بغداد .. سيّدة البلاد ! .. مدينة السلام طوراً ومدينة للدم أطواراً أخرى

                                             

                           د. سيّار الجميل

الحلقة 2  : تاريخٌ أم تاريخان ؟

إن العالم كله يفخر بزمن اسطوري كان رمزه الخليفة العباسي هارون الرشيد في بغداد عندما كانت عاصمة العالم الإسلامي بين سنتي 786م و 809 م . هذا الرجل يتناقض رأي العراقيين فيه اليوم ، فنصفهم من السنّة المؤيدين له يفخرون بتاريخه العباسي وامجاده وزمنه الذهبي – كما وصفته المصادر - ، ونصفهم الآخر من الشيعة الكارهين له يمقتونه ويعتبرونه مجرما ! ( وهذا حكم مطلق للمؤلف  ، اذ اعتقد ان الحقيقة ليس كلّ السنّة وليس كلّ الشيعة لهم هذا مثل هذا التناقض ، فمن الطرفين هناك من يعتبر كلاً من الوصفين غلوا وتطرفا ) . وعليه ، ومع الاعتراف بوجود هذه الثنائية ، فان العراقيين يربون اولادهم اليوم ليس على الحيادية والموضوعية في هكذا " موقف اشكالي عقيم لا فائدة منه  " ، بل على ثنائية صراع التفكير المزدوج الذي يزرع الخلاف النفسي والاجتماعي والثقافي بين الابناء والاحفاد ، أي بين التمجيد من طرف ، والكراهية من طرف آخر  ، او يعيشون في كذبة كبرى باستثناء من لم يؤمن بذلك  ، ولا يشكل ذلك بالنسبة له قلامة ظفر !!

ونبقى نقرأ في صفحات الكتاب :  .. ففي حين تسجل كل موسوعات العالم وصفا لبغداد على عهد الخليفة هارون الرشيد حيث "روعة زمنه واتساع الثروات المادية والادبية والعلمية ابان حكمه"، تجد اغلب المسؤولين العراقيين اليوم يكرهون شارع الرشيد ببغداد كراهية الموت بسبب تسميته بالرشيد الذي يتهم بمقتل الامام موسى الكاظم من خلال تسميمه ، وفي حين ان المدارس في العالم لم تزل تروي للأجيال قصص " ألف ليلة وليلة" .. ويشيدون بالرشيد وحكمه ، فان اغلب العراقيين الشيعة يكرهونه جدا كونه اضطهد الامام موسى الكاظم في حين يمثل الرشيد رمزا بالنسبة للسنة الذين يعجبون به وبزمنه الحقيقي اعجابا منقطع النظير ، ففي زمنه ترجمت اعمال الفلاسفة الاغريق العظام ، وهو هارون نفسه الذي تعلم اليونانية وتثقف بالثقافة الإسلامية، واحاط نفسه بالموسيقيين والفلاسفة والعلماء ووثق علاقاته بالمطارنة السريان المسيحيين بزياراته لاديرتهم  . والعالم كله يبقى يذكر الاجيال بعهده الذي أسمي بـ "العصر الذهبي " . كان على العراقيين ان يعالجوا بأنفسهم مثل هذا الصراع بكل لباقة وذكاء ورؤية عاقلة بدل بقاء هذا الشرخ في تقييم اكبر خليفة للعالم الاسلامي يصفه السنة بالعظمة ويتهمه الشيعة بالإجرام ! خصوصا وان مجتمعاتنا لا تعرف حاضرها ومعاصرتها بقدر ما تعيش في معبد ماضيها ليل نهار ..

هكذا وجدنا في ظل واقع تاريخي يتناصف الرأي العراقي مناصفة في الضد بين طرفين ، فان كل الازمنة لن تشهد مصالحة تاريخية حقيقية بين الجانبين ، اذ بقي كل طرف يتخندق في خندقه ، ويعزف ما الذي يريده ويؤمن به بطريقة تمجيدية او بردود متوحشة او بأسلوب باطني ، او بنهج مستتر  . ان خلاصات واستنتاجات تاريخية تفسر سبب كراهية الشيعة لهارون الرشيد .. ولماذا يكرهونه ويمقتون اسمه ؟ ليس لأنه رسم مشروعا عربيا حضاريا يمثله باعتزاز العديد من الرجال الأقوياء في بغداد منذ تأسيسها كعاصمة للعالم الاسلامي عام 762 م ، ولم يقتصر الامر في وقوفه ضد أي نفوذ فارسي مقيت يضارعه من اجل التهام بغداد عاصمة العالم الاسلامي منذئذ ممثلا ذلك النفوذ بالوزراء البرامكة الذين اعتمد عليهم ولكنهم اتهموا بانهم كونوا لهم طابورا خامسا في قلب العاصمة بغداد ، وقد رفضت غيرة هارون طلب وزيره جعفر البرمكي ان يتزوج بأخته العباسة ، فكان ان اعدم جعفرا وسحق البرامكة سحقا ! ولكن اكبر خطأ ارتكبه هارون الرشيد ، - وهو لم يعترف بذلك ابدا - وعدّ خطأ جسيما قيامه باضطهاد الامام الشيعي الاكبر موسى الكاظم ( ابن الامام جعفر الصادق) وقولهم بتسميمه ، وذلك نظرا لمعارضة الامام الكاظم نظام هارون الرشيد السياسي معارضة سياسية ساخنة على امتداد سنوات طوال. وبالرغم من نفي الرشيد التهمة ، الا انه كان قد سجل بتلك الحادثة المشؤومة ذكرى مؤلمة لتاريخ انقسامي يمثله الامام الكاظم في ضريح ديني رائع يقع في شمال بغداد وسميت المنطقة باسمه . وبقي رمزا على مدى قرون وتم التركيز على الصراع لمواجهات ساخنة ومكبوتة بين الطائفتين السنيّة والشيعيّة ، في حين بقي ضريح هارون في طوس بايران حاليا حيث توفي ودفن هناك ، ولكن بقي اسمه رمزا للعصر الذهبي الذي اقترن به في بغداد سيدة البلاد كما غدت على عهده ، والتي تغنى باسمه الشعراء والادباء والفنانين والمؤرخين والبلدانيين .

ان ما سجله جوستين ماروزي من تواريخ رائعة عن بغداد التي لم تزل على قيد الحياة ، كعاصمة عربية اسلامية عاشت تناقضات خفية طورا وعلنية اطوارا اخرى ممثلة تماما للفروق الدقيقة في قصة تاريخية تعتبر سفرا خيرا لقوة تلك التناقضات التاريخية مرورا بهولاكو ومأساة بغداد على ايدي جيوشه وابادته لكل من وقف ضده والانتقام من السنّة على حساب الشيعة .. مرورا بسيرة ذاتية للطاغية المسلم التتري تيمورلنك . وتبرز التناقضات المحتدمة بأجلى صورها بين الشيعة والسنة وانقلابية مدينة السلام الى مدينة تسبح بالدماء واستمرار القمع المخيف لهذا الطرف او ذاك سواء على ازمنة العباسيين او المغول او التتار او الترك او الفرس او العثمانيين او البريطانيين او العراقيين الملكيين او الرؤساء الجمهوريين الذين اختتم زمنهم صدام حسين وانتهاءً بالحكم الحالي الذي ثبّته الأميركيون بصيغته الطائفية المثيرة للنزاعات والصراعات الدموية من خلال احزاب دينية طائفية في عملية سياسية فاشلة سحقت العراقيين وقسمتهم واثارت ردود فعل عميقة الجروح باسم الديمقراطية التي لا تؤمن بها تلك الاحزاب الدينية ابدا ، ولكن استخدمتها سلما لنظام حكم بدائي غير مدني افشل الدولة ومزق المجتمع وعبث بالموارد وانهك البلاد والعباد   .

إن مأساة بغداد على يد هولاكو الذي دخلها اثر خيانات البعض من ابناء الطابور الخامس هي مأساة تاريخية حقيقية بكل معنى الكلمة .. ففي العام 1258م / 656 هـ  ، كتب القائد المغولي هولاكو للخليفة المستعصم بالله يطالبه بالاستسلام ، وقد خدع ذلك الخليفة من قبل وزيره بالتسليم من اجل انقاذ بغداد واهلها ، ولكن لينفذ هولاكو وعيده وتهديده بتدمير بغداد تدميرا ساحقا ماحقا ومنفذا ابشع جرائمه . وفي مواجهة التحدي وخيانة مفضوحة من الداخل ، أحرقت القصور والمساجد، والكليات، والأسواق والمكتبات ونحر أهل العلم والادب وهم من العلماء والاعيان والرجال الاباة كما تنحر الخراف". وكانت الحصيلة النهائية للقتلى في تلك المذبحة 200,000 قتيل ..

وبعد اقل من 150 سنة ، استعادت بغداد حاضرتها وقوتها وازدهرت ثانية اذ استجابت للتحديات استجابة تاريخية رائعة ، ولكنها فقدت مركزيتها للعالم الاسلامي ، اذ كان العثمانيون يحاولون انشاء مركزية امبراطورية لهم .. وعند مطلع القرن الخامس عشر ، دخل الزعيم التتري تيمورلنك بغداد عام 1401 ، وعبث ببغداد عبثا مزعجا ونالت بغداد من قسوته وشراهته لشرب الدم . وكما كانت قد بنيت عدة أبراج تتألف في الاصل من عشرات آلاف الرؤوس المقطوعة لأهل السنة عند غزو هولاكو ، كذلك حدث الامر نفسه على يد تيمورلنك الذي كان شيعيا . ولكن هذا الاخير ، انتحرت دولته بعد سنوات لتغدو بغداد مدينة خاملة ازاء القسطنطينية / استانبول التي فتحها السلطان محمد الفاتح عام 1453ليجعلها عاصمة له ، وغدا العثمانيون اسيادا للعالم الاسلامي قبل ان تبدأ عند بدايات القرن السادس عشر حياة الدولة الصفوية بقيادة الشاه اسماعيل الصفوي ودخوله العراق عام 1501 وبدأ الصراع العثماني – الايراني للاستحواذ على كل من العراق وقوقاسيا . وعليه ، فقد كانت بغداد قد عانت على مدى مائة سنة من غزوتين مفجعتين في تاريخها الدموي : تيمورلنك التتري عام 1401 والشاه اسماعيل الصفوي 1501 !

ولقد حرر السلطان العثماني سليمان القانوني بغداد – كما يذكر مازوري - من حكم الشاه اسماعيل الصفوي عام 1534 م، وبقيت تعيش اقل من مئة سنة عندما غزاها الشاه عباس الثاني عام 1623م وبقيت تحت النفوذ الصفوي حتى العام م1640م عندما استعادها السلطان مراد الرابع .. وتعرضت بغداد والموصل الى غزوات ايرانية عديدة ابان القرن الثامن عشر كان اشرسها حصار الموصل من قبل نادرشاه عام 1743م والذي فشل فشلا مهينا عند اسوارها . وعليه ، فان الايرانيين ما زالوا يذكرون هزيمتهم النكراء امام اسوار الموصل التي دافع عنها اهلها دفاعا مستميتا وانتصروا انتصارا عجيبا ليحفظوا كل العراق من امتدادات ايران زمنا طويلا . ان هذا " التاريخ " الذي كتبه المؤرخ مازوري نقلا عن قافلة من المؤرخين العراقيين وغير العراقيين ربما لا يعترف به كل العراقيين ، فهناك منهم من يرفضه رفضا تاما ، كونه يتعاطف مع ايران او يتعاطف مع مذهبه ليؤمن بأن لتاريخ العراق الوجه آلاخر  !

ولقد زار بغداد العشرات من الرحالة والاثاريين الاركيولوجيين والمستكشفين الاوربيين ابان القرن التاسع عشر ، وازداد ثقلها الجيوستراتيجي ابان النصف الثاني منه عندما حكمها الوزير مدحت باشا لاقل من ثلاث سنوات ، واجرى جملة اصلاحات عليها وامتد نفوذها نحو اعماق الخليج العربي .. كما شهدت بغداد اعترافا كونها عاصمة للعراق منذ عهد السلطان سليمان القانوني 1520- 1566 م وطبقت على العراق جملة من قوانين التنظيمات العثمانية وخصوصا ما يتعلق بالأراضي والطابو والتسوية والادارات والمياه والاوقاف .. ولقد عانت بغداد واخواتها المدن العراقية الرئيسية من الحرب العالمية الاولى 1914- 1918 اذ سيق شباب العراق الى ساحات حرب سفر برلك .. واحتلها البريطانيون عام 1917 بقيادة الجنرال مود ، اذ كان العراق يتعرض للاحتلال البريطاني وبعد بغداد ، سقطت الموصل بيد الانكليز بعد ساعات من اعلان هدنة مدروس في اكتوبر / تشرين الاول 1918 ، واصبحت بغداد عاصمة بيد الانكليز الذين وجدوا صعوبة بالغة في حكمهم العراق اثر انتفاضات وثورات نشبت عام 1920 ، فتأسس النظام الملكي العراقي عام 1921 وعهد بالقيادة الى الضباط العراقيين الشريفيين الذين وقف على رأسهم مؤسس العراق المعاصر الملك فيصل الاول ..


انتظروا الحلقة الثالثة

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

738 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع