ولاية الموصل والحقوق الكوردية بعد الحرب العالمية الأولى / الحلقة /20

                                           

ولاية الموصل والحقوق الكوردية بعد الحرب العالمية الأولى / الحلقة /20


     

       

        

* الحجج السياسية لولاية الموصل
1. أهالي ولاية الموصل وجهاً لوجه مع اللجنة الأممية (آراء أهالي ولاية الموصل)
إن آراء الأهالي في ولاية الموصل هي: أولت الحكومة التركية وزناً كبيراً لأهمية رغبات الأهالي في الإقليم المنازع عليه ولاية الموصل، وكانت حجتها الكبرى التي وضعت فيها أكثر ثقلها هي إن الإقليم ولاية الموصل يجب أن يبقى في حيازتها لأن ذلك هو رغبة السكان وأكدت بأن الكرد الذين يؤلفون الأكثرية والترك بنسبة أقل من سكان الإقليم المنازع عليه يفضلون جداً العيش في تركيا كما كان شأنهم منذ أجيال عديدة ومن المحتمل أن يميل العرب أيضاً نحو تركيا. وعلى أي حال فلو جمعوا مع الطوائف غير المسلمة فسيكونون أقلية ولذلك ليس من العدل في شيء ضم الموصل إلى العراق بسبب وجود هذه الأقلية في الإقليم.
وتسند الحكومة البريطانية حججها السياسية كذلك إلى وجهات نظر الأهالي بمدى واسع كما تتصورها هي مؤكدة بأن العرب يفضلون كثيراً الانضمام إلى دولة العراق العربية كتلة واحدة، وأن اليزيدية واليهود يشاركونهم هذه الرغبة في حين يمتلك المسيحيين الرعب من فكرة تسليمهم إلى (أنقرة) (اللورد كرزون) وزير خارجية بريطانيا في مؤتمر لوزان – 23 كانون الثاني 1923) وأما عن الكرد فتؤكد الحكومة البريطانية أنهم لا يرغبون في العيش ضمن تركيا كما دلت على ذلك ثوراتهم المتعاقبة وكما كشف عنه استفتاء العامين (1919 و1921).
في فصل سابق من هذا التقرير برهنت اللجنة على استحالة إجراء الاقتراع الذي تفضله الحكومة التركية ومع هذا فقد بذلت أقصى ما في جعبتها للتأكد من آراء الأهالي في ولاية الموصل المعنيين ولهذا الغرض استجوبت عدداً كبيراً من الأشخاص معظمهم جرى انتقاؤهم من القوائم التي قدمها المستشاران البريطاني والتركي. وجاهدت في المراكز الرئيسة للمناطق الأكثر اتساعاً من البلاد ولاسيما في مدينة الموصل لأجل التأكد من آراء الأشخاص الذين هم على درجة ما من الثقافة والنفوذ كالوجهاء والرؤساء الروحانيين والمنتخبين الثانويين (في أيام الحكم التركي كانت تجري الانتخابات على الطريقة غير المباشرة) وملاكي البيوت والقرى ومن لف لفهم. وواجهت أيضاً عدداً من الشهود قدمت أسماؤهم بوصفهم وجهاء وذوي مكانة وعنيت اللجنة باتخاذ كل وسائل الحيطة لضمان سرية الآراء التي أدلي بها لإشاعة الثقة والاطمئنان في نفوس الشهود. وبلغ مجموع ما استجوب من الأشخاص على انفراد حوالي (800) شخص.
وجابهت اللجنة في بداية عملها صعوبات جدية يعزى قسم منها إلى إحجام كثير من الشهود عن الإفصاح عما يجول في أنفسهم. ومنها يعزى إلى أن عدداً كبيراً من التصريحات قد تأثرت في الواقع بمختلف العوامل التي أثارت بعض الشكوك في أصالة الأجوبة.
وبصرف النظر عن تشجيع أعضاء اللجنة الشهود ومحاولتهم إشاعة الاطمئنان في نفوس المستجوبين بالتأكيد لهم بأن كل أقوالهم ستظل مكتومة. فإن الخوف من العقاب كان كبيراً جداً ولوحظ بنوع خاص وجود خوف من عقاب السلطة الحالية في البلاد. ووجد أكثر من مرة أن الشاهد يحبذ تركيا في السر مفصحاً عن رأيه همساً ليرفع صوته بعدئذ محبذاً الحكومة العراقية كي يبلغ صوته آذان الواقفين في الخارج. ولا شك أيضاً في أن هذا التردد في إعطاء رأي يعود أحياناً إلى الخوف من عقوبات قد ينزلها الترك فيما لو عادوا إلى البلاد، على أن هذا الخوف لم يمنع أي شاهد مسيحي من الإعراب عن رأيه بصراحة. ثم أخذ هذا الخوف يتبدد ويزول شيئاً فشيئاً حتى بات غير ملحوظ وسرعان ما كسبت اللجنة التي شك أحياناً بأنها لجنة حكومية متنكرة - ثقة السكان ولذا أقبل الشهود على إبداء آرائهم إلا القليل - في الفترة الأخيرة من التحقيق.
ما من شك في أن المصالح الشخصية كان لها أثر عظيم في الآراء أحياناً فمن كان يعتبر نفسه من ذوي الحظوة عند السلطة، أيد العراق في حين أظهر ميلاً إلى تركيا أولئك الذين حاولوا عبثاً الحصول على وظائف عامة أو نيل أية مكاسب أخرى. واثر على الآراء أيضاً الحزازات بين زعماء القبائل وفي بعض الحالات كان الشهود يسألون عضواً من اللجنة عما قاله الشخص الفلاني ليعطوا رأياً مخالفاً لما أدلى به نكاية وثأراً بهؤلاء.
وفي مناطق معينة كان واضحاً أن أخلاق الموظفين الشخصية أو إجراءات إدارية معينة (كتعيين موظف عربي كردي في مناطق كردية) كانت تقرر انحياز الأهالي إلى صف العراق والدولة المنتدبة.
وكان لبناء البلاد الاجتماعي أثره البالغ على مسلك كثير من الفلاحين ورجال العشائر. ففي عدد كبير من الحالات لم يكونوا يفعلون أكثر من إحالتنا إلى زعمائهم القبليين أو إلى مالكي قراهم، ولذا اضطررنا في أغلب الأحيان إلى التوجه بأسئلتنا إلى هؤلاء الأشخاص لأنهم كانوا يمثلون عدداً كبيراً من الأهالي. لكنا لم نستطع التأكد دائماً فيما إذا كان نقل الزعماء وملاك الأراضي آراء القبليين والفلاحين أميناً. وعجز عدد من الشهود عن فهم السؤال الذي ما كان يعرفً عنه شيئاً ولا عن الدافع إليه. وأجاب شخص سألناه، قائلاً إنه أراد الإدلاء بمثل ما  أدلى به شخصان آخران ذكرهما. مع  أن هذين الشخصين أدليا في الواقع برأي يخالف رأيه. وفي حالات أخرى كان تأثير دعاية سلطات معينة واضحاً إلى الحد الذي ما عاد للآراء المستحصلة أية أهمية. وفي بعض المناسبات كان أعضاء الوفود الذين قدموا للإعراب عن رغبتهم الشديدة في الانضمام إلى العراق يصرحون في الخفاء أنهم من أشد أنصار الترك، لذلك قررنا أن لا نعير اهتماماً للوفود أو للعرائض.
هناك شهود استجوبوا مرتين فانقلبوا في الاستجواب الثاني على الرأي الذي أدلوا به في السابق. وكثيراً ما وجدنا الفلاحين يقولون أنهم يريدون أن يكونوا ضمن الدولة التي ستكون فيها عاصمة اللواء (يقصدون الموصل). ومجمل القول كان من الصعب تقدير أهمية مختلف الشهود وقيمة شهاداتهم. وكقاعدة عامة كنا نطلب من الشهود الإدلاء بالأسباب التي تحملهم على قول ما يقولون، وكثيراً ما كانت هذه الأسباب ذات ميزة خاصة إذ تعطي بعض الفكرة عن المستوى الثقافي للشاهد وعن أصالة رأيه.
وكسب رأي أدلى به كثير من الشهود لتفضيلهم العراق، هو أن الأمن والنظام مستتبان بشكل لم يكن معهوداً أيام الحكم التركي وأن التعليم قد تطور كثيراً وزادوا على هذا قولهم أن الفضل في تحسن الأوضاع الحالية يعود إلى السلطات البريطانية. وأفاد شاهدان أو ثلاثة، أن السبب في تأييدهم العراق يعود إلى إلغاء التجنيد الإجباري. وإنحاز آخرون إلى العراق معللين انحيازهم بافتراض كون الحكومة العراقية أقوى الحكومات لأنها نجحت في احتلال البلاد، وإنه لمن المستحسن أن ينتمي المرء إلى الدولة القوية.
وأدركنا فوراً أن بعض شيوخ العشائر في مناطق قصية فضلوا الحكومة التركية لأنهم كانوا يتمتعون بقدر من الاستقلال يزيد عما يتمتعون به الآن.
وكثيراً ما ألمح إلى الأسباب الاقتصادية أشخاص على حظ من الثقافة عادةً وكان معظم أسباب الميل إلى العراق يستند إلى أهمية العلاقات التجارية مع بغداد ويجب أن نضيف على كل أن إخلاص هذا الصنف من الحجج لم يكن ينجيه عن الشك دوماً، وكانت الحجج الاقتصادية التي قدمتها الحكومة البريطانية معروفة جيداً في المنطقة وكانت أحياناً تذكر لإضافة وزن إلى رأي الشاهد. وفي حالة واحدة رفض الزعماء الجواب عن سؤال اقتصادي بحتٍ يتعلق بالطرق التي تمر بها صادرات الأغنام - زاعماً أن السؤال سياسي.
ووقع الترك وكثير من الكرد والعرب تحت تأثير المشاعر الوطنية أو بالأحرى أيقظتهم المشاعر القومية المتعاظمة وكان تفضيلهم مبعثه الإخلاص وإن لم يكن دوماً حصيلة تفكير ناضج، أخيراً علينا أن نضيف: في حالات متفرقة قليلة كان الخوف من الحكومة سبب التفضيل ولاحظنا أن فلاحي منطقة واحدة أظهروا أعظم السرور لفرصة مقابلتهم المستشار التركي التي أتاحتها لهم اللجنة وكان ممثلوهم قد اقترعوا بالإجماع إلى جانب العراق.
فلنجمل الآن نتائج التحقيقات في مختلف الألوية وبعدها نتصدى إلى النتائج العامة التي يجب اتخلاصها من التصريحات. لقد عبر أهالي لواء السليمانية عن أدق الآراء وأقطعها فالتكوين القومي فيها حسب آخر إحصاء هو بأرقام تقريبية كما يلي:

عرب    75
كرد    189900
ترك    1550
المجموع    191525
    
ومن قابلناه في هذا اللواء السليمانية أعلن عن ميله إلى الحكومة العراقية باستثناءات قليلة، ولم تنقسم الآراء إلا في قضاء [جمجمال] الذي يحد لواء كركوك ويرتبط به إدارياً.
اقتنعت اللجنة بشكل جازم أن رغبات الأهالي قد عرضت بحرية. ومع ذلك لم تجد فيهم أي ميل خاص نحو الحكومة العربية. لقد رفضوا الاتحاد بتركيا وأعلنوا عن رغبتهم في وحدة اقتصادية فحسب ضمن الإطار العراقي. إن فيهم ميلاً واندفاعاً قوياً للحكم الذاتي والمطالبة باستعمال اللغة الكردية في التعليم والإدارة والمحاكم.
وكان ثم الشعور أيضاً بضرورة الاحتفاظ بمعاونة المستشارين البريطانيين فترة من الزمن ورفضوا رفضاً باتاً احتمال قيام حكومة محلية دون المساعدة الأوروبية.
وجدنا في هذا الإقليم شعوراً وطنياً كردياً وإن كان بعد فتياً فهو معتدل ومعقول. وقد أعرب الأهالي عن رغبتهم في الاستقلال التام بوصفه أسمى غاية فقد كانوا من الجهة الأخرى مدركين فوائد الوصاية الواعية الحصيفة.
وما من شك في أن كفاءة الإداريين البريطانيين في هذا الإقليم وحسن تبريرهم كان لها الأثر الكبير في حالة الأهالي الفكرية. في لواء كركوك كان الإجماع أقل. وكان التكوين القومي لهذا اللواء هو كما يلي:

عرب   35650
كرد    47500
ترك    26100
مسيحيون    2400
المجموع    111650
            
أعلن المسيحيون كإخوانهم في المناطق الأخرى تفضيل العراق على ترك الذين يعيش معظمهم في مركز اللواء مدينة كركوك. وفي الأماكن القريبة من الطريق الذي يصل [آلتون كوبرو بكفري] فقد أعلن معظمهم تفضيلهم تركيا. وإن وجدت أقلية منهم تفضل العراق لأسباب اقتصادية.
وإنقسمت الآراء بين الشهود العرب والكرد قد يكون متوقعاً أن يفضل معظم العرب الانضمام إلى العراق لكن الواقع هو أن عدداً كبيراً من آرائهم، كانت إلى جانب تركياً.
ولو أحصينا الآراء الكردية مجرد إحصاء بدون تحليل فسنجد أغلبية يعتد بها، تركية الميل ومن الناحية الثانية تشير آراء زعماء الكرد الكبار إلى أنهم أكثر ميلاً إلى العراق. وعلينا أن نستدرك فنقول أن عدة شيوخ من هؤلاء ذكروا أنهم يتسلمون إعانات مالية من الحكومة العراقية لحراسة الطرق. وكقاعدة عامة ظهروا وكأن الأصوات أعطيت بحرية ونفوذ السلطة لم يكن محسوساً جداً. فيما يكشف لنا لواء أربيل عن الأرقام التقريبية التالية:

عرب    11700
كرد    170650
ترك    2780
مسيحيون    3900
يهود    2750
المجموع    191780

في هذا اللواء (أربيل) كانت وجهات النظر السياسية لمعظم قضاء كويسنجق تلفت النظر. فأغلبية أهاليه تتبنى عين المطامح التي وجدناها عند أهالي السليمانية. وكان فيه عدد لا يستهان به من الرؤساء المتعلمين حيث يسكن القضاء نحو ستين ألف نسمة أغلبيتهم الساحقة من الكرد. وفي قضاء أربيل (المركز) فضل تركيا كل الترك من سكان المدينة (تركيا) وكل السكان الذين هم من أصل تركي على العموم. وهو رأي يشاركهم فيه عدد كبير من الكرد والعرب. على أن زعماء القبائل الكردية لم يكونوا ليرضوا بديلاً عن دولة كردية حرة تحت الوصاية الأوروبية وهم يفضلون بريطانيا.
وكان ثم بعض من رغب في الضم إلى العراق شريطة إبقاء الانتداب البريطاني فإن لم يتحقق الشرط، فهم يفضلون حكومة تركية على أية حكومة عربية. وإن نحن أخذنا آراء هذا القضاء ككل فقد أظهرت أغلبيته رغبة تركية.
وكان سكان قضاء [رواندوز] القريب من الحدود التركية أكثر تأخراً من سكان الأقضية الأخرى وفضل معظم الشهود العراق ولكن يصعب جداً تقدير مدى ما كانت درجة فهمهم للسؤال. وعلى كل فبسبب موقع هذا القضاء الجغرافي نرى أنه يجب أن يكون مصيره مثل مصير قضاء المركز.
وفضل اليهود وغالبية المسيحيين في أنحاء اللواء أربيل كافة حكومة عراقية تحت الانتداب وأن التكوين القومي للواء الموصل أكثر تمازجاً واختلاطاً وهو كما يلي:

عرب    119500 [منهم 47000 في المدينة]
كرد    88000
ترك    9750
مسيحيون    55000 [منهم 4000 في المدينة]
يهود    7550 [منهم 4000 في المدينة]
المجموع    306000 [منهم 96250 في المدينة]
    
أظهرت أولى نتائج التحقيقات أن لا وجود لشعور وطني عراقي في الإقليم المنازع عليه ولاية الموصل إلا عند فئة من العرب أوتوا حظاً من الثقافة. وأن هذا الشعور العربي محدود وتشوبه ميول شوفينية، وروح تعصب ضد الأجانب. ووجدنا عند الكرد وعياً قومياً متنامياً، شعور كردي بأدق ما في هذه الكلمة من معنى لا يميل إلى العراق وهو شعور أكثر تطوراً وأقوى عوداً في الجنوب. يتناقص هذا الشعور كلما ابتعد المرء شمالاً حتى يتلاشى عند سهل الموصل وعند قدمات [عقره]. أن مثل هذا الوعي قوي نوعاً ما عند ترك الولاية أيضاً.
إن الافتقار إلى شعور عراقي وطني على أي مستوى يفسر العدد الكبير من تلك الآراء التي لا تفضل البقاء مع العراق إلا بشروط. وكما سبق فأوضحنا أن أشد القوميين العرب تعصباً يفضلون تركيا على عراقٍ تحت الحماية الأجنبية. ومن الناحية الأخرى يقول عدد كبير من زعماء المسيحيين أن شكهم بحكومة تركية أقل من شكهم بحكومة عراقية غير خاضعة لحماية أوروبية، وقد وجدنا عين الميول عند اليزيدية. حينما طلب كرد السليمانية حكماً ذاتياً محلياً واسع الحدود بمساعدة مستشارين بريطانيين. وبالإجمال فالآراء التي فضلت العراق كانت مدفوعة بالمصلحة الخاصة أو بمصلحة المجموع أكثر مما دفعتها جامعة الوطنية.
ومع أن الأنصاف يقضي بالقول أن المشاعر التي انتصرت للعراق كان فاترةً بعض الفتور وأنه لم يكن هناك شك في عدم صحة تأكيد الحكومة التركية على رغبة السكان فيها. فالرأي عند الكرد منقسم ومجموعة السليمانية وما جاورها التي رغبت في الحكم الذاتي ضمن الدولة العراقية، تتألف تقريباً من نصف المجموع الكلي لسكان الولاية (الموصل)، وقد وجدنا بين الترك أنصاراً لبغداد. وهكذا وخلافاً لإدعاء الحكومة البريطانية، لم تكن اللغة ولا القومية دليلاً يوثق به دوماً على وجهات النظر السياسية، وكثير من الطبقات العربية الفقيرة انحازت إلى الترك. وكان التصريح بهذا الولاء يقترن عادة بتعابير عاطفية حارة.
هنالك نقطة أخرى وهي أنه يكاد لا توجد منطقة واحدة تحتوي على عدة نواحٍ متجاورة (عدا لواء السليمانية) وفيها ما يقرب من الإجماع على تفضيل أحد طرفي النزاع. ومع أن الغموض يشوب النتائج النهائية فإنه مع هذا يكشف بوضوح ضعف الحجة التركية عندما تريد أن تتعلل بها بخصوص ولاية الموصل كلها. لكن لو أخذنا القوميات والمناطق كلاً على حدة، فلن نجدها تؤيد وجهة النظر البريطانية تأييداً مطلقاً.

2. المسألة الآشورية (الآثورية) في ولاية الموصل
* خلاصة الحجج:
لم تُثر في [مؤتمر لوزان] قضية إعادة الأشوريين النساطرة إلى وطنهم شمال حدود ولاية الموصل، وإنما صدر من [اللورد كرزون - وزير خارجية بريطانيا] مجرد تنويه بهم في "مذكرة حول الموصل" موجهة إلى [عصمت إينونو باشا] مؤرخة في الرابع عشر من كانون الأول عام 1924. قال: "إن النساطرة الذين طردتهم العساكر التركية من منطقتي [جوله ميكر] والحدود الإيرانية أثناء الحرب ومنهم ألوف أثناء هربهم إلى العراق مقرهم الحالي، سيقاتلون حتى الموت ليحلوا دون ضم مناطق سكناهم إلى أناس هم بالنسبة لهم رمز الاضطهاد". فرد [عصمت إينونو] قائلاً "إن النساطرة اساؤوا التصرف عندما أغارت جيوش روسيا القيصرية على ولاية [وان] إزاء المسلمين شركائهم في الوطن، أولئك الذين عاشوا معهم بوئام وأمن تام قروناً عديدة. لقد اتسم تصرفهم هذه بالوحشية والغدر بالمسلمين، مما اضطروا معه إلى ترك البلاد صحبة الروس عند تقهقرهم [مذكرة عصمت إينونو باشا إلى اللورد كرزون - وزير خارجية بريطانيا بتاريخ الثالث والعشرين من كانون الثاني عام 1922، والمحاضر - المجلد الأول: الصحيفة 282].
ولم تثر الحكومة البريطانية المسألة إلا في مؤتمر القسطنطينية المنعقد في شهر أيار عام 1924 عندما اتخذتها حجة لتوسيع الحدود العراقية.
وفي بداية شهر نيسان 1924 أبلغت الحكومة البريطانية حكومة العراق باعتزامها طلب اقتطاع جزءٍ من الأراضي الآشورية وإلحاقه بالعراق. وفي عين الوقت شرحت الفوائد التي سيجنيها العراق من وجود شعبٍ محارب متحدٍ بالعرب بروابط من الصداقة والشعور بالجميل على حدوده الشمالية. وسألت هل أن حكومة بغداد مستعدة لتؤمن بعض الأراضي المتروكة في المناطق الشمالية للآشوريين الذين لم يتم استقرارهم إذا تطلب الأمر ذلك بشروط حسنة؟ وسالت الحكومة البريطانية أيضاً. هل إن الحكومة العراقية مستعدة لمنح كل الآشوريين عين الاستقلال المحلي الذي تمتعوا به قبل الحرب في الظل الحكم التركي؟ فردت الحكومة العراقية في الثلاثين من نيسان عام 1924م بالإيجاب.
وشرح "سر برسي كوكس – المندوب السامي البريطاني في العراق" الاقتراح البريطاني الجديد في مؤتمر القسطنطنية (19 أيار 1924) بالعبارة التالية:
"... إضافة إلى ما تقدم وما دامت المفاوضات في مؤتمر لوزان قد انقطعت. فإن مشكلة واحدة تزايدت أهميتها في عين حكومة جلالته. وأعني بها مستقبل الآشوريين باستثناء من كان في البلاد الإيرانية. ترى حكومة جلالته بأقوى دافع من الشعور بالمسؤولية أمر ضمان استقرارهم بشكل يحقق لهم أمانيهم القومية ومطالبهم المعقولة قضية واجبةً، فإن حكومة جلالته لا تستطيع التغاضي عن ندائهم الحار بطلب استقرارهم في وطنهم السابق تحت الحماية البريطانية. وبالغ ما بلغ وقع هذه الحال الطيب على العالم المسيحي كافة فإن حكومة جلالته لا تتمكن لأسباب مختلفة من التفكير بتوسيع نطاق مسؤولياتها إلى هذا الحد الخطير، في الوقت الذي لا تبدي أي استعداد للاستجابة إلى كامل مطاليبهم. لهذا قررت حكومة جلالته وبهذه المفاوضات أن تحاول تأمين حدود تحقق من جهة المتطلبات معترف بها لمعاهدة حدودٍ جيدة، وتسمح من جهة أخرى بتوطين الآشوريين في مجتمع واحدٍ ضمن حدود الأراضي التي ستتولى حكومة جلالته الانتداب عليها تحت إشراف عصبة الأمم. وإن لم يتسن تأمين هذا الوطن في مساكن أسلافهم فليكن في مناطق مجاورة على كل حال. إن هذه السياسة المرسومة لاستقرار الآشوريين تحظى بموافقة الحكومة العراقية وتعاونها الكامل. وهي من جهتها مستعدة لتقديم المساعدة الضرورية لتحقيق هذه الغاية لذلك فقد تسلمت تعليمات للإدعاء بحدود مؤشرة على الخريطة التي أبسطها الآن أمامكم".
وواصل "السير برسي كوكس" كلامه قائلاً أنه يميل إلى الاعتقاد بأن الحكومة التركية مستعدة للموافقة على اقتراح الحكومة البريطانية، لأن الإدارة والسيطرة على هذا الصقع والمنطقة المشحونة بالعداء والاضطرابات، بالمجتمعات كان مصدر إحراج دائم للحكومة التركية في الماضي ومصدراً لا ينضب معينة للاحتكاك مع الدولة العربية. وألمح بأن هذا الاقتراح لا يمثل أقصى إدعاء يمكن تقديمه نيابة عن الأقليات المسيحية، فالواقع إن الخط كان قد رسم بدفاع رغبة قوية لمواجهة رغبات الحكومة التركية بقدر الإمكان، فإن لم يتم التوصل إلى اتفاق على خطوط الاقتراح المقدم الآن إلى الحكومة التركية، فسوف تحتفظ الحكومة البريطانية بكامل حريتها في العمل بخصوص الحدود التي قد تطالب بها أمام عصبة الأمم.
وفي جلسة الحادي عشر من أيار عام 1924 تضمن خطاب [فتحي بك] الرد التالي حول المسألة الآشورية: بعد إفصاح فخامتكم عن الرغبة في مواصلة المفاوضات عند النقطة التي تركها [اللورد كرزون] في [مؤتمر لوزان] أجدكم الآن تتركون هذا الموقف لتثيروا مسألة جديدة هي مسالة مستقبل الآشوريين. وضماناً لمستقبلهم طلبتم إلحاق أراضٍ معينة يرفرف عليها الآن علم الجمهورية التركية، بالأراضي التي هي تحت الحماية البريطانية. فإن قلت أن طلبكم هذا لم يسلمني إلى الدهشة فإني أخالف الحقيقة".
ذكر رئيس الوفد البريطاني في مؤتمر لوزان الرغبة التي تخالج حكومة جلالته بمنح الحكم الذاتي للشعب الكردي. وفخامتك الآن تعرض مطالب للآشوريين. فلعلك تسمح لي بالإشارة على كل حالٍ إلى إنك لم تلاحظ عند بسط هذه المطاليب أن الآشوريين يؤلفون أقليةً تكاد لا تذكر في الولاية الموصل. وأنكم بدفاعكم عن مصالح هذه الأقلية لم تولوا مثل هذه العناية الشديدة التي تطلبها المسألة لأماني أغلبية كبيرة جداً وأعني بها الترك والكرد. وخاصة الأكراد الذين هم  غالبية ولاية الموصل.
إن الوفد التركي لا يجد سبباً معقولاً لإبعاد مئات الألوف من الترك والكرد وفصلهم عن بلادهم الأم لأجل وضع عشرات من الألوف قليلة بعضها مهاجر من إيران ـ تحت الحماية البريطانية.
إن الآشوريين مسيحيون ولذلك لا يفوتني فهم الدافع الذي يحمل الحكومة البريطانية على معاملتهم بهذا الشكل الخاص. مع هذا فإن الوفد التركي سيشير إلى أن المواطنين جميعاً وبغض النظر عن الدين والقومية يتمتعون بحقوق متساوية وأن أماني الشعوب الوطنية التي لا يمكن خنقها يجب في رأي الوفد التركي توضع فوق كل الاعتبارات الأخرى. فهو في الوقت الذي يقدر تلك النوايا الإنسانية التي أبدتها الحكومة البريطانية لحماية المسيحيين يشعر أن من واجبه القول بأنه لا يستطيع أن يفهم كيف تريد تلك الحكومة التضحية بمصالح المسلمين لهذه الغاية. لقد تكرمت فذكرت أن الإدارة والسيطرة في تلك الأصقاع الوعرة كانت دائماً مصدر حرج ومتاعب للحكومة التركية، وليس في وسعي أن أتذكر أي مصاعب خطيرة واجهتها الإدارة التركية التي أقامت قروناً في ذلك الإقليم. ويصعب جداً أن أتذكر أي مناسبة عومل بها موظف تركي معاملة بعيدة عن الاحترام والاعتبار. وعلى كل حالٍ لو كان الغرض الإداري سبباً للتنازل عن الأراضي، فلي الحق أن أذكركم بدوري بما تعرضت له الإدارة البريطانية من العصيان المسلح والاعتداءات خلال السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة في العراق. وإني لأرغب أيضاً في القول أن النساطرة سيظلون يجدون في الأراضي التركية ذلك السلام وتلك الطمأنينة اللذين تمتعوا بهما قروناً عديدة، شريطة أن لا يكرروا الأخطاء التي ارتكبوها بتحريض من الأجنبي في مبدأ الحرب.
وفي جلسة الرابع والعشرين من أيار عام 1924م علق "السير برسي كوكس" على أقوال "فتحي بك" حول المسالة الجديدة فقال:
"أذكر أن معاليكم اشار إلى أن الحجج التي أدلى بها [اللورد كرزون] في [مؤتمر لوزان] لا يمكن الركون إليها لدعم خط الحدود المقترح الآن وأني لأرغب في تذكيركم بأن [اللورد كرزون] لم يحاول وصف خط معين للحدود الشمالية في الوقت الذي كان مصراً على موقفه من ولاية الموصل. وقد ترك هذه المهمة عمداً لخبراء الطرفين. عن الوضع الذي حدده [اللورد كرزن] في [مؤتمر لوزان] عُدل بحكم الضرورة نوعاً ما، نتيجة لمعلومات طبوغرافية أكثر تفصيلاً مما تيسر قبلاً، وبسب الشعور بالحاجة الماسة إلى تأمين مستقبل الآشوريين، قررت الحكومة البريطانية الآن المطالبة بالخط المؤشر على الخرائط التي حملتها لكم في الخريطة الثانية".
ثم ذكر [السير برسي كوكس] أن المسالة لا تستبطن نية ضم الأراضي المطالب بها ـ إلى الحماية البريطانية أو إخضاع مصالح العدد الكبير من السكان الكرد لمصالح الأقلية المسيحية في ولاية الموصل. إن الشعب الكردي قانع تماماً بالحكم الذاتي المحلي الذي منح له وأن مسألة الآشوريين إنما وضعت على بساط البحث لعلاقتها بالحجج الطبوغرافية والسوقية المقنعة دعماً لإدعاء الحكومة البريطانية بخط حدود أبعد قليلاً عن الخط الذي اقترح مبدئياً مما يجعل من الممكن توطينهم في مجتمع واحد قد يكون عين موطنهم الأول وقد يكون مجاوراً له في الأراضي التي خول صاحب الجلالة البريطانية وضعها تحت انتداب عصبة الأمم. ووجهة نظر النساطرة لا تطابق وجهة نظر [فتحي بك] في أنهم سيجدون الأراضي التركية موطن السلام والرخاء اللذين تمتعوا بهما في الماضي شريطة أن يعدلوا عن نشاطهم الذي مارسوه أثناء الحرب. فما زالت ذكرياتهم حية جداً وهي تختلف تماماً عن أقوال [فتحي بك] حول المعاملة التي لقوها على يد الترك في الماضي.
إن مناقشات اليوم الأخير من المؤتمر تنطوي على أهمية من نواح مختلفة:
أكد [فتحي بك] أن هذا المؤتمر انعقد بموجب المادة الثالثة من معاهدة [لوزان] للتوصل إلى اتفاق ودي حول الحدود بين تركيا والعراق. لكنه بدأ بالإشارة إلى أن حدود العراق الشمالية كانت عموماً وكما هو معروف مطابقة للخط الذي عُرض أمام المؤتمر، وأسند قوله هذا إلى ما ورد في دائرة المعارف البريطانية. ثم نوه بأن ولاية الموصل هي جزء من تركيا قانونياً إلى أن تبرم اتفاقية تثبيت الحدود - ولا يغير وجودها تحت الاحتلال البريطاني المؤقت شيئاً من الحقيقة. وفي حين لم يفعل المندوب التركي أكثر من عرضه المسالة التي ينبغي حلها بموجب المعاهدة، خلق المندوب البريطاني مسالة جديدة بطلبه اقتطاع أرض إضافية تعود إلى ولاية حكاري التركية. وهي مسالة لم يفكر أحد بإثارتها في مفاوضات [لوزان] وليس من الممكن أثارتها من جهة المعاهدة لا روحاً ولا نصاً. فإن أصرت الحكومة البريطانية على الخروج عن موضوع المؤتمر بصياغة مطالب جديدة حول ولاية حكاري فليس له إلا الاستنتاج بأنها تريد لهذه المفاوضات الإخفاق.
إن إعراب الحكومة البريطانية عن حقها في تقديم إدعاء أوسع، نيابة عن العراق عندما عرض النزاع على مجلس عصبة الأمم لا يمكن أن يشمل أي شيء خارج حدود النزاع موضوع البحث، فمثل هذا الإدعاء هو مخالف لنص المادة الثالثة من المعاهدة وعندما وافقت تركيا على عرض النزاع لتحكيم عصبة الأمم لم تكن مستعدة لمواجهتها بإدعاءات حدودٍ غير محددة ولذلك لا تستطيع الموافقة على بحث أية مسالةٍ لم تتضمنها المادة الثالثة من المعاهدة. في الواقع أن تنازل تركيا بحسب المادة (16) عن حقوقها وملكيتها في العراق لا يمكن أن يعتبر ثابتاً ومبرماً بمعاهدة ما، إلى أن تثبت الحدود بين العراق وتركيا. إذ لا يمكن أن تنشأ قضية تنازل عن أرض في الجزء الجنوبي من حدود لم يتم تثبيتها بعد.
فواضح إذن، أن المندوب البريطاني أثار قضية جديدة لم تكن مدار بحث قط لذلك لا يمكن أن تتعلق بالقضية التي ستعرض على عصبة الأمم بأي شكل كان. وفي أثناء المناقشة التي تلت ذلك أجاب "سر برسي كوكس" على رد [فتحي بك] بقوله: ألا فليفكر أي من يشاء بأن حدود العراق الشمالية يجب أن تتبع الحدود الشمالية لولاية بغداد تقريباً فتفكيره هذا لن يؤخذ مأخذاً جدياً. "إن العراق الذي نقصده هو الأرض التي قبل صاحب الجلالة البريطانية بعد الحرب مسؤوليته عنها أمام عصبة الأمم والحدود التي بحثت في [مؤتمر لوزان] خاضعة لتعديلات محلية ثانوية أصبحت حكومة جلالته مقتنعة بضرورتها على ضوء التحقيقات التي أجرتها والخبرة التي اكتسبتها مؤخراً" وعلى أية حال لم يكن الموضوع يدور حول إعادة ولاية الموصل إلى تركيا.
وفي رأي [فتحي بك] إن الإدعاء بأراضٍ تعود إلى ولاية [حكاري] مخالف لمعاهدة [لوزان] نصاً وروحاً، ولكن [سر برسي كوكس – المندوب السامي البريطاني في العراق] سبق وذكر [فتحي بك] بأن [اللورد كرزون - وزير خارجية بريطانيا] لم يقترح أي حدود معينة في [مؤتمر لوزان] لذلك أدعى أن الخط الذي اقترحه على المندوب التركي يتفق نصاً وروحاً مع المعاهدة.
وخلص إلى القول أن خط الحدود الشمالية لولاية الموصول على قدر معلوماته لم يكن قد ثبت تثبيتاً نهائياً. أن الأوضاع السياسية والقبائلية جعلت هذا الخط الفاصل خطاً مائعاً قابلاً للتحوير بحكم الضرورة. وقد اعتمد هذا الخط على مقدار نفوذ الولاة وعلى شكل الإدارات وعلى اعتبارات أخرى وقتية. زد على هذا إن تقسيماً إدارياً بين الإقليمين لعين البلاد كان يختلف اختلافاً جوهرياً عن حدود دولية بين بلدين. وكرر قوله بأنه لم يكن ثم وجود لأية حدود نهائية ثابتة ولهذا السبب وحده تعذر قبول وجهة النظر التي أجملها [فتحي بك] بقوله أن ما يعتبره جزءً من ولاية حكاري لا يدخل في نطاق بحث المادة الثالثة من معاهدة [لوزان].
فأجاب [فتحي بك] أنه لا يستطيع قبول حجج [سر برسي كوكس] حول التغيير الذي طرأ على حدود ولاية الموصل وأضاف أن ما لديه من معلومات لا تؤيد قيام أحوال كهذه على قدر معرفته.
وأثارت الحكومتان ذات العلاقة القضية الآشورية مرة أخرى عند عرض النزاع على مجلس عصبة الأمم. وتحت عنوان الحجج السياسية قدمت المذكرة البريطانية المؤرخة في الرابع عشر من آب عام 1924 الأسباب التالية دعماً لوجهة نظرها في ضم الآشوريين إلى العراق، على قدر الإمكان: "قرر الشعب الآشوري الصغير في أول أيام الحرب العظمى تبني قضية الحلفاء مع انعزال موقعه في قلب بلادٍ يسيطر عليها الحكم التركي. وانتهز هذا الشعب الفرصة لقطع صلته بحكم أولئك الذين عرضوهم لصنوف الاضطهاد المتواصل في تاريخهم السابق. وتحملوا النكبات العظيمة جراء قرارهم فطردوا من أوطانهم، وهلكت آلاف الأنفس منهم أثناء هجرتهم إلى العراق" ... "ولقد وفق الآشوريون إلى الاستقرار فسكن بعضهم في الجزء الجنوبي من بلادهم الأصلية، وسكن بعضهم مع كرد البلاد ومسيحييها المحليين جنوب وطنهم الأول مباشرة". "أن الحكومة البريطانية تشعر بأقوى الالتزام والمسؤولية في ضمان توطينهم تأكيداً وإنجازاً لمطالب شعبهم العادلة وآمانيهم. وقد طالبوا بالاستقرار في جميع أراضيهم السابقة مشفوعة بالحماية البريطانية".
"عجزت الحكومة البريطانية لأسباب مختلفة عن الاستجابة إلى أمانيهم كاملة إلا إنها عملت جهدها لتأمين حدود قد تحقق بعض الشروط. وهي الآن ترجو مجلس عصبة الأمم تثبيت تلك الحدود. إن مجلس العصبة حين يحقق متطلبات معاهدة حدود جديدة وجيدة، يجب أن يسمح في عين الوقت بإسكان الآشوريين بشكل مجتمع منضّم إلى نفسه ضمن الحدود التي انتدبت عليها الحكومة البريطانية تحت إشراف عصبة الأمم. وإن لم يتسن ذلك في أرض أجدادهم فلا بأس أن يتم إسكانهم في مناطق مجاورة لها".
إن رسم الخط إلى مسافة أبعد نحو الجنوب سيثير ذعراً كبيراً بين الآشوريين بحيث يضع أمام أمرين لا ثالث لهما: أما الهجرة الجماعية، أو القتال حتى النفس الأخير دفاعاً عن مطالبهم، دعك من الأضرار الاقتصادية والسوقيّة لهذا الخط الجديد المقترح. إن حصل ذلك فسيكون السلام والاستقرار في هذا الجزء من الحدود في خبر كان".
ومن بين الحجج الجغرافية والسوقيّة التي وردت في المذكرة. حجة أخرى تدعم طلب الأخذ بالحدود المقترحة وهي أن الشعب الآشوري المحارب راغب في تقديم الولاء للعراق بشروط وسيكونون مجتمع حدود ثميناً للدولة العراقية.
عرضت المذكرة التركية المؤرخة في الخامس من أيلول عام 1924 أن المطالب البريطانية الخاصة بأرض تقع فيما وراء حدود ولاية الموصل التركية تتعدى بشكل صارخ مستفز حدود القضية التي اتفق الجانبان على عرضها أمام مجلس عصبة الأمم لذلك لم يجد المجلس مبرر من إصدار قرارٍ لمصلحة الإدعاء البريطاني بمقدار ما يخص القضية التي هي  قيد النظر.
ودعماً لهذا الرأي تقتبس المذكرة مختلف التعابير التي استخدمها [اللورد كرزون] مثبتة - كما قالت - أن النزاع بين الطرفين يتعلق بولاية الموصل ولا يتعداها.
وبالرجوع إلى الحجج التي تقدمت بها الحكومة البريطانية تلاحظ المذكرة أنهُ مهما كان العطف الذي تشعر به الحكومة لهؤلاء سكان الولاية غير المسلمين الذين تبنوا قضية الحلفاء أثناء الحرب، فلا يمكن لهذا العطف أن يبرّر اقتطاع إقليم كبير من الحدود لا تزيد نسبتهم فيه إلى السكان عن السُبع (1/7). أضيف إلى هذا أن الآشوريين النساطرة لم يكونوا من سكان ولاية الموصل المقيمين وإن كانوا قد أرغموا على ترك بلادهم الم أثناء الحرب فالسبب هو أنهم رفعوا السلاح ضد المسلمين شركائهم في الوطن الواحد. وهم على أية حال قليلو العدد، عاشوا قروناً عدة في أمان واستقرار بين أخوانهم المسلمين.
إن اقتراح الحكمة البريطانية جمع الآشوريين في كتلة منضمة على الحدود التركية ـ العراقية يدعو إلى التساؤل عما إذا كان الأمر منسجماً مع رغباتهم حقاً. أم هناك اعتبارات أخرى أوجبتها، بغض النظر عن رغبات هذه الطائفة الحقيقية، إن تجميعاً مصطنعاً للآشوريين على الحدود يحمل في طياته نية استخدامهم ضد الكرد وتدفعه روح العداء لتركيا، وهو ما لا يمكن أن ينتظر منه تحقيق تلك النتائج التي تأمل الحكمة البريطانية الوصول إليها، وأعني بها إقامة عهد سلام دائم في هذه الأنحاء وإنشاء علاقات جوار طيبة بين تركيا والعراق وتوفير الحياة الآمنة للآشوريين.

* الاعتبارات والاستنتاجات
تم تقويم أوضاع الآشوريين في الإمبراطورية العثمانية سابقاً في جزء من هذا التقرير وسنعيد القول هنا فحسب أنهم تمتعوا بدرجة كبيرة من الاستقلال بزعامة بطريركهم. وقليلاً ما دخلت السلطة التركية بلادهم. على أن اشتباكات بين الكرد والآثوريين كانت كما يبدو عديدة.
في السنة التي سبقت الحرب بدأت الدعاية الروسية التي اتخذت اتجاهاً دينياً تلمس لمساً. وفي ربيع عام 1915 حققت الجيوش الروسية الزاحفة نحو [جوله ميرك] اتصالها بالآشوريين الذين شرعوا بمهاجمة الترك بتحريض من القائد الروسي. وعندما انسحب الروس بعد فترة قصيرة انكشفت مواقع الآثوريين أمام هجمات قامت بها قوات تركية كبيرة وتعذر الدفاع عنها فاضطروا إلى الانسحاب مع عائلاتهم إلى البلاد الإيرانية بعد قتال عنيف دام ستة أشهر.
وعند وصولهم إيران استمروا في معاونة الروس الذين شكلوا عدة كتائب من الجنود الآثوريين، قاتلت تحت قيادة روسية حتى انهيار الجيش القيصري. على أن فوجاً واحداً كان بأمرة البطريك الآثوري المباشرة. وفي الأشهر الأولى من عام 1918 التحقت التشكيلات الآثورية بالوحدات غير النظامية التي بقيت في إيران بقيادة ضباط روس تدافع عن سهول [أورمية وسلماس] بوجه الترك، وازداد وضعهم حراجةً بسبب اشتباكاتهم مع الكرد من جانب، وبنتيجة وتدخّل السلطات الإيرانية التي كانت تود تجريد هذه القوات العاملة على الأرض الإيرانية من السلاح. وبنهاية تموز تقريباً وجد الآثوريون أنفسهم مضطرين إلى التراجع أمام هجمات الترك والكرد والإيرانيين وعند ذلك التجأوا إلى الأراضي التي تحتلها القوات البريطانية.
ساهم الآثورين الذين كانوا قد استقروا في إيران في الحرب ضد وهم من حيث المبدأ كالمنظمات الأرمنية فعانوا عين المصير الذي لقيه آثوريو تركيا.
وتعرض الآثوريون أثناء تقهقرهم إلى أهوال وانصبت على رؤوسهم الويلات فقتل منهم الكثير في ساحة القتال وقضى آخرون نحبهم جوعاً ومات فريق بالنوازل والآفات الطبيعية. على أن ما يقارب الخمسين ألفاً منهم نجح في الوصول إلى همدان في أواسط آب عام 1918 فأرسلوا من هذه المدينة بقوافل إلى مخيم (بعقوبة) على نهر ديالى وهي بلدة تبعد خمسين كيلو متراً من بغداد.
وبعد الهدنة مباشرة، أقترح مشروع لإعادة توطين الآثوريين ولكن الاضطرابات التي حصلت في المناطق الكردية جعلت المشروع غير ممكن. وعلى أثر اضطرابات العمادية في تموز عام 1919 اقترح الحاكم الملكي العام على السلطات العسكرية إجلاء كل الكرد المسلمين من منطقة العمادية وإعداد مساحة من الأراضي للآثوريين الذين جمعوا في مخيمات بعقوبة ليتم توطينهم جميعاً على هذه الشاكلة في لواء الموصل. على أن الحكومة البريطانية وقتذاك لم تكن ترغب في اتخاذ قرار قاطع في هذا الشأن. وكان عدد الآثوريين في بعقوبة يناهز خمسة وثلاثين ألفاً في أواخر عام 1919 وهم على مجموعتين تتألفان على التوالي من آثوري حكاري وآثوريين [أورمية] في إيران.
وفي ربيع العام 1920 اختمرت فكرة في ذهن المدعو (آغا بطروس) وهو أثوري جبلي من قبيلة الباز للقيام بدورٍ كبيرٍ في قيادة الجيش الآثوري أثناء الحرب. ومجمل فكرته يتخلص في خلق دولة آثورية عازلة على الحدود التركية الإيرانية في الوقت الذي تترك الحرية لمن يفضل العودة إلى دياره في جبال ولاية حكاري. وتأخر تنفيذ هذا المشروع بسبب الثورة العربية الكبرى في العام 1920 ومني بالفشل التام في تشرين الأول من تلك السنة بسبب ضعف كفاءة [آغا بطروس] ومقاومة الكرد في المناطق الواقعة شمال عقره. وفي مجرى القتال الذي حصل نهب الآثوريون عدة مناطق يسكنها كرد لم يشاركوا في الأعمال العدائية ضدهم.
بعد هذا لجأت الحكومة البريطانية إلى تجربة خطة جديدة، فقررت توطين الآثوريين عشيرة بعد أخرى بصورة تهدف إلى توسيع حدودهم نحو الشمال. وما أن جاء عام 1921 حتى كان [7500] شخصٍ منهم قد استقر بهذه الطريقة. بعضهم في أنحاء زاخو ودهوك والعمادية وبعضهم الآخر في المناطق [برواري بالا] و[تياري العليا] و[تياري السفلي] التي تقع شمال المناطق الأولى بمسافة قليلة. وكما التحق عدد كبير منهم بوحدات الليفي. (الوحدات العسكرية التي شكلها البريطانيون من المسيحيين الآثوريين وبعض الكرد).
ووزعت الحكومة البريطانية أكثر من (1900) بندقية وكميات من العتاد على القبائل الآثورية التي عادت إلى مناطقها الأصلية شمال حدود ولاية الموصل. وفي نيسان عام 1924 استوطن عدد من الآثوريين في الأراضي الواقعة تحت إدارة العراق. وفي المنطقة الواقعة شمالاً. وهي الأرض المطالب بها وقدر عددهم بما يلي:

من إيران    5000
من المنطقة المطالب بها بعدئذ    14000
من الأراضي التركية شمال المنطقة المذكورة    600
المجموع    25000

وقد استوطن (5700) من المجموعة الثانية في الأرض التي طولب بها في مؤتمر أستانبول وعادوا إلى جنوب خط المعاهدة على أثر الحوادث التي وقعت في العام 1924. لقد كانت نية الحكومة البريطانية اتخاذ الخطوات التي تساعد على عودة الآثوريين الذين قدموا من إيران إلى أوطانهم. إن العلاقات بين الآثوريين وبين الأهالي المسلمين لم تكن حسنة دائماً وبالشكل المنشود، وترى السلطات أن مرد ذلك افتقار الآثوريين أنفسهم إلى المرونة والكياسة فهم ذوو أمزجة نارية قتالية وطباع خشنة غير مصقولة. فمثلاً في آب من عام 1923 جرت ملاحاة مشاجرة في سوق الموصل بين فريق من العرب وجنود آثوريين وفي الشهر عينه وقعت تظاهرات عدائية هناك ضد مجموعة من الآثوريين قوامها ثمانمائة شخصٍ قذفت بهم أستانبول خارج حدودها. وأدى ذلك إلى خطورة عصيان سريتين آثوريتين في حامية كركوك. هذه الحادثة أثارت نزاعاً بين جنود آثوريين وتجار مسلمين انطلقوا في أرجاء المدينة يطلقون النار على كل مسلم يصادفونه وينهبون ويحطمون المنازل والمخازن رغم الجهود التي بذلها ضباطهم وضباط صفهم. ووقعت إصابات بعضها قاتل. فلم تجد السلطة بداً من إرسال وحدات عسكرية بريطانية بطريق الجو إلى كركوك للمحافظة على النظام.
من الحريات التي تمتع بها الآثوريون في العراق، أن نزاعاتهم كانت تحكم بواسطة محكمين من بني جلدتهم. وكان لرؤسائهم منصب رسمي أو شبه رسمي ولهم أن يجبوا الأعشار وضريبة الماشية بمساعدة شرطة يختارونها من بين أفراد قبائلهم نفسها. هذه الحالة كانت مقدراً لها أن تتغير بسبب رحيل عدد كبيرٍ منهم نتيجة حوادث الحدود التي وقعت في خريف العام 1924. إن الأسرة التي تنحصر فيها السلالة البطريركية هي السلطة الوحيدة الآثورية التي تعترف بها السلطات العراقية والبريطانية.
لقد أبلغ المندوب السامي البريطاني في بغداد اللجنة عن نوايا حكومية في حالة ما لو سلم للعراق بالحدود المدعى بها. فقال إن المنطقة التي تقع جنوب الحدود مباشرة ستعاود السكن فيها تلك القبائل الآثورية التي كانت تعيش فيها سابقاً ولا يسكن هذه المنطقة في الوقت الحاضر غير عشرة آلاف وخمسمائة نسمة، منهم سبعمائة وخمسون من المسيحيين. وأما الآثوريون الذين كانت ديارهم تقع شمال الحدود المقترحة فسوف يتم توطينهم في جوار [دهوك] و[العمادية] في مواضع لا تبعد كثيراً عن الحدود. وبذلك لن يكون معرضين لإغراءات العودة إلى ديارهم الأصلية في الأراضي التركية مسببين مشاكل حدود أخرى.
إن المجموع الكلي للآثوريين الذين سيتم توطينهم لن يزيد عن عشرين ألفاً بعد عودة آثوري إيران إلى مساكنهم. وبحسب المعلومات المتأخرة يوجد في روسيا عدد كبير منهم قد يبلغ ثلاثين ألفاً تقريباً من الآشوريين الترك الذين يرغبون في العودة إلى ديارهم شريطة أن لا تكون تلك الديار تحت السيطرة التركية.
وقد أعلمت السلطات البريطانية اللجنة أن معاملة الآشوريين في المستقبل تتوقف أساساً على القرار الذي سيتخذ بخصوص الحدود. فإن لم تضم الأراضي التي كان الآثوريون يشغلوها إلى دولة العراق فلا مجال من منحهم أي نوع من الاستقلال الذاتي. ولم يتم في هذه الحالة توطينهم في مجتمعات آثورية بحتة. وإذا سحبت الحدود إلى الجنوب بالشكل الذي يُلحق بالعراق جزء صغير فحسب من الوطن الآشوري السابق فسيكون من المتعذر إيجاد مقاطعات لهم في العراق، وإن خطة توطينهم مرهونة بقبول الحدود التي اقترحتها الحكومة البريطانية. ولا يستطيع الآثوريون العيش في السهول حتى لو وفرت لهم الأراضي بسبب الأحوال المناخية. وستنجم مصاعب أخرى لاختلاف الطبع العربي والآشوري مما يؤثر على العلاقات بينهما في حين أن الطبع الآشوري والكردي متشابه.
تدرك اللجنة ضرورة حماية الشعب الآشوري ومساعدتهم على العيش بأفضل ما يمكن تأمينه لهم من أحوال معاشية. ولا تشعر اللجنة على كل، بأن التسوية التي اقترحتها الحكومة البريطانية تتفق ومبادئ العدل التي يجب أن تحكم التوطين المطلوب.
في الموضع الأول: أن اعتراض الحكومة التركية على تقديم الحكومة البريطانية مطاليب إقليمية جديدة [عد مؤتمر لوزان] هو اعتراض وجيه وليس دون أساس، إذ يظهر من وثائق ذلك المؤتمر أن المندوب البريطاني طالب منذ البداية بالحدود الشمالية لولاية الموصل حدوداً للعراق. فأي تعديلات كانت قد ذكرت؛ هي تعديلات معاهدة (سيفر) لكن مواد تلك المعاهدة كانت تقضي بإعادة قضاء العمادية إلى تركيا.
وفي رسالة أخرى مؤرخة في السادس والعشرين من كانون الأول عام 1922 اقترح (اللورد كرزون) على (عصمت باشا) تعيين خبراء لمناقشة تفاصيل الخط الثابت لحدود ولاية الموصل الشمالية التي ستتضمنها المعاهدة المقبلة حول الحدود بين تركيا والعراق. ويلوح من هذا أن التفكير لم يكن منصرفاً إلى أبعد من تعديل طفيف لا يمكن أن تتصدى له لجنة تعيين حدود. على أن مقترحات الحكومة البريطانية كما تقدمت بها إلى استانبول هي أكثر بكثير من مجرد تعديل بسيط. ولذلك يبدو أن ثمة ما يدعو إلى الظن بأن الاقتراح المقدم إلى استانبول يتضمن فتح قضية جديدة وأن الحكومة التركية لديها كل المبررات لرفض البحث فيها.
وهنا اعتراض آخر على الحل الذي اقترحته الحكومة البريطانية يتمثل في الظروف التي دعت الآثوريين إلى رفع السلاح في وجه تركيا. وما من شك في أن هذا الشعب قام بانتفاضة مسلحة ضد حكومته الشرعية بتحريض من الأجانب وبدون أي استفزاز من الحكومة التركية. ومن الثابت أيضاً أن الأحوال المعاشية التي يتمتع بها الآثوريون ضمن الإمبراطورية العثمانية هي أفضل من أحوال المسيحيين الآخرين، حيث أنهم يتمتعون بمدى واسع نوعاً ما من الحكم الذاتي المحلي تحت سلطة البيت البطريريكي.
في هذه الظروف لن يكون من العدل في شيء أن يقتطع من تركيا جزء يعود إليها بلا نزاع كي يوطن فيه شعب عمد بصورة مقصودة إلى رفع السلاح ضد سيادتها. ولم يسع اللجنة إلا أن تستنتج بأن أفضل حل لمسألة الآثوريين هو قبول العرض الذي قدمه المندوب التركي في مؤتمر استانبول أعني السماح لهم بالعودة إلى ديارهم الأصلية وفي هذه الحالة نضيف إلى ما أوردناه قولنا بوجوب استمرار الآثوريين في التمتع بحق الاستقلال الذاتي كالسابق وأن تضمن سلامتهم بصدور عفوٍ عامٍ عنهم.

* حجج سياسية أخرى في ولاية الموصل المتنازع عليها
إضافة إلى الحجة الأساس المستندة إلى رغبات السكان، تقدم الطرفان باعتبارات سياسية أخرى كل دعماً لوجهة نظره.
عرضت الحكومة البريطانية أنها ملتزمة بوعدٍ ثلاثي، مصدره اتفاقاتها مع الشعب العربي والملك فيصل من جهة، وحكم الانتداب من جهة أخرى. وفي الإمكان إجمال هذه الحجج كما قدمها ممثلو الحكومة البريطانية.
في أثناء الحرب عقدت الحكومة البريطانية اتفاقاً مع عرب المناطق المعنية يتضمن وعداً بألا يعادوا إلى الحكم التركي.
وفي مؤتمر [سان ريمو] قبلت الحكومة البريطانية في نيسان عام 1920 الانتداب على العراق من عصبة الأمم، وفي خريف العام 1921 طلبت عصبة الأمم من الحكومة البريطانية قبل أن تتم تسوية الشروط الأخيرة للانتداب الاستمرار في تولي الإدارة تمشياً مع روح مسودة الانتداب التي تم إعدادها انتظاراً لقرار المجلس النهائي. وفي شهر تشرين الأول من العام 1922 أبرمت الحكومة البريطانية معاهدة مع ملك العراق تعهد فيها الطرفان بعدم اقتطاع أو تأجير أي جزءٍ من العراق لأي بلادٍ ثالثة أو وضع أي أرض من هذه القبيل تحت سيطرتها.
وعلى هذا الأساس ارتبطت الحكومة البريطانية بالوعد الثلاثي. فإن فصلت ولاية الموصل عن بقية الأراضي العراقية المشمولة بالانتداب وأعطتها للترك تكون قد نكثت بوعدها.
اعترض [فتحي بك] على هذه الحجج في اجتماع مجلس عصبة الأمم في الخامس والعشرين من أيلول عام 1924 قائلاً أن التعهد الثلاثي الذي أعطته الحكومة البريطانية لا يمكن أن ينهض حجة ضد تركيا لأن تركيا لم تتنازل بموجب أية وثيقة دولية عن حقوقها في ولاية الموصل. وأنه سيكون معادلاً للتنازل عن أراضي فريق آخر لمصلحة فريق ثالث بدون رضى المالك الشرعي. وأما التعهد الذي أعطي لعصبة الأمم فيكاد لا يكون ضرورياً إيضاحنا بأن حدود الأراضي المنتدبة لم تثبتها العصبة. وبالعكس فإن بريطانيا العظمى قررت من تلقاء نفسها مدى سعة تلك الأراضي من النهاية الشمالية للعراق.
"إن هذا هو عمل من طرفٍ واحدٍ لا غير، ولذلك هو باطل قانوناً من أساسه وأن تفوق الحجة التركية واضح إلى الحد الذي لا نرى حاجة تدعو إلى تحليل لحجج الطرفين". كما أن الإقرار بأن "تركيا تنازلت عن حقوقها" في ولاية الموصل غير ممكن أيضاً لأنها أعلنت في عدة مناسبات عن استعدادها للتنازل عن الأراضي التي يسكنها عرب لا غير وبصرف النظر عن كون ولاية الموصل هي إقليم كردي عند إدخال مسألة الأغلبية في المسألة، فواضح أن الحكومة التركية تمسكت دائماً بقولها أن ولاية الموصل هي جزء لا يتجزأ من تركيا. ولم تتنازل عن حقوقها لا شرعياً ولا أدبياً لمصلحة أية دولة وأن أفاد بيان الحكومة التركية بأنها لا تطالب إلا بتلك المناطق التي ترغب في العودة إليها. والواضح والحالة هذه أن الأراضي التي تحتلها القوات البريطانية والعراقية ما زالت تعود وفق القانون إلى تركيا حتى تتنازل عن حقوقها فيها.
وهناك حجة أخرى تقدمت بها الحكومة البريطانية وهي حق الفتح ويمكن إجمالها بما يلي:
أن دول الحلفاء التي أرغمت على الحرب مع تركيا دون أي استفزاز من جانبها وهي التي ربحت الحرب، وطردت الجيوش البريطانية الترك من بلاد الرافدين. وإن ما يدعو إلى العجب أن تملي دولة مغلوبة على الغالبين الأسلوب الذي سيتم بموجبه التصرف بالأراضي التي تم احتلالها عسكرياً. لقد كان رد الحكومة التركية على هذه الحجج أن حق الفتح لم يعد معترفاً به في القرن العشرين وهو على كل حالٍ لا يمكن تطبقيه على ولاية الموصل التي تم احتلالها عنوة بعد الهدنة (هدنة مودروس) وبخرق شروطها كما كانت الحالة أيضاً بالنسبة إلى استانبول وأزمير وأدنه.
ورداً على هذه الحجة الأخيرة، أشارت الحكومة البريطانية أولاً إلى أن خط الهدنة لا مكان له في التسوية السلمية الختامية، وثانياً أن شروط الهدنة خولت جيوش الحلفاء حق احتلال نقاط سوقية (الإستراتيجية) تقع وراء خط الهدنة في حالة ما لو نجم موقف يهدد سلامة الحلفاء وقد احتلت مدينة الموصل طبقاً لهذه الشروط. لا نجد ضرورة لفحص هذه الآراء المتعارضة فيما يتعلق بالخرق المزعوم لشروط الهدنة وتكفي الإشارة إلى أن احتلال الموصل وكل مدن بلاد الرافدين التي كانت فيها حاميات تركية مسموح به بموجب المادة السادسة عشرة من اتفاق الهدنة.
وأما الحجة المستندة إلى حق الفتح فهي على أية حال عرضة للأخذ والرد والنقاش لأن الوضع السياسي بعد معاهدة [سيفر] بمدة، عانى تغييراً مفاجئاً حتى قامت الضرورة لعقد مؤتمر جديد لإعادة صياغة كل ما تم إنجازه في (سيفر) مجدداً، هذا التغيير في الموقف هو نتيجة النجاح العسكري التركي الذي خلق وضعاً عسكرياً جديداً لكل المناطق التي عادت أو كادت تعود إلى تركيا مع أنه أنجز في ميادين حروب متعددة، وهذا واضح تماماً من طبيعة القضايا التي بحثت في مؤتمر لوزان.
وعرضت تركيا في مجال اعتراضها على حجة حق الفتح تحقيق السلم واستقراره وقد عرضت هذه الحجة في مؤتمر لوزان ورددها [فتحي بك] في مؤتمر استنبول معرباً عن أمله في عين الوقت بإيجاد تسوية لقضية ولاية الموصل التي ستمهد الطريق إلى سلام ثابت وطيد بين تركيا وبريطانيا العظمى، وصرح "أن فوائد السلام الوطيد في الشرق تنطوي على أعظم الأهمية".
وأوضح أن الفوائد التي ستنجم عن سلام وطيد تنطوي على أهمية عظيمة، وإذا أريد للسلم أن يكون دائماً وأن يمهد لعلاقات طيبة فمن الجوهري أن لا يشعر أي طرف بالضغينة للطرف الآخر أو بأن حقه مهضوم. وانطلاقاً من هذه الأهمية يجب أن لا تحرم دولة العراق التي اعترفت تركيا بوجودها اعترافاً واقعياً من الموارد الضرورية لتطورها. وإذا ما أقتطع جزء من ولاية حكاري التركية فإن حقوق الولاية ستنتهك وتهضم، ولو أعطي لواء ديالى لتركيا فسوف يحيق الخطر باستقلال العراق. ولو سلمنا بأن نظرية السلام الوطيد كما عرضتها تركيا تقود إلى تسوية ما، فالنتيجة هي أن تركيا ستحرم العراق من تطوير موارده.

الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي

للراغبين الاطلاع على الحلقة السابقة

http://www.algardenia.com/maqalat/15979-2015-04-08-06-31-38.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

640 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع