إيران في تأرجحها وتمرجحها بين الشرق والغرب

                                      

                      د. ضرغام الدباغ *

أرسل لي هو صديق وزميل في آن واحد، مقالة تبحث في العلاقات الإيرانية / الغربية ـ الشرقية وتأرجح مصالحها اليوم بين تحالفها التاريخي مع الغرب وصياغة مصالح جديدة تضمن لها قدراً أكبر من المصالح مع كتلة تتشكل في الشرق بقيادة الصين / روسيا.

وإيران اليوم تتدخل في أكثر من ساحة عربية، وهو دور مرسوم لها ويسمح لها بأن تجيش الجيوش لدول بعيدة عنها (إلى سوريا)وتؤسس الميليشيات وأن تغتال من الشخصيات من يقف عثرة في طريقها (في لبنان)، وتحرض على إسقاط الشرعية عير مليشيلتها (في اليمن)، تفعل كل ذلك وفق قاعدة : من أمن العقاب أساء الأدب، ومن يتحرك مجازاً، يتحرك خفافاً غير خائف، لا من دركي تفاهم معه في أمره، ولا من قانون أمن شره.   

من أجل فهم دقائق هذه العلاقة التاريخية المرتبطة بمصالح ليس من اليسير تفكيكها وإعادة صياغتها، لابد لنا أن نذكر، أن الصفويون تحولوا إلى التشيع عام 1501 وأرغموا معظم الشعوب الإيرانية على التشيع، لكي يقطعوا كل صلة مع دولة الخلاقة العثمانية الشرعية وكانت عماد سياستهم الخارجية التوسع في البلاد الإسلامية ومناكفة دولة الخلافة العثمانية، أي أن الواجهة الدينية هي في الواقع واجهة سياسية .

ونتيجة فشلها في التصدي للعثمانيين، تحول مبدأ الاستعانة بالغرب إلى قاعدة سياسية لهم، وفي الشرق التعاون والتنسيق مع روسيا القيصرية. وأضحت منذاك إلى فقرة أساسية في السياسة الخارجية الإيرانية بصرف النظر عمن بحكم إيران. فالعقل السياسي الفارسي يتملكه رهاب وجود أمتان عظيمتان على خاصرتها هما العرب والأتراك، ولهاتين الأمتين لغة وتقاليد حكم وسياسة وثقافة متميزة، ويمثل الأتراك جناحاً مهماً من الوجود الإسلامي، لذلك يجد الفرس أنفسهم (بديهياً) ملتحقين عضوياً في أي مشروع يضعف العرب والترك ويضعون أنفسهم في سياقاته ومساراته، ولربما ينالون بعض من مكتسبات هذه السياسة التي ليسوا هم من يتحكم بمساراتها، لذلك أكتسب هذا المنهج صفة العمل كمشارك ثانوي، وطالما أن مخططوا السياسة في الشرق والغرب يدركون بوضوح تام الأبعاد والبواعث المحركة لهذه الاستراتيجية، لذلك فهم يتعاملون مع الدولة الفارسية في هذا الإطار ضمن أي تحرك في منطقة الشرق الأوسط، وأواسط آسيا.

وفي هذا الإطار تندرج كافة سياسات الدولة الفارسية (بصرف النظر عن أسمها ومن يحكمها)، لذلك وضعت نفسها في خدمة هذه الاستراتيجية، ففي الحرب العالمية الأولى، دخلت الجيوش الروسية إلى الأراضي العراقية عن محورين: الأول محمر خانة ــ حاج عمران ــ راوندوز، والمحور الثاني مضيق بايطاق ــ قصر شيرين، خانقين، ولكن الجيش الروسي أنسحب بعد قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية، وعندما دخلها الإنكليز في الحرب العالمية الأولى، منحوهم القطر العربي الأحوازي، ليس كمكافأة، بل لخلق دولة فارسية قوية تلعب دوراً مرسوماً لها تنفذه بطاعة في المنطقة، ولكي لا يكون ضفتي الخليج العربي عربياً فيستحيل بحيرة عربية بكل ما يعنيه ذلك من معاني سياسية واقتصادية وعسكرية / استراتيجية.

وفي الحرب العالمية الثانية، أحتل الجيش السوفيتي مساحات شاسعة من شمال إيران بضمن ذلك كامل الأراضي الأذربيجانية، وضمتها في البداية للجزء الاشتراكي من أذربيجان الشمالية، كما سهلت قيام حكم كردي في الأجزاء الكردية من إيران، وكانت موسكو تأمل أن يساعد ذلك على سقوط نظام الشاه بيد القوى اليسارية (حزب تودة الشيوعي) ولكن الغرب، بريطانيا دخلت إيران من العراق واحتلته دون مقاومة، وفتحت الطريق الاستراتيجي لتزويد الاتحاد السوفيتي بالسلاح والعتاد ليقف بوجه النازية. ولعل الحكومة الشاهانية سهلت دخول الإنكليز ليقفوا بوجه السوفيت، وهو ما تحقق فيما بعد فعلاً، إذ دافعت الولايات المتحدة وبريطانيا عن الكيان الإيراني في كواليس المفاوضات وسحبت موسكو قواتها إذ كانت منهمكة بترتيب أوضاعها في أوربا الشرقية، فمنحتها الأولوية الاستراتيجية، ولم تشأ أن تفسد نشاطها السياسي / العسكري، وإذ تخلخلت الأوضاع، تخلى الروس والأمريكان عن الكرد، فسقطت جمهوريتهم الوليدة في مهاباد 1946 وأعدم قادتها من أكراد إيران والعراق.

والعلاقة السوفياتية / الإيرانية ظلت تنطوي على الحيطة والحذر، وكانت موسكو ترعى حزباً شيوعياً إذ كان الحزب الشيوعي الإيراني يعتبر أقوى حزب شيوعي في الشرق الأوسط، مما يجعلها تعلق الآمال عليه بدرجة ما، وبالمقابل فإن الشاه خشي هذا الاحتمال الخطر المصوب إلى عرشه، فلجأ إلى الغرب وتوج هذه العلاقة بأنظمامه إلى حلف بغداد عام 1955 الذي ضم أيضاً تركيا والعراق وباكستان وبريطانيا، واحتفظت الولايات المتحدة بمقعد مراقب عسكري فيه. وبدا لإيران أن ذلك يطمأن هواجسها إلى حد ما، بالإضافة إلى تسليط حملة قمع وحشية ضد الحزب الشيوعي الإيراني (تودة).

في السنوات الأخيرة من حكم الشاه بعد ثورة أسعار النفط الخام (1972 ــ 1973) أتسع طموح الشاه، وبدأ بتوسيع صلاته وتدخلاته بدول المنطقة (عمان) بل وأبعد من المنطقة (إلى الكونغو)، وتمادى بطرح إيران كقوة عظمى، مما أزال الكثير من مخاوفه، فأتجه لإعادة تأسيس علاقاته مع الاتحاد السوفيتي الذي كانت قد تسللت البراغماتية إلى سياساته، بعد تلاشي التعصب الآيديولوجي الدوغماتي الستاليني، فأخذ الشاه يتزود بالأسلحة من الاتحاد السوفيتي، والسوفيت بدورهم أخذوا يشجعونه فزودوه بدبابات (ت 62) قبل أن يزود مصر وسوريا والعراق، وبالغ العقل السياسي الفارسي (كعادته تاريخياً) برسم خطوط توسع لتبلغ المحيط الهندي، وليدق جرس الإنذار للأستراتيجين الأمريكان: نحن نعطيك السلاح والأمان لتعمل لنا، لا لتقيم إمبراطوريات خرافية.

منحت هذه الأحلام والأوهام الشاه محمد رضا بهلوي شعوراً متزايداً بالعظمة، لأن يطالب برفع درجته في التحالف مع الغرب إلى درجة الشريك، وقد أمتلك مقدمات الدور الأكبر :
•جيش ضخم يعد من أقوى الجيوش في العالم.
•وارادت عالية من النفط.
•علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفيتي لدرجة تزويده بأسلحة متقدمة.
•علاقات حسنة مع محيطه العربي (مع مصر أولاً ثم سوريا الأسد).
•خفوت مطمئن لقوى المعارضة الإيرانية.

توج الشاة بهلوي هذه الأحلام ليجعلها قريبة للواقع، فتوج نفسه وريثاً تاريخياً للإمبراطوريات الفارسية في في أحتفال باذخ في العاصمة التاريخية برسبولس. بيد أن هذه الإشارات أعطت انطباعات سلبية للإدارة الأمريكية في عهد الرئيس كارتر، فأضمروها له، لذلك شهد حكم الشاه البهلوي انحدارا سريعاً حتى سقط على أيدي الملالي عام 1979 في سيناريو يحمل بصمات المخابرات الأمريكية، وبنفس الوقت نشير إلى دلائل ومؤشرات مادية في مساهمة الولايات المتحدة بإنهاء نظام الشاه، لأنه لم يعد يفي بمتطلبات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، دلائل تتواصل في الواقع حتى وقتنا الحالي.

 ليس بوسعنا أن نبرئ هذه الأحداث من دور القوى العظمى، فالمنطق السياسي يقودنا دون شك حيال هذه الأحداث الكبيرة، طالما لا توجد تبرعات في السياسة، ومواقف مجانية حتى في الحالات الصغيرة جداً، ومن المؤكد أن الصفويون كانوا على صلة بخصوم الدولة العثمانية، (الغرب وروسيا) ولهذا منحت جائزة لا تستحقها أبداً بإشراكها في مؤتمر برلين وحصولها على أراض تركية قضاء كوتور شرقي مدينة وان في مؤتمر برلين 1878. ولهذا يقترح الغرب اليوم حضور إيران في المفاوضات بشأن سورية.

فالتحالف الغربي أو الشرقي إذن ليس بجديد في السياسة الإيرانية، ويندر في التاريخ السياسي أو الجيوبولتيكي  (Geopolitikal) وجود كيان سياسي يرتبط بهذه الدرجة بمهمة القيام بدركي الشرق الأوسط (حتى إسرائيل)، أو بدور مثير المشاكل (Troubelmaker)، دور يكاد يطغي حتى على دورها في سوق النفط العالمية.

ودون شك يدرك ملالي طهران، أن الولايات المتحدة حليف غير مضمون، فهم بذاتهم وصلوا السلطة نتيجة بيع الولايات المتحدة لجندي من جنودها (الشاه)، مقابل حصان، والحصان بدوره صالح للبيع مقابل قلعة، (حسب قواعد لعبة الشطرنج الدولية) ولكن دعنا نقر الحقائق واقعياً : من هي القوى العظمى النزيهة اليوم في العالم، لا أحد يتعامل معك إلا بما في يدك من أوراق، وعلى اللاعب الماهر إبقاءها بين أيديه دون تفريط، لأنها سر بقاؤه ومصدر قوته، ولا علاقة للأخلاق في هذه التعاملات.

يدرك الملالي أيضاً، أن الولايات المتحدة سوف لن تغفر لهم اللعب بعيداً خارج الخط (أداء خارج النص)، وإذا كانت التكتيكات مسموحة، ولكن تحويل المسار بدرجة كبيرة له عواقبه الوخيمة. وتعلق الولايات المتحدة بالشرق الأوسط هو أكبر من أسهم وأرصدة الروس فيها،ولا ينبغي أن ننسى أن الولايات المتحدة أصدرت مبادئ  (Doctorin) ترومان 1947/ أيزنهاور 1956/ نيكسون، كارتر 1980، تكرس منها مبادئ الرئيسين أيزنهاور  وكارتر (Eisenhower, Carter Doctorin) حول الشرق الأوسط، ومبدأ كارتر الأحدث تكرس للخليج بصفة تامة (تعتبر الولايات المتحدة أن أي محاولة للتدخل من قوة خارجية على منطقة الخليج أعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وسيتم صد هذه المحاولة بكافة الوسائل منها استخدام القوات المسلحة)، ووفق هذه النظرية تدخلت الولايات المتحدة في الخليج منذ 1991.

أما الصينيون فلا يزالون بعيدين عن هذه المائدة العامرة. ويخيطون بمسلة طويلة، والمئة عام عندهم كعقد من السنين، وها هم أنجزوا الكثير وحازوا على مقعد بين الخمسة الكبار، واقتصاد متين، واستعادوا هونك كونك من الإنكليز(1997)، وشبه جزيرة ماكاو من البرتغاليين(1999)، وكل ذلك دون أن يطلقوا رصاصة واحدة. والآن سوف لن يسفحوا قطرة عرق واحدة من أجل عيون الإيرانيين.

والروس يسرهم أن يتعاملوا مع دول في المنطقة، يبيعون لهم أسلحة لا يحصلون أو يصعب الحصول عليها من الغرب، وإذا كانوا يبحثون عن سبل توصلهم إلى المنطقة، ولكن بشرط أن تكون سالكة آمنة ...! وها هم (الروس) يقيمون علاقات واسعة مع السعودية ومصر، ومع الجزائر أساساً، ويتطلعون إلى اليمن، بل وحتى إلى دول الخليج وحتى علاقتهم التاريخية مع سوريا ينظرون إليها كمأزق يتطلعون إلى التخلص منه، ولو بنصف مكسب، وحولوا سوريا بالاشتراك مع الإيرانيين بابتذال سياسي إلى بازار.

والولايات المتحدة سوف لن تسمح لإيران التمدد إلا بمقدار ما يكون ذلك مفيداً لخططها. لذلك نرجح أن تبقى إيران تدور في الفلك الأمريكي بهذه الدرجة أو تلك من الأنصياع، يحاولون حيناً أبداء التمرد ليعلو كعبهم متراً، ثم يتقهقرون بعدها أمتاراً، والأمريكيون ضالعون بخفايا العقل السياسي الفارسي، ومن المؤكد أن لهم بين قيادات الملالي أصدقاء وأنصار. وبمزايا وخصائص كالتي تتمتع بها إيران لن يدعها الأمريكان تفلت من أيديهم بعيداً، بدليل أن المحادثات النووية التي ابدوا فيها من الصبر وطول الأناة الشيئ الكثير، هي خير دليل على قدرة الولايات المتحدة على استيعاب الطموح والجموح الإيراني.

وبرغم أن الفرس يتعاطون السياسة منذ قرون كثيرة، ولكنهم كشعب شرقي يميل لأستخدم عواطفه وهنا تقع الهفوة، فالسياسي الفارسي ما أن يشعر بالقوة حتى يترهل ويتخلى عن حذره، أو يدرك حاجة الآخرين الماسة لخدماته (موقعه، ومزاياه الأخرى) حتى يبدأ بالمغالاة، والمبالغة وهي آفة سياسية، والفارسي يميل للغطرسة وإن لا يمتلك قدراتها، والميل إلى الأبهة والفخامة هي من السمات الأصيلة في العقل السياسي الفارسي.

ويبدي العقل السياسي الفارسي صبراً جميلاً عندما يخسر ويتقهقر، ولكنه يضمر ذلك في نفسه، وخططه اللاحقة تقوم بدرجة رئيسية على الانتقام لدرجة أنها تفقده رشده فيبالغ وهنا يخسر في قدره ورؤية الآخرين وتقديرهم له من خصوم وأصدقاء أو محايدين، وليس محموداً في السياسة عندما يتأكد الطرف المقابل من رد الفعل، ورد الفرس على أي مقترح أو مشروع معاد للعرب وللمسلمين مرحب به بل مهلهل تهرول إيران صوبه لدرجة الخفة وفقدان الاتزان، وهذه نقطة معروفة لكل من يتعامل مع إيران سراً أو علناً، ويمكن لأي طرف المناورة عليها.

أما العقل الفارسي فهو يدرك أنه مهم للغرب كما للشرق، ولكل من يريد أن يفكر بإلحاق الأذى بالعرب والمسلمين والأفغان، والباكستانيين والبحرين، والشرق أجمعين، فيتدلل يحدوه قول الشاعر :

عرف الحبيب مقامه فتدلل

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1094 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع