وثائق ويكيليكس.. فضيحة على من؟

                                         

                  الدكتور اكرم عبدالرزاق المشهداني

ما زال اللغط يدور حول التسريبات الاخيرة لوثائق ويكيليكس، التي تخص الحكومة السعودية، ودلالاتها ومعنى اطلاقها في الوقت الحاضر. فقد نشر موقع ويكيليكس يوم الجمعة 19 حزيران 2015 ما قيل أن مجموعه يصل الى 60 ألف برقية دبلوماسية يقول إنها مسربة من وثائق المؤسسات الدبلوماسية السعودية.

وأشار الموقع في بيان أصدره إلى أنه بصدد نشر أكثر من 500 ألف من وثائق الدبلوماسية السعودية على الانترنت، تحتوي على مراسلات سرية من مختلف السفارات السعودية حول العالم. وتحمل الوثائق، التي عرضها الموقع باللغة العربية، في أعلاها شعارات وعناوين مثل "المملكة العربية السعودية" أو "وزارة الخارجية"، وحمل بعضها صفات "عاجل" أو "سري". وحملت واحدة من هذه الوثائق المنشورة، على الأقل، عنوان السفارة السعودية في واشنطن. وهذه الخطوة تذكّرنا بالتسريبات الكثيرة التي نشرها الموقع من برقيات وزارة الخارجية الأمريكية في عام 2010.
لاشك ان لكل دولة في العالم اسرارها الخاصة المرتبطة بمصالحها وعلاقاتها ومنهجها، وامنها الداخلي والخارجي من خلال مراسلاتها اليومية، تتعاطاها اجهزة وزارات الخارجية والداخلية والمخابرات، والدوائر العليا في الحكم. وتسعى اجهزة المخابرات الى اختراق الاجهزة الاخرى في الدول المعادية بل وحتى الصديقة، من اجل كشف الاسرار المتصلة بنهج وسياسات تلك الدول.  وهناك دول (مثل بريطانيا) التي تزيح الستار عن وثائقها وتجعلها متاحة بعد ثلاثين سنة من تواريخها، وتطلقها للباحثين والمهتمين ولكنها قد تستمر في جعل بعض المراسلات ذات طابع غير قابل للكشف وحسب طبيعة ونوع ومحتوى الوثيقة.
ولا توجد هناك وسيلة حتى الآن للتحقق من صحة الوثائق التي يطلقها موقع ويكيليكس الذي ما زال يثار لغط  كثير حول طبيعة عمله والجهات التي تقف وراءه، على الرغم من أن الموقع عرف بتاريخه الطويل في الحصول على تسريبات وثائق حكومية من بلدان أخرى وعلى نطاق واسع، سواء من اجهزة الحكومة المعنية او من خلال اعدائها والمتربصين بها، ولم تكشف للآن طبيعة العلاقة بين الويكيليكس والجهات الأخرى التي توفر له الوثائق لاغراضها الخاصة، مستفيدة من مزايا ويكيليكس في سرعة الانتشار والموثوقية باعتباره طرفا محايداً كما يبدو لاول وهلة.
في ايار ٢٠١٥ اقرت وزارة الخارجية السعودية باختراق شبكات الحواسيب الخاصة بها. وتم تحميل مجموعة موالية لايران، تطلق على نفسها اسم "الجيش الالكتروني" مسؤولية هذا الخرق. ونشرت المجموعة بعد ذلك " عينة" من الوثائق القيمة على مواقع مخصصة لمشاركة الملفات والتي اغلقت بعد ذلك بفعل هجمات إلكترونية تتعلق بالرقابة. الوثائق المنشورة في الويكيليكس تخص شؤون العلاقات الخارجية للمملكة وترتبط بعدد من الاحداث والقضايا في الشرق الاوسط منها قضايا العراق وايران ومصر والاخوان وحزب الله وسوريا ولبنان وداعش والقاعدة وقضايا اخرى.
إن افراج موقع ويكيليكس عن نحو نصف مليون وثيقة في حوزته، حصل عليها في عملية اختراق لأرشيف وزارتي الخارجية والداخلية، و جهاز المخابرات السعودية، لاشك أنه يؤذي المملكة معنوياً، ويُحرج أطرافاً كثيرة، لكن الحقيقة إن ما يهمنا من الوثائق المنشورة هو ما يخص العراق، واتهامات (رَقَصَ) لها البعض تخص سياسيين واعلاميين عراقيين، من السلطة وخارجها، ممن تعاملوا مع المملكة، او تعاملت هي معهم، ومن المعلوم ان المملكة تعاملت مع معظم اطراف من يسمون انفسهم بالمعارضة العراقية ومن كل التيارات، وانها احتضنتهم ورعتهم لفترات طويلة بسبب سوء العلاقة التي كانت بين النظام العراقي السابق والمملكة واشتراكها بشكل فاعل في تحضيرات واعمال حرب ما سميت بحرب تحرير الكويت 1991 وكذلك في توفير الدعم اللوجستي لغارات التحالف ضد العراق في حربي 1991 و 2003. وهي حقائق لم تعد خافية على احد فضلا عن ان المملكة احتضنت حوالي 5000 لاجيء عراقي شيعي معارض هربوا بعد فشل احداث شعبان 1991 وبقوا في معسكرات رفحا لغاية 2003.
منذ أن بدأ ادوارد سنودن الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأميركي نشر تسريبات ما أصطلح عليها بوثائق ويكيليكس وحتى الآن يتضح أمر واحد أن كل الوثائق المعروضة تستثني دولتين رئيسيتين هما روسيا وإيران، فالعميل سنودن الذي استطاع الوصول إلى وثائق تخص الأمن القومي الأميركي، بالإضافة إلى وثائق تخص دولاً أخرى، لكن التساؤل هل أعجزته الحيل والوسائل في أن يصل لوثائق تخص الأمنين القومي الإيراني والروسي أم أن الأمر يشير إلى تورط هاتين الدولتين معه فيما ينشر وما يبث وما يُستهدف، لا سيما وأن سنودن نفسه لجأ إلى روسيا واحتمى بها بعد هروبه من أميركا وما تعرض له من مضايقات في الدول الغربية.
وصف احد المحللين السياسيين عملية نشر ماسميت بالتسريبات، انه اشبه بعرض الالبسة البالية القديمة (اللنكات) في سوق البالات، ويرى ان هذه التسريبات هي أكبر معول هدم في بناء الدول، وإن كان من حق الشعوب أن تعلم وتعرف فهذه المعرفة عامة وشاملة ، والقيم لا تتجزأ، ولا بد من نشر كل أنواع المعرفة التي لا يمكن اختزالها بدول أو حكومات دون أخرى، وإن كان لا بد من نشر البالي" الألبسة القديمة" فلا بد من أن تنشر على الجميع، ولندع الجمهور يختار ما يناسبه وما يشبع نهمه المعرفي، أما أن يفرض على البائع بضاعة محددة وبشروط محددة وبوقت محدد  فهذا غير مقبول في عقود البيع والشراء..
 
ولعل اكثر ما اثار اللغط على المستوى العراقي، وثائق منشورة تخص سياسيين واعلاميين وشخصيات عراقية قيل أنها كانت على صلة بالمملكة، وأشارت إلى علاقة مسؤولين عراقيين بحكومة الرياض، أثارت جدلا في الأوساط السياسية ووسائل الإعلام في العراق واستغلتها قوى معينة لتمرير سياسة التنكيل بالخصوم والمعارضين والتشفي مما نشر. فبعد أن كشفت الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس، عن علاقات مزعومة لبعض السياسيين العراقيين وشيوخ عشائر مع جهاز المخابرات السعودي، صرح وزير الخارجية العراقي ابراهيم الجعفري في تصريح لقناة العالم الايرانية شدد فيه على ان الاخذ بهذه الوثائق سيتم اذا كان هناك موقف قضائي بشأنها. وهذا الكلام يرتبط بثمة اشكالية اخرى اثارها الموضوع، وهو الموقف القانوني بشان المعلومات التي تضمنتها وثائق ويكيليكس والتي تخص اشخاصا عراقيين، هل يمكن تحريك دعاوى جزائية اعتماداً على وثائق منشورة بوسائل الاعلام الانترنيتي؟ إنها لا تعدو ان تكون قرائن كما تسمى بلغة القانون، أي أنها تحتاج إلى أدلة تدعمها وتؤكدها وتؤيدها. وتحتاج لكي ترقى الى الدليل الى ان يعترف بها المعنيون بتلك الوثائق اضافة الى وجوب اعلان السلطات المختصة في المملكة صحتة صدورها عنها. كما ان بعض مواقع التواصل استغلت نشر الوثائق على الانترنيت وبدات بعملية اختلاق وفبركة وثائق مقلدة بقصد الاستهداف وتسقيط الخصوم السياسيين واتهامهم بتناول رشى وهدايا وشيكات، ويرى مراقبون أن نشر الوثائق في المرحلة التي تمر بها البلاد، يهدف إلى إثارة نزاعات طائفية فضلا عن كونها تسيء إلى المملكة العربية السعودية وللسياسيين العراقيين.
ولعل ما كشفته صحيفة الأخبار اللبنانية التابعة لحزب الله عن تنسيقها مع سنودن بكشف الوثائق المتعلقة بالمملكة أخيراً تختصر وتختزل كل ما يثار حول انقاء سنودن للوثائق وخدمتها لأجندات إيرانية وطائفية.. وعلى هذه الخلفية من الصعب الأخذ بكل ما يُنشر وإن كان بلا شك قد يعطي بعض المؤشرات، بيد أن اجتزاءه واقتطاعه من سياقه وسياقات وثائق أخرى قد يصار إلى إخفائها،  يجعل ذلك المحلل والباحث والمؤرخ في ظروف صعبة ليحكم بها على ما يُلقى إليه ويُنتقى له، لا سيما وأن هذا الانتقاء والاختيار يشمل دولاً محددة ويُستثنى بذلك دولاً أخرى، علماً أن الدول المستثناة مؤثرة ونافذه وجديرة بالتركيز عليها نظراً لفاعليتها وتأثيرها على الساحتين الاقليمية والعالمية..
ان تسريبات ويكليكس عن المملكة العربية السعودية لا تسيء للمملكة، لأنها بلد ذي ثقل في المنطقة ولها مصالحها مثلما للأطراف المؤثرة الاخرى مصالحها وبالأخص ايران التي بلعت العراق طولا وعرضا وحولته الى محمية من محمياتها، ولا يتورع سياسيوها من اطلاق التصريحات بان العراق بات جزءا من الامبراطورية الفارسية، ولا يخجل السياسيون من الاحزاب الشيعية من اعلان ولائهم وتبعيتهم لإيران وامتنانهم للدعم الايراني للعراق، ولا ننسى ان كل السياسيين العراقيين الذين اوجدتهم مؤتمرات المعارضة وجلبتهم دبابات الاحتلال الامريكي كلهم مروا بالسعودية وقبضوا منها قبل وبعد 2003، وبالتالي ليس العيب فيها بل العيب بالسياسيين العراقيين اللاهثين وراء الغنائم والمنافع، ختاما نكرر ماقاله احدهم من ان موضوع هذه الوثائق سيكون كمصير الوثائق التي صدرت قبل ثلاث سنوات من نفس الموقع والتي كانت ذات علاقة بالعراق والتي كان مآلها النسيان والاهمال وصناديق القمامة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

494 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع