الشعب يريد ترقيع النظام

                                             

                              إبراهيم الزبيدي    

وراح الفرح الغامر الذي أشاعته في نفوسنا التظاهرات التي انطلقت في العراق احتجاجا على تردي الخدمات، بعد أن ظننا أنها البداية لثورة تخرج الوطن من محنته وتعيده إلى عافيته من جديد، تماما مثلما حدث في مصر وتونس قبل عام.

صحيح أنها بدأت احتجاجية بشعارات متواضعة لا تتعدى المطالبة بمزيد من الكهرباء والماء والدواء والغذاء، ولكن كان يمكن أن تصبح ثورة على نظام قام أصلا على الظلم والقهر والتزوير والاختلاس. فالكهرباء والماء والدواء والغذاء لم تعد هي موباقاته الوحيدة لكي تطلب التظاهرات من رئيس الوزراء علاجها بقرارات سريعة وجريئة، كا تطالب المرجعية.
ولأن حاضنتها شيعية، وبالتخصيص، محافظات كانت هي بيت المال الذي يضخ الرجال والأموال لأحزاب الإسلام السياسي الفاشلة التي ثبت أنها لا تصلح لا للسيلسة ولا للدين، فلم يكن سهلا على أحد من شلة الحكم  اتهامُها بالداعشية أو الصدامية، أو بالعمالة لدول الخليج. وكان المؤمل أن تشتعل مع تظاهرات بغداد والمحافظات الجنوبية جميع مناطق الوطن المبتلاة بالظلم والقهر والفساد والرذيلة، وبالأخص مناطق السنة التي أذاقها أمر المر نوري المالكي ثم حيدر العبادي وهادي العامري بتطنيش من المرجعية، حينا، وبتبريكاتها، حينا آخر، وكما تكونوا يولَّ عليكم.
وكان متوقعا أيضا أن تلبي النداء جماهير السليمانية وأربيل ودهوك وكركوك، لأنها شربت من كأس السم (الوطني الديمقراطي) ذاته الذي يشرب منه العراقيون العرب الآخرون.
هذا ما يقوله العقل السليم. ولكن الذي رافق هذه التظاهرات يبطل مفعول هذا الحلم الكبير، مع الأسف الشديد.
فالنوع الأول من المتظاهرين، وهو الأكثرية، لا يريد أكثر من الكهرباء، وعفى الله عما سلف، ولا على الحاكم المتهم بالاختلاس حرج، ولا على النائب العميل المرتهن لحاضنة خارجية حرج، ولا على حافي الأمس وصار من أصحاب الثروات الطائلة، بل ترأس لجنة النزاهة،  حرج، لأن السيد مقتدى يريد دليلا على الاختلاس لكي يقطع يد السارق، على طريقة أربعة شهود عدول رأوا الميل في المكحلة ليثبت الزنى.
والنوع الثاني خرج من داره طاعة لله، ووفاءً لحضرة المرجع الأعلى، وسيعود إلى منزله فور انتهاء الواجب، لا يَدين ولا يُدان، ولا ضير ولا ضِرار.
أما النوع الثالث، وهو الأخطر والأكثر لؤما وخباثة، فهو ذلك الذي كلف رؤساؤه في حزبه الحاكم، أو في المليشيا الضاربة، بأن يتسلل إلى قلب التظاهرة، فيفسد هواءها، ويلوث ماءها، ويجعل منها حفلة تكسير عظام بين هذا الحزب وتلك المليشيا، وذاك الوزير وتلك الوزارة أو النيابة، أما إذا فشل في حرفها عن أصالتها وصلابتها، وإذا ما راح يجد فيها تهديدا لسلطة الدين السياتسي كله، بكل فصائله وأحزابه وتنظيماته ومشتقاته، فمن السهل إحباطها وتخريبها من داخلها بأسهل ما يكون.
وبرغم كل التفاؤل الذي أصاب ملايين المتفائلين أمثالنا، خصوصا أؤلئلك المهجرين والمُغرَّبين والمحرومين من زيارة مساقط الرؤوس وشم هوائها قبل الممات، فإن جماهير الموصل والرمادي والفلوجة لم تتظاهر ضد داعش، وضد جرائم العصابات السنية المتسلطة عليها بقوة السيف والخنجر والسكين. كما أن جماهير مدن ديالى وبغداد والأنبار لم تهب، على بكرة أبيها، ضد الحشد الشعبي وجرائم التهجير والقمع والحرق والنهب والاغتصاب. ولأن أحدا لم ينتفض أحد في السليمانية ضد فساد السلطة الطالبانية، وفي أربيل ضد تسلط الأسرة الامبراطورية المالكة من آل برزان، لأن التظاهرة في بغداد والمحافظات الجنوبية عربية عراقية لا تهم كورديا ولا تركمانيا بشيء. ولم يبق سوى قلة قليلة من الوطنيين الشرفاء المبرأين من الغرض والمصلحة، وسوى الحزب الشيوعي في الساحة، مع بعض البعثيين أتباع عزت الدوري. وكلٌ يغني على ليلاه. ويلاه وا... ويلاه.
إن العراق بلغ نهاية الطريق. وقد أعطى العراقيون، جميع العراقيين، حزب الدعوة، المحتكر الأول للسلطة، والأحزابَ الشيعية والسنية والكوردية المتحاصصة، جميعَ الفرص لتعديل نفسها، وتهذيب سلوكها، وإثبات أمانتها ووطنيتها، ففشلت، وفشلت معها المرجعية التي تتحمكل كامل المسؤولية عن العملية السياسية الفاسدة كلها، من رأسها إلى أخمص قدمها، ومن بدايتها إلى نهايتها.
ثم إن فساد هذا الرئيس أو ذاك الوزير ليس هو المشكلة. فالفساد المالي والإداري مجرد نتوء عرضي أفرزه النظام القائم من بدايته على باطل. وبالتالي فتغيير وزير أو إقالة رئيس لم يعد الحل الذي يشفي من غليل أحد، وأصبح المطلوبَ طوفانٌ كاسح من الجماهير الواعية التي لا تنخدع بمظاهر، ولا بوعود، ولا بكلام حلو من حيدر العبادي، أو نوري المالكي أو مقتدى الصدر أو عمار الحكيم أو إبراهيم الجعفري، فرؤوس الفساد معروفة، وهي نتاج فتاوى المرجعية وأولادها البررة الذين لم يخالفوا أوامرها في شيء.
حتى لم يبق للشعب العراقي من أمل في أن يقال من هذه السقطة المريعة، ويستعيد أمنه وكرامته وعافيته، إلا بانتفاضة شعبية عارمة تتخطى القومية والطائفة والدين والمنطقة، وتقتحم السدود والحدود والقيود، وتدخل المنطقة الخضراء وتأخذ جميع سكانها مقيدين بالحبال وسلاسل الحديد إلى حيث القصاص والحساب العسير.
وأول واجب مقدس على جماهير الانتفاضة المتنظرة أن تفعله، أول ما تفعل، هو منع المرجعية الشيعية، وجميع مراجع المعمممين السنة، من التدخل بالسياسة، وترك ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. فغباؤها وجهلها، ولا نقول لؤمها وخبثها، هو الذي جعل نوري المالكي رئيس وزراء، دورتين، وحيدر العبادي بطل الأبطال الوحيد المتبقي من ملايين العر اقيين، ومقتدى وعمار والعامري وقيس الخزعلي زعماء وحكماء، وأصحاب حوْل وطوْل في هذا الوطن المغتصب المختطف.
وأغلب الظن أن النظام سوف يسارع إلى الضحك على ذقون المتظاهرين، بإجراءات (قشورية) فيطرد وزيرا ويأتي بوزير، أو يزيد ساعات الكهرباء هنا وهناك، ثم تهدأ الخواطر، ويعود المتظاهرون إلى منازلهم فرحين، ويبقى نوري المالكي وباقي شلة المخربين والمفسدين طلقاء، وكأن الشعب لم يتظاهر إلا من أجل ترقيع النظام، حتى وهو يعرف أن شقوقه أكبر كثيرا من أي ترقيع.
 وبرغم كل شيء، فالذي حدث، مؤخرا قد يكون البداية، وأن الآتي بعده فيضانُ الخير المنتظر في العراقيين، ليكون شرارة الحق التي تحرق السهل كله على الباطل، وتحرر الوطن، وتعيده دولة عزيزة منيعة لها كرامة، وفيها حكومة عاقلة وعادلة، وبلا أحزاب ومليشيات تحركها خيوط (الخارج) اللئيم. وليس هذا على الشعب العراقي بكثير.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1514 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع