان صغيرا مع عدد محدود من العمال وليس من المعامل العملاقة في ذاك الوقت.
من أقوال الوالد:
كان الوالد يشجعنا كثيرا على طلب العلم والمعرفة. إعتقد جازما أنه الحل الصحيح لتقدم البلد ورفاهيته وسببا لنعيش نحن حياة أفضل ملؤها السعادة والخير. ومن أقواله:
-- "الدنيه متسوه, مابيها راحه او أمان". ولا يبقه إلا وجه الله الكريم"..وكل نفس ذائقة الموت والأنسان لازم يعتمد على الله وعلى نفسه ويخدم مرؤسيه لأنه بعمله هذا يخدم مصلحته وعليه أن يواصل دراسته وتحصيله ".
-- "بوية انتوصيروا باضراعكم ولا تخافون إذا توكلتم على الله وطلبتم رحمته".
-- " ليعيش بالحيلة يموت بالفكَر".
-- "لتخاف من تفشل بعملك, المهم أن اتصلح خطأك ولا تعيده".
-- "كل من لا يتقن عمله بدقة أما أنه غبي أو سُفلي (يعني ساقطا لا يخلص في عمله)".
-- "واحد ملازم يترك إرث إلى أولاده, لأن هُمّه لو بيهم خير يجلبون الأموال بعرق جبينهم وبضراعهم, وإذا كان ما بيهم خير فانهم سيبددون كل الأموال التي يرثوها عن آبائهم".
-- "الإنكَليز ميطلعون بالهوسات وكلمات يسقط ويعيش, لكن اتعلموا لسانهم وعلمهم اوكونو عله فرد كَلب متوحدين, إتشوفون بعد ميكَدرون يبقون".
-- الدين شي بينك اوبين ربك, ولا إكراه في الدين ولكم دينكم ولي ديني.
-- هذوله الصُبّه (ألصابئة وعذرا لم تكن كلمة المندائين متداولة أنذاك) خوش ناس, فُقره ميعتدون عله أحّد. مخلصين ابعملهم. ألله ذِكرهم بالقرآن ونبيهم يحي!"
-- لم يكن يفرض أية فكرة علينا أبدا لكنه شجعنا على اختيار الطريق الصحيح بمواصلة الدرس والمثابرة, نحن جميعا مدينون له بالعرفان لتوجيهاته الصحيحة المبنية على العلم والجهد والمثابرة, ولكفاحه الشاق المتواصل في عمله من أجل توفير المصاريف المطلوبة لذاك ولكي نحظى بمستقبل أفضل في هذه الحياة القاسية الصعبة التي شهدتها تلك الفترة من تاريخ بلادنا الحبيبة.
وثبة كانون المجيدة سنة 1948: وفي هذا الوقت الحرج من تاريخ القضية الفلسطينية وبخطة مدروسة مبيتة طرحوا مشكلة تجديد المعاهدة الجائرة لإلهاء الناس والقوى الوطنية فعمّت المظاهرات الوطنية واشتدت في كل مكان إحتجاجا على المعاهدة الجائرة فسميت "وثبة كانون", أدت فيما بعد إلى سقوط وزارة صالح جبر يوم 27 كانون الثاني 1948 ومجيء سماحة الصدر لتهدئة الأوضاع وتطويقها فانتشرت المقولة الشهيرة "ردناك عون طلعت فرعون يابو لحية النايلون ".
لم يكلمني الوالد أو يناقشني حينها ولكن بعد الوثبة وبينما كنت جالسا مع ابن العم أُسطه جاسم في غرفة الإدارة دخل على غير عادته مكفهرا منزعجا وقال لي:
" آني جم مرة كَتلك لتحط نفسك أبها القضايا.. انتو والشيوعية شنوا؟ انتو لو بيكم خير ديرو بالكم على دروسكم وتعلموا او بعدين تكَدرون تخدمون البلد.. هاي الشغله بيه لَعبه انتم مافاهميها ". إشتد النقاش فبكيت وقلت له: آني ما عندي هيجي شي ولكن الكل يكرهون الإنكليز وميردون معاهدة جائرة إتذلنه وتمنع تقدمنه.. وهنا تدخل ابن العم أُسطه جاسم قائلا:
" حجي, محمد معليه بها الشغلات, بس هسه كل الناس والطلاب هم ضد المعاهدة ".
وهكذا في الوقت الذي تعالت فيه الهتافات بكلمات يسقط ويعيش والصهيونية عدوة العرب واليهود وفلسطين عربيه ولتسقط الصهيونيه, إستطاعت الصهيونية العالمية والدول الاستعمارية والخونة من خلق إسرائيل في قلب البلاد العربية, في الوقت الذي أدخلوا فيه الناس الثوار في المعتقلات والسجون, وأوقفوا زحف الجيش العراقي الباسل الذي قارب على مشارف تل أبيب, وقصة "ماكو أوامر" معروفة نطق بها القائد العراقي (عمر علي) الذي إستمر في القتال لكنهم سحبوه من جبهة القتال للمحاكمة بحجة أنه عصى الأوامر العسكرية الصادرة في بغداد.
بعد رجوع أخي محمود للعراق بعد تخرجه أخبرني الوالد برسائله وقال: حمدنا الله على سلامته وتخرجه, وقد تشبع بالعقلية الأوربية التي أراد تطبيقها على عمالنا فأعطيته كامل الحرية والتصرف. وبعد فترة أخذ العمال يشكون ويستغربون من تصرفاته حينما طلب منهم قائلا: " شيلو هذه اوحطو ذاك, او جيبو هذه او ودوا ذاك ", فقلت لهم: " خلّوه, هذه جاي بعقلية أوربية يتصور أنها تناسب الجو والعقلية العراقية. خلّوه هذه هسه هو يزهكَ ويشوف استحالة التنفيذْ ". وفعلا صدق تنبؤه لذاك, فقد يأس محمود من الإستمرار فترك المعمل واتجه إلى الوظيفة فتعين مهندسا سنة 1966 بشركة قصب السكر في المجر الكبير قريبا من العمارة, والذي تأسس بنفس السنة تحت إشراف الأمريكان الذين جاؤا ذات يوم إلى معمل الوالد في الوقت الذي كان فيه الأخ محمود مازال هو المسؤول عنه فأخبروه من أنهم زاروا جميع الورشات المحلية (ألتورنات) في العمارة فلم يتمكنوا من حل المشكلة العويصة التي اعترضتهم وعرضوها عليه لكي يساعدهم في حلها. لم يستطع الأخ محمود حلها. وحينما أوشكوا على مغادرة المعمل إستدرك قائلا:
"إنتظروا, صحيح أنّ والدي ليس مهندسا ولكني سأتصل به تلفونيا للبيت لأنه لا يقوى على المجيء لأصابته بوعكة طارئة ", فاتصل تلفونيا بالأخت رتبة التي كانت واسطة التحدث, وبعد السؤال والجواب إستطاع الوالد أن يعطيهم الحل الصحيح لهذه المشكلة.
الرسالة الأخيرة وإنتقال الوالد الى جوار ربه:
كانت مؤرخة بتاريخ 14/3/1971. عاد وكرر شكره ثانية على الكتاب الذي أرسلته إليه عن حياة الرسول (ص), ثم أعاد الكرة كالسابق فقال:
" وانتم الأخوان لازم تراسلون بعظكم في المكاتيب وتذكرون أخواتكم كل وقت ". لم يدر بخلدي أبدا أن هذه الرسالة التي كتبها وهو في كامل تفكيره ستكون الرسالة الأخيرة التي تصلني منه . وبعد شهر من تاريخها وتحديدا في يوم 17/4/1971 إنتقل الوالد إلى رحمة الله بعد إصابته في التهاب الرئة. فقد مرض في العمارة ونقلوه على عجل إلى البصرة عند الأخت منارس وزوجها أبو مهند الساكنين هناك. سأله الأخ حامد وهو في بداية مرضه : " اندز على محمد وأحمد يجون إيشوفوك ؟ " أجاب الوالد بعد تفكير عميق: "لا, محمد وأحمد بعيدين ومشغولين في مشاكلهم وظروفهم الحالية متسمح لا لتدزون عليهم! " ومن أقواله الأخيرة الموجهة للأخ محمود قبل وفاته: "حامد صار والدكتور محمد صار وانته صرت وأحمد إيصير. الحمد لله تعبي ما راح بوش, أحمد الله واشكره على هذه النعمة المباركة ".
تناوب الأهل جميعا في السهر عليه فساءت صحته ودخل في غيبوبة الموت إلى أن توفاه الأجل فنقل جثمانه الطاهر حسب وصيته إلى النجف الأشرف عن طريق العمارة, وما أن انتشر الخبر في المدينة إلا وكان الناس من مختلف الطبقات والفئات في انتظاره عند الجسر الجديد. أوقفوا السيارة وحملوا نعشه الطاهر وشيعوه تشيعا مهيبا يتقدمهم حميد طويسه الذي كان يكبر أمام الجنازة وساروا به شارع الشط ثم عرجوا إلى شارع بغداد حيث مروا على مكان التورنة القديم ثم دخلوا شارع السواريه فمروا على بيتينا القديمين ثم مروا على معمل التورنة الأخير ووصلوا شط الكحلاء فساروا في محاذاته فمروا أمام بيتنا الأخير, ثم جسر الكحلاء فعبروه باتجاه جسر المشرح فعبروه إلى منطقة الدبيسات حيث كانت السيارة الخاصة في الإنتظار أخذته إلى النجف الأشرف حيث دفن هناك قرب إخوانه وأهله. رحمك الله يا أبي وأسكنك فسيح جنانه وكل نفس ذائقة الموت وأنا لله وأنا أليه لراجعون ولا يبقى إلا وجهه الكريم.
أُقيمت الفاتحة على روحه الطاهرة في العمارة حضرها العديد من الفقراء والمعوزين الذين ساعدهم في السابق, كما حضرها الكثيرون من الطائفة المندائية (الصابئة) وقد بكوه بكاءً مرا حيث كان رحمه الله يعطف عليهم ويحترمهم ويحبهم ويعتبر الدين علاقة خاصة مابين الإنسان وخالقه. وقد احتفظ أكثر العاملين اللذين تخرجوا على يديه بصورته الكبيرة المعلقة في محلاتهم ليؤكدوا شكرهم واعترافهم بأنه صاحب الفضل في تعلمهم ولكي تبقى ذكراه عالقة في الأذهان.
بعض من مبتكراته وطرق عمله في التورنة
1-صنع في الخمسينيات ماكينة صغيرة بحجم ماكينة الخياطة, تشتغل بالنفط ويمكن إيقافها بعد وضع اليد عليها بقوة. كانت غايته إشباع هواية التفكير, وقد فُقدت بمرور الزمن.
2- في منتصف الأربعينيات ألغي مكان التنور في بيتنا وأستبدل المكان ببناء حمام صغير للعائلة, فقد كنا قبلها نذهب إلى حمام السوارية القريب من بيتنا. وقد ابتكر الوالد جهازا خاصا يقوم بتسخين الماء وأرضية الحمام بطريقة سريعة. ومازلت أتذكر الدوي الهادر مع الضغط والنار تخرج من فوهة هذا الجهاز إلى داخل الفراغ الموجود تحت أرضية الحمام لتسخينه والماء, وكانت كلفة الجهاز آنذاك هو خمسة دنانير (أنظر الرسم 1).
3-كان في مرات متعددة يقف ويشتغل على التو رنة الصغيرة, فيستعمل طريقته الخاصة لتثبيت قطعة الحديد في " العينة" العائدة إلى التورنة والتي فيها مماسك (تسمى لقم) تمسك قطعة الحديد لخراطتها. طريقته الخاصة هذه تتلخص بأن يضع "قوطية الجيكاير" المعدنية الفضية تحت قطعة الحديد فتساعد بأنعكاس الضوء. ويدير العينة بصورة بطيئة تعطي انعكاسات للضوء بصورة مختلفة, فيقوم بتحريك اللقم بصورة مضبوطة, تنتهي بإمساك قطعة الحديد في مكانها الصحيح. وقد سألت الأخ محمود بعد رجوعه من أسكتلنده عن هذه الطريقة فأجاب بأنه شاهد ما يماثلها هناك أثناء دراسته تسمى Rays Reflection Method” " وهي طريقة ناجحة وحديثة العهد.
4-كان يرسم خرائط البساتن والبوشات بنفسه, فيستعمل الفرجال (بركال ظهر وبركال بطن) مع المسطرة والقلم, فيلبس النظارات التي اشتراها من بغداد, لتدقيق الخرائط وكذاك يستعملها أثناء التدقيق لحالات عويصة مستعصية. يرسل هذه الخرائط إلى صديقه أوسطه نافع وابنه توفيق في بغداد لسباكة الأشياء المطلوبة وإرسالها إليه لخراطتها في معمله-التورنة.
5-كان اعتماده على الله كبيرا ليس له حدود وكذاك ثقته بالنفس, فيستمر الساعات الطوال بعمله دون ملل أو كلل, وأذكر مرة جاءه أوسطه ناجي المسؤول عن ماكينة بيت الجبير (بلاك استون) ومعه طرمبة النفط المعطوبة, فقرر الوالد إخراج كرة صغيرة (دعبله) معطوبة محصورة بمسمار (بيم) لايمكن معرفة نهايتيه لوجود التسنن. قام الوالد بالفحص الدقيق وقرر إخراجها وأبدالها بكرة جديدة. أخذ المطرقة والبنطة وأخذ يدق على البيم لأخراجه من مكانه وهو في كامل الثقة بالنفس, وهنا صاح ناجي: " إستادي هاي متصير, اتروح السنون تخرب". لم يجبه الوالد وتجاهله فسكت ناجي لأنه كان يكن الاحترام للوالد, ولكنه أعاد الكرة قائلا: " أستادي السنون راح تخرب", والوالد لا يجيب أو يعلق على كلامه. وبعد فترة استطاع الوالد أن يخرج الكرة المعطوبة ويبدلها بأخرى جديدة ويعيد المسمار (ألبيم) إلى مكانه الطبيعي, فخجل أوسطه ناجي ولاذ بالصمت (أنظر الرسم 2).

                    

6-إبتكر طريقة خاصة لخراطة "ألكرنكات" الكبيرة المتآكلة. تتم الخراطة بواسطة قاصة (كَاصوصة) أسطوانية الشكل,معدنية ذات قطعتين تحتوي سكاكين مثبتة (أقلام خراطة) في سلايدات موزعة في أربعة مناطق في دائرة الأسطوانة, يمكن تصغير المسافة أو تكبيرها (Adjustment) حسب الحاجة بواسطة براغي مثبتة بصورة منفردة لكل سكين (قلم خراطة) (أنظر الرسم 3).
7-إبتكر جهازين لتنعيم البساتن والبوشات Grinding )), فما يخص جهاز تنعيم البساتن الذي فيه حجر خاص فأنه يثبت في سلايد التورنة, الذي يقوم بتنعيم ألبستن الدائر حول محوره والمثبت بواسطة العينة والسنتر العائد إلى التورنة. أما جهاز تنعيم البوش فهو مثبت في محور مثبت طرف منه في العينة والطرف الآخر في سنتر التورنة, أما البوش فهو مثبت على سطح السلايد العائد الى التو رنة, وهكذا يدور المحور داخل البوش المثبت لتنعيمه.
8-قامت شركة نمساوية ببناء جسر على نهر دجلة في العمارة سنة 1956-1957 والذي مازال يسمى "الجسر الجديد", وقد اعترضتهم مشكلة في العمل أدت إلى توقفه, فاحتاروا في أمرهم. جاؤا إلى الوالد ومعهم مديرهم طويل القامة بعد أن سألوا عن أحسن ميكانيكي في المدينة. كانت مشكلتهم هي احتياجهم إلى " قلووز مع دايس " بقياس معين غير متوفر في العمارة أو عند الوالد. أقترح عليهم الوالد أن يجلبوا برغي بنفس القياس يستعملوه كقلووز, ونت (صمونه) يستعملوها كدايس, فحُلت المشكلة, وعلى أثرها عاد مديرهم الطويل وعرض على الوالد أن يكون مستشارهم في العمل براتب مغرى يقرره بنفسه, ولكنه رفض ذالك رفضا باتا.
بعض الأدوات والأشياء المستعملة في معمل التورنة: وهي كثيرة كالجاكوج (ألمطرقة) والسبانه والكثير الكثير الذي لأمجال لذكرها!! وكان العمال ينظفون أيديهم من الدهن الأسود بواسطة قطع من القماش البالية (خِرَكَْ), يذهب أحد العمال الصغار لشرائها من السوق, وهي عبارة عن بقايا ملابس قديمة أو لحفان متشققة أشبه بالنفايات.
وكانت هناك ثلاثة دفاتر سميكة كبيرة طولها حوالي الأربعين سنتمترا وعرضها 25 سم يحتفظ الوالد فيها دوما في الأوفيز. يحتوي الكتاب الأول كل قوائم الحسابات للمكائن التي قام بتصليحها بأسماء أصحابها فكان سجلا حافلا لهذه الأسماء التاريخية سواء كانت من الشيوخ أو الناس العادين. أما الكتاب الثاني فكان حافلا بخرائط البوشات والبساتن والمكائن الأخرى التي رسمها بنفسه. والكتاب الأخير كان يحتوي رسوما لحالات خاصة مع التعليقات. وقد صُدِمْتُ كثيرا وتألمت حينما سمعت بأنها فُقدت, وحينما سألت الأخ محمود عنها أنكر وجودها وقال إنها موجودة عند الأخت رتبة التي أنكرت ذالك بإصرار وأقسمت بأنها موجودة عند الأخ محمود الذي كان ناظرا وقساما شرعيا في الوصية التي تركها الوالد, وهكذا بين حانه اومانه ضاعت لي عانه والله هو المعين وبه نستعين وإنا إليه لراجعون.
متحف سويدي: نسخة طبقا للأصل لمعمل والدي:
تمر الأيام والسنون. تركت بلادي الحبيبة في شهر آب سنة 1959 متوجها الى السويد, فاستقريت وما زلت أعيش مع عائلتي. زرت في يوم 29 آب 2004 متحفا وطنيا في أواسط جنوب السويد تحيطه الغابات الكثيفة من كل الجهات فاغرورقت عيني في الدموع وأنا أتجول فيه وافتقدت الوالد كثيرا وتمنيت من الأعماق لو أنه كان معنا في تلك اللحظات ليشاهد بنفسه نسخة طبق الأصل لمعمله الذي أسسه في بداية القرن الماضي. تألمت كثيرا وأنا أسترجع الذكريات وتمنيت لو أننا احتفظنا بمعمل الوالد وجعلناه متحفا نادرا يذكر الأجيال القادمة بهذا التراث والكنز الثمين, ولكن المثل العراقي يقول: عرب وين اوطمبوره وين.
نظرا للتشابه الكبير بين معمل الوالد وتأسيسه وبين هذا المعمل الذي تحول الى متحف وطني, أُقدم ملخصا له مع بعض التصاوير لمحتوياته وكأنها تعود الى معمل الوالد.
شركة أبا مولا للسباكة والخراطة: ( تأسست سنة 1886 وتحولت الى متحف وطني سنة 1966 بعد أن تناقلتها أربعة أجيال من نفس العائلة):
ولد المؤسس السويدي أكَوست بنكتسون ساندبرغ سنة 1844 وتوفي سنة 1900. بدأ حياته في السويد سباكا متنقلا بين محلات السباكة طلبا للعيش. تزوج سنة 1868 بالفتاة يوهانا يوهانسين دوتر التي وُلدت سنة 1843 وتوفيت سنة 1930. كانت ذو شخصية قوية, أنجبت له أربعة أولاد: مانه, مالك, آكَوست ارثمان وكاري, وبنتان: يني وستينا وكلهم شاركوا في إدارة المعمل والشركة.
في يوم 26 آب 1870 هاجر الزوجان مع طفليهما مانه ويني الى أمريكا فأخذوا الباخرة من ميناء كوثمبرك. وعادوا الى السويد ستة 1879 بعد حصولهم على الخبرة والمال الكافي لتأسيس

   

المعمل (تماما كما فعل الوالد أعلأه). كانت بداية التأسيس سنة 1886 متواضعة ومقتصرة على السباكة والمعمل الصغيرالذي كان يدار بطاحونة مائية وينتج الأفران و الأدوات المنزلية والزراعية. تطور الإنتاج وتوسّع المعمل بصورة مطردة وسريعة فأخذ ينتج المكائن البخارية ومكائن القطارات والجسور والدراجات والتوربينات والحاجات الأخرى. تكاثر عدد التورنات


    

بمرور الوقت فأصبحت ثمانية ذات أحجام متعددة, والتي كانت نسخة طبق الأصل لتورنات الوالد التي كان عددها ثلاثة مع الرنده والكوسره والمزرف والسندان أحدهما كبير والآخر صغير مع الأشياء الأخرى (أنظر خريطة المعمل). أما مساحة المعمل التي فيها التورنات فكانت بحجم مساحة معمل الوالد. كان عدد العمال العاملين يتراوح بين 25-30 عاملا.

  
  

بدأت رياح التغير والتطور تهب بسرعة أثناء فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي بظهور الآلات الحديثة السريعة فأصبح عالم التورنات لا يواكب هذا التطور السريع والمنافسة, كما أن مطالبة العمال بتحسين أحوالهم ومعاشهم بدأت تخلق المشاكل, لكن المهندس آكَوست آرثمان أصر على الاستمرار في العمل بنفس العقلية السابقة دون أن يسمح لأقاربه بأن ينازعوا مركزه واستمر في عمله الى أن تخطى سن الخامسة والثمانين ومعه أخوه كَاري في السادسة والسبعين من عمره. توفي المهندس آكَوست سنة 1962 وأخوه كاري سنة 1966 وقد ترك المهندس آكَوست وصية أوصى بها بأن يقتطعوا مبلغ 200,000 كرونر لجعله مصدرا لمساعدة الطلاب الراغبين في الدراسة بهذا الحقل وكذالك للعناية بقبور العائلة الى يوم الدين.

  
   

أُغلقت الشركة سنة 1966 رغم بعض الأعمال البسيطة التي استمرت خلال السبعينيات. وفي سنة 1993 بيع كل شيء عدا بيت العمال (ألكاسيرن) الى أندرس وزوجته أنّه كارين راندفر الذين أصبحا المالكين والمديرين الى هذا المتحف الرائع الذي يؤمه الزوار وتسانده الحكومة السويدية برئيس وزرائها يوران برسون الذي زار المتحف وباركه.
    

                   مع زوجتي داخل المعمل

وهكذا في الوقت الذي يحتفظ فيه الغربيون ويعتزون بروادهم ومآثرهم وذكراهم نقوم نحن العراقيون بطمس كل معالمهم وإبداعاتهم وذكراهم ونشغل أنفسنا بعقلية: فات اوماسلم عليه, اطلع بالدرب او أعلمك! والله سوف لا تقوم لنا أية قائمة أو مستقبل إذا لم نغير أنفسنا وطريقة تفكيرنا باحترام العلم وليس الشعر والهوسات والنواح فقط. علينا تشجيع العلماء في كل فروعهم واحترام الرأئ الأخر بالحوار والمحبة والتفاهم والعفو عند المقدرة وعدم إلغاء الآخر, لما هو في مصلحة الوطن دون القتل والإنتقام وفرض الرأي بالإكراه صالحا أو طالحا.
كم أتمنى لو أن الله يطيل عمري ويساعدني على تتبع مكان التورنات بعد بيعها واسترجاعها الى مكانها الأصلية في شارع السوارية وجعلها متحفا وطنيا نفتخر به ونُذكّر الأجيال القادمة بعظمائنا الذين كافحوا رغم الظلام والتحديات والتخلف. وعسى أن تتحقق هذه الأمنية في المستقبل وقل إعملوا فسيرى الله أعمالكم!!

الخاتمة:
من طرفي كراصد وكطبيب ممارس, أجزم من خلال تحليلي لشخصيته العصامية أن ذكائه الشديد كان قد سبق زمانه بمراحل عديدة من حيث التفكير والطموحات والإنجازات التي أعطته المكان اللائق كأحد رواد الصناعة الأوائل المتفوقين في بلدنا العزيز, الذين أرسو المعالم ووضعوا الأسس الأولى للصناعة في العراق في فترة عصيبة وصعبة من تاريخه آنذاك. فقد شاء القدر أن تكون ولادته بعصر شاع فيه الفقر والجهل والأمية والبدع والخرافات والدجل في نهاية حكم الأتراك الذي وصفه المؤرخون "بالرجل المريض" عندما أطبقوا بظلامهم الدامس على مدن العراق من شماله وإلى جنوبه. ومع شدة هذه المحنة وبلاؤها الجارف كان يؤمن بأن العلم هو الوسيلة الوحيدة للخلاص, أرسلنا نحن (الأولاد والبنات) إلى المدارس لنتحصن بالعلم والمعرفة إيمانا منه بأنها تشكل طوق النجاة للمستقبل. كان رحمه الله شديد الذكاء, هادئ الطبع, محبوب المعشر, دبلوماسي التصرف, لم ينطق بكلمة فاحشة طيلة حياته, قوى الأيمان, صائما مصليا مزكيا, رحيما بالفقراء والمحتاجين, متصدقا بالسر والعلن. حج بيت الله الحرام مرتين, وزار مراقد الأئمة الأطهار والأولياء الصالحين عدة مرات. كان يكره الظلم وصاحبه, والعنف ومسببه, ويرى في الحروب دمارا للبشر, إحترم الرأي الآخر وأخذ به حينما ثبت صحته, لم يفرض على الآخرين رأيا بالإكراه, ولا إكراه في الدين, لهذا أحبته الفئات التي هي من غير دينه أو عقيدته. عمل سبعة أيام في الأسبوع دون كلل أو ملل ليكون نموذجا في الكفاح والجهاد ويأخذ الآخرون منه درسا قيما في معنى الحياة. إنتقل إلى رحمة الله بعد أن تخطى سن التسعين وهو في كامل قواه العقلية. رحمك الله يا أبى وأسكنك فسيح جنانه, وكل نفس ذائقة الموت وأنا لله وأنا إليه لراجعون .

  

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1196 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع