سنّة العراق.. المأساة الكاملة (1-2)

                                   

                    د. محمد عياش الكبيسي

السنّة هم وجه العراق وتاريخه الوضّاء منذ الفتح الإسلامي الأول على يد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وإلى أن سقطت بغداد تحت وطأة التحالف الأميركي الإيراني فانقلب عليهم كل شيء وأصبحوا اليوم في نكبة حقيقية لم يعرف لها التاريخ مثيلا.

نعم لقد نجح أهل السنّة في طرد الجيش الأميركي في أسرع عملية تحرير تشهدها المنطقة، وتكبد الغزاة الكثير من دمائهم وأموالهم وهيبتهم وسمعتهم، وكان الاعتقاد السائد أن ضرب (رأس الأفعى) والمسبّب الأول في تدمير العراق سيجعل من معاقبة الأذناب وقطع شرورهم أمراً أهون وأيسر، و(أن الذين جاءوا مع الدبابة الأميركية سيخرجون معها)، ثم تبيّن أن هذه كانت مجرد شعارات وأمنيات لا أكثر.

أذكر في تلك الأيام اتصل بي أحد الأصدقاء وأخبرني أن هناك من يحب أن يلتقي بكم، وفعلا تمّ اللقاء وإذا به واحد من أبرز العقول العربية الاستراتيجية المعروفة، فوجئت حقيقة أن الرجل كأنه عاش في العراق أكثر عمره، يتحدّث عن أحياء بغداد وديالى وبابل والأنبار وغيرها، عن النسب السكانية، والمنافذ الحدودية، والتحالفات والمشاريع المتشابكة ..إلخ قال لي بالحرف وبمنتهى الصراحة: إنكم تسيرون في الطريق المعكوس، العراق سيضيع من أيديكم، وسيذهب إلى إيران بأسرع مما تتصورون! كيف؟ قال: إذا خرج الأميركان الآن فليس أمامهم إلا أن يسلموكم لإيران، وأنتم على مواجهة الأميركان أقدر منكم على مواجهة إيران! ثم إن الاحتلال الأميركي مهما طال لن يؤثر في هوية العراق ومستقبله كالتأثير الإيراني الذي يستهدف ابتلاع العرق كله أرضاً وتاريخاً وثقافة وهوية! كان الرجل يتكلم والدموع في عينيه وكأنه بالفعل يرى ما لا يراه العراقيون أنفسهم، الرجل لم يكن بالضد من المقاومة، بل كان يرى أن تأمين العراق أولا من التدخل الإيراني بأي وسيلة كانت سيسهّل عملية التحرير الشامل، فالمسألة عنده مسألة تقديم وتأخير وترتيب للأولويات لا أكثر.

ينبغي أن نعترف هنا أن سنّة العراق لم يكونوا يمتلكون رؤية شاملة، ولا تصوّرا كليا عن مآلات الأمور ونتائجها البعيدة، كانوا يجيبون عن الأسئلة المطروحة بطريقة أحادية ومفككة، رغم التضحيات التي قدموها ولا يزالون يقدمونها على أكثر من صعيد.

خرج الأميركيون بالفعل وصرنا وجها لوجه أمام إيران، بحدود مفتوحة تزيد على الألف كيلو، وبمليشيات متنوعة، وبأحزاب سياسية ولاؤها المطلق لإيران وليس للعراق، وبمرجعية دينية وشعبية (عليا) لا تملك الجنسية العراقية أصلا، الأميركان كنا نقاتلهم لأنهم جنود يتحركون على الأرض، لكن هؤلاء كيف نتعامل معهم؟!

بطرق خجولة ومترددة حاول بعض السنّة أن يجرّبوا حظهم في المشاركة السياسيّة، لكنّهم في كل مرّة يجدون أنفسهم بين مشروع خارجي ضاغط ترغيبا وترهيبا وتهميشا وبين حاضنة مفككة ومشككة تنتظر الكثير وتلوم على القليل، وقد زاد من هذه الحالة وجود بعض السياسيين الذين آثروا مصالحهم الشخصية وتحسين أوضاعهم المعيشية على كل اعتبار.

لانغلاق الأفق السياسي واستبعاد الحل العسكري انطلق أهل السنة بحشود وصفت بالمليونية في المحافظات الست يطالبون بحقوقهم أسوة بالمكونات الأخرى، ويرفعون مظلوميّتهم إلى العالم كله بطريقة حضارية وسلمية، لكن العالم كلّه كان في صمم حتى أقرب المقربين، مما أوصل رسالة واضحة للمالكي أنه في حل تجاه ما يراه مناسبا للتعامل مع هذه الحشود.

أخذ المالكي يهدد بإنهاء هذه (الفقاعة) بقوة السلاح، ولم يجد قادة (الحراك) أمامهم سوى خيارين اثنين؛ الاستعداد للمواجهة المسلحة، أو الخيار الدستوري المتمثل بإعلان الإقليم، انقسم الجمهور وراح التيار (الوطني) يقذف منصات الحراك بالزجاجات الفارغة اعتراضا على طرح خيار الإقليم لأنه من وجهة نظرهم ينذر بالتقسيم، بينما يرى الفريق الآخر أن الحل العسكري هو الذي سيقسّم البلاد، وكانت مجادلات حادة واتهامات متبادلة -على طريقة العراقيين في حلّ خلافاتهم- مما جعل قادة الحراك يتراجعون إلى الخطابات العمومية التعبوية البعيدة عن أي حل عملي، حرصا منهم على (وحدة الصف) ولو كانت وحدة بلا حل.

إيران هي الأخرى لم تتوان في إرسال رسالتها الصريحة عبر مندوبها قاسم سليماني أن الإقليم خط أحمر، وحينما حاول محافظ ديالى أن يجتاز هذا الخط تدخّلت المليشيات بشكل سافر واحتلت مبنى المحافظة، وما زال المحافظ يعيش خارج العراق بسبب تلك التجربة القاسية، بعد ذلك أخذ المالكي وأركان حزبه يرددون أنهم لن يسمحوا بتقسيم العراق تحت أي مسمّى في إشارة واضحة للخيار الذي طرحته منصات الحراك، وتناسى المالكي أن الأحزاب الشيعية هي التي كانت تنادي بالإقليم الشيعي، وأنها هي التي ثبّتت في الدستور أن العراق دولة فيدرالية!

لقد تمكن المالكي بالفعل من إغلاق ملف الإقليم السنّي بالكامل وتحت أي عنوان جاء، كما تمكن أيضا من إنهاء الحراك السلمي بضربه في الحويجة أولاً ثم في مركز ثقله الأنبار، لتندلع مواجهة مسلحة وواسعة بين (جيش المالكي) وبين أبناء العشائر، وقد صُدم المالكي ومن وراءه بسرعة انهيار الجيش واستسلام العديد منهم وأصبحت قصة (الدشاديش) وصمة عار للمالكي وحزبه بقدر ما هي نقطة فخر واعتزاز لعشائر الأنبار، كما أن هذه القصة لها بعد آخر؛ حيث تميّزت ثورة العشائر بهذا الخُلق الكريم عن أولئك الإرهابيين الذين لا يعرفون سوى (التوحّش) والعنف الأعمى.

مشكلة العشائر أنها لا تستطيع أن تتحرك كما تتحرك الوحدات العسكرية النظامية، فهي تقاتل على أرضها فقط، لأنها في أرضها تشكل وحدة منظّمة ومتجانسة وغالبا ما يكون ذلك في الأرياف الممتدة خارج المدن، أما المدن فتركيبتها الاجتماعية مختلفة تماما، ولذلك يصعب ضبطها خاصة مع تراجع الفصائل المنظمة وضعف الحكومات المحلية واضطراب ولائها.

القوة الوحيدة التي كانت تتمتع بتنظيم متماسك وقدرة فائقة على التحرك والانتقال والمباغتة هي قوة (الدولة الإسلامية) المعروفة بداعش، مما أتاح لها بالفعل فرصة الانقضاض على هذه المدن وبتواطؤ مكشوف من حكومة المركز متجنبة الريف والمناطق التي تسيطر عليها العشائر بادئ الأمر ليبدأ بذلك فصل آخر من فصول المأساة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

951 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع