يظلُّ الوطن.. وطناً!

                                                     

                                    زينب حفني

سُئل لاجئ سوري عن سبب عودته لوطنه سوريا، رغم المخاطر التي صار يعيش فيها الشعب السوري داخل أرضه! أجاب بأنه حاول التأقلم بالعيش داخل الولايات المتحدة الأميركيّة التي منحته حق اللجوء مع أسرته، لكنه لم يستطع المكوث مؤثراً الرجوع وترك زوجته التي فضّلت العيش هناك، متابعاً بعينين دامعتين.. جحيم الأوطان ولا جنّة الغربة! كنتُ قد زرتُ سوريا عدة مرات على مدار حياتي، منها ما كان للفسحة، وأكثرها تمَّ بناء على دعوات من مؤسسات ثقافيّة، ولا أدري حقيقة ماذا حلَّ بمثقفي هذا البلد بعد النكبة التي أصابت بلادهم! ويكفي أنها أخرجت لنا الشاعر العظيم نزار قبَّاني، والأديبة غادة السّمان، اللذين فتحت عينيَّ على إبداعاتهما.

اللاجئ السوري الذي عاد لبلاده متجاهلاً سيطرة الجماعات الإسلاميّة الدمويّة المتشددة على رقع واسعة من سوريا، وقيامها بذبح مئات الأبرياء، ومحاولتها طمس هويّة البلد بتدمير آثاره العظيمة، إلا أن عشق هذا اللاجئ لوطنه تغلّب على خوفه، ودفعه إلى الارتماء في أحضان وطنه من جديد.

جميعنا لدينا هاجس اسمه الوطن، نجزع إذا إصابته علّة. نرتجف هلعاً إذا أطلق آهة وجع. يُجافي النوم أجفاننا إذا شعرنا بعيون الأعداء تتربص به وتُضمر له شرّاً. لذا كاذب من يعتقد بأنه قادر على الانسلاخ من جذوره بسهولة، قد تسرقنا الأيام بمباهجها عن أرضنا، قد نلتهي في أمور دنيانا، قد تحرقنا الحياة بدوّامة مشاغلنا التي لا تنتهي. قد تضطرنا الظروف إلى الرحيل بعيداً عن الأرض التي ولدنا فيها وترعرعنا بين ربوعها، لكن لا يُمكننا أن نضع رؤوسنا على الوسائد حين يفترش الظلام طرقاتنا، دون أن تخفق قلوبنا صوب أوطاننا التي هجرناها قسراً، وشعورنا بالشوق العارم لكم الذكريات التي تركنا آثارها خلفنا.

عندما أشاهد التلفاز، وأطالع صفوف المهاجرين من بلدان مختلفة، وهم وقوف أمام الأسوار الشائكة محاولين اختراقها للعبور بأسرهم إلى الجانب الآخر، حيث الجنة الموعودة كما يعتقدون، أشعر بألم يعتصرني على ما آلت إليه أحوال أمتنا العربية والإسلاميّة، وأردد بصوت خافت.. اللهم أدم على وطني نعمة الأمن والأمان واحفظه من أطماع الطامعين.

معروف عنّي شراستي في التعرّض لكم السلبيات التي تُعاني منها بلادي، ومنذ أن عرفتُ قيمة الحرف وتأثير الكلمة وأجدتُ الإمساك بالقلم، وأنا لا أترك شاردة ولا واردة إلا وأشرتُ إليها. فأنا أمقتُ العنصريّة العرقيّة والمذهبيّة وانفر من العصبيّة القَبَليَّة، وأجاهد من أجل القضاء عليهم. أكره التمييز الجنسي الذي يُمارس ضد المرأة، وأناضل من أجل أن تحصل على حقوقها كافة كمواطنة. أحرص على فضح بؤر الفساد التي فاحت رائحتها!

كل هذه المظاهر السلبية لا تجعلني أتمنى الخراب لوطني، أو أتطلع لتقطيع أوصاله! يظل الوطن وطناً مهما عانينا من ضرباته القاسية! الأوطان هي التي تمنحنا القدرة على مقاومة الأمواج العاتية لإيماننا بأنها ستدفعنا إلى شواطئ الأمان من دون أطواق نجاة! الأوطان هي التي تجعلنا نُوقن في دواخلنا بأن هناك مستقبلاً آمناً ينتظر أبناءنا وإن كانت الرؤية ضبابيّة والنهايات غير واضحة!

هذا لا يعني أنني ألوم أفواج اللاجئين على تركهم لأوطانهم في أوج أزماتها، فحرصنا على أرواحنا وخوفنا على حياة أسرنا، سيطغى بالتأكيد على أي حب مهما كان مستحوذاً علينا، لكن السؤال الذي يحضرني بين حين وآخر في خاطري.. هل الغربة شتاء دائم وإحساس بصقيع الوحدة، أم أن عشق الأوطان يجعلنا دون أن ندري لا نرى غيرها ولا نحسُّ ببهجة الحياة من دونها؟

*كاتبة سعودية

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

943 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع