من يفسد فيها ويسفك الدماء؟

                                          

                       د. محمد عياش الكبيسي


في رمضان تصفّد الشياطين، لكنّ ما تريده الشياطين يتحقق بأيدي البشر، فمع أجواء الإيمان والقرآن ودموع التائبين وتضرّع الصائمين القائمين، لا تكفّ الأخبار العاجلة عن تفجير هنا وقصف هناك وأحكام بالإعدام وأفلام دموية (هوليوديّة) تقشعرّ منها الأبدان،

شعوب تهجّر من أوطانها، وأوطان تتحوّل إلى خراب وتراب، والكل يسأل: ماذا بعد؟ وهو سؤال يخفي وراءه توقّعات بانتشار رقعة الدمار وليس بانحسارها، والرسم البياني منذ 2003 وإلى اليوم يؤكّد هذه التوقعات.

مهما حاولنا أن نحلل ونشخّص ونستنتج فستبقى هناك مساحة معتمة وغير قابلة للفهم أو الحسم.

في زيارة سابقة للهند رأيت الهندوس والبوذيين والسيخ والمسلمين والمسيحيين وعشرات الديانات الأخرى يتعايشون فيما بينهم، وربما ترى في الشارع الواحد مسجدا وكنيسة ومعبدا هندوسيا أو بوذيا، كل يصلّي على طريقته ولا يشغب هذا على ذاك ولا ذاك على هذا، في الشارع الواحد والحي الواحد رأيت من يعبد البقر ومن يأكل البقر، الثقافة السائدة هناك باستثناء بعض الحوادث الشاذّة أن أتباع الديانات المختلفة عليهم أن يقدّموا للمجتمع عامة أفضل ما عندهم ليثبتوا مصداقية دينهم وميّزته التربوية والأخلاقية! وأنا هناك كنت أفكر في بلادنا؛ عدد سكاننا أقل بكثير من سكّان الهند، وعدد الديانات والطوائف التي عندنا أيضا لا يقاس بعدد الديانات والطوائف الهندية، وإذا جمعنا الصين إلى الهند، فإننا أمام حقيقة كبيرة لا ينبغي أن يختلف فيها اثنان؛ أن الخلافات الدينية مهما بلغت ليست مبررا كافيا للعنف واستباحة الدم.

هناك من يربط هذا العنف الأعمى في منطقتنا بالتعليم الديني (المتشدد) والجماعات الإسلامية (المتطرفة)، لكن المفارقة أن بؤرة العنف الرئيسة اليوم هي سوريا والعراق، وهذه المنطقة لم تُعرف إطلاقا بتشدّدها الديني، فالتعليم الديني فيها تعليم مذهبي (حنفي أو شافعي)، والسمت الغالب على هذا التعليم هو السمت (الصوفي) في كلا البلدين، أما الشيعة فهم بالعموم ليسوا معروفين بالتديّن، فمظاهر الإفطار في رمضان -على سبيل المثال- شائعة جدا، ونسبة المحافظين على الصلاة لا تكاد تذكر، والمجتمع يعاني من (أميّة دينية) طاغية، وأذكر أننا كنا نزور الريف الجنوبي ونقدّم لهم نسخا من القرآن الكريم، فلا نجد من يستطيع القراءة، ومرّة وجدنا شابا (جامعيا) مثقفا ففرح بالمصحف وقبّله ثم بعد مدّة أرجعه إلينا وقال: والله أنا غير مقتنع بهذا القرآن! لأني وجدت فيه سورة البقرة والنمل والعنكبوت ولم أجد فيه (سورة أمير المؤمنين)، فكيف انقلبت هذه المجتمعات البسيطة بين عشيّة وضحاها إلى ينابيع تفور بالميليشيات والحركات الدينية الراديكالية، بينما اختفت الأصوات الأخرى تماما فلا قومية ولا علمانية ولا ليبرالية ولا ديمقراطية، وكل هذا يحصل بعد غزو أميركي ضخم كان عنوانه الأبرز (نشر الديمقراطيّة)!

بعض المحللين عندنا يعزون هذه الظاهرة إلى حالة الفقر وانسداد الأفق وفقدان الأمل، والذي رأيته في تلك البلاد من مظاهر الفقر يفوق الوصف ولا يقارن بما عندنا، فقد رأيت عشرات العوائل برجالهم ونسائهم وأطفالهم ينتظرون توقف حركة الباصات لتنام كل عائلة في واحدة من مظلات الانتظار! أما في النهار فلا أعلم أين يذهبون؟ وقد زارني (مدرس جامعي) في محل إقامتي فقدّمت له ما تيسّر من الطعام ففوجئت أنه يستأذنني بأخذ الباقي ليوزّعه على جيرانه! وقد فعل بالفعل وجاء جيرانه يشكروننا!

الظلم لا شك أنه سبب في اندلاع الثورات والانتفاضات، وهذا ما حصل إبّان ما عرف بالربيع العربي، لكني لم أسمع أن واحدا من الثائرين قد فجّر نفسه في أجهزة الأمن فضلا عن الأبرياء من الناس، بل العكس كانت كل الانتفاضات تبالغ في شعار (السلمية) حتى مع استفزازات العسكر ورجال الأمن، والتجارب التونسية والمصرية واليمنية شاهدة، وأما في ليبيا وسوريا والعراق فقد كان الأمر كذلك لشهور عديدة من عمر الانتفاضة، ولمّا اضطرّ الناس إلى حمل السلاح حملوه ضدّ عصابات القذافي والمالكي وبشّار حصرا، أما ما يحصل اليوم في هذه الدول خارج هذا الإطار، فمن المقطوع به أنه يتم بأيد طارئة على الثورة وغريبة عن الثوار.

إن ظلم (الأنظمة الحاكمة) من شأنه أن يولّد ردّة فعل على الأنظمة، على قاعدة (لكل فعل ردّ فعل يساويه في القوّة ويعاكسه في الاتجاه)، أما أن تظهر ردّة الفعل هذه باتجاه غير اتجاه الأنظمة، فهذا يعني أن هذا العنف ليس ردّة فعل على سلوك هذه الأنظمة، فما رأيناه مثلا من قسوة ووحشية و (إبداع) في طريقة تنفيذ الإعدام كلها دون استثناء لم تمس واحدا من (شبّيحة الأسد) ولا (ميليشيات الحشد)! بل لثوّار منافسين أو سياسيين مخالفين أو أبرياء تكال لهم التهم دون بيّنة ولا دليل، وفي المغرب العربي الحالة أوضح، فالنظام الليبي سقط وكذلك النظام التونسي، وليس هنالك (روافض) ولا (أميركان)، وهناك تفتّقت الأذهان فوجدوا في ليبيا عمالا مصريين مساكين، فتم ذبحهم على شاطئ البحر لأنهم أقباط، ووجدوا في تونس فندقا يرتاده مواطنون وأجانب فتم قتلهم لأنهم سيّاح!!

إن كل الذي يقوله المحللون صحيح، فهناك ظلم وهناك فقر وهناك جهل.. إلخ، لكن كون هذه الأشياء تصلح مستندا لهذا الذي نراه فهذا غير ممكن، هنالك مشاريع دولية وإقليمية وظّفت بجدارة ومهارة هذه الظواهر وغيرها لتحقيق تغيّرات مصيريّة في هذه المنطقة تشمل الأرض والدولة والهوية والإنسان، أما الكلام عن الإصلاح السياسي والاقتصادي والتربوي وما إلى ذلك فهذه دعوات مباركة ومحترمة، لكنها لن تقف لوحدها أمام هذه الفوضى ما لم ينبثق المشروع العربي الإسلامي القادر على ملء الفراغ وتصحيح المعادلة القائمة والحاكمة في المنطقة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

816 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع