الكسر الثاني لأنف الامبراطورية

                                          

                             إبراهيم الزبيدي

بغض النظر عن تفاصيل نتائج المفوضات الشاقة التي خاضها المفاوض الإيراني مع الدول الكبرى الست فإن أهم ما تسرب من وراء الجدران أن نظام الولي الفقيه يستميت، ويوشك أن يتنازل لدول الغرب، وعلى رأسها أمريكا، وللهيئات الدولية المتخصصة، عن جميع ما أنفقه من مال وجهود وآلام وأحلام على وهم إنتاج القنبلة النووية الذي خدر به شعبه سنين طويلة، مقابل شيء واحد فقط هو رفع العقوبات.

ومرد الصعوبات التي واجهت تلك المفاوضات إلى عاملين، الأول أن المفاوض الإيراني يعرف جيدا أن تدمير مشروع قنبلته النووية بدون رفع كامل للعقوبات يعني الانتحار. والثاني أن الدول الغربية الكبرى الأوربية وأمريكا، وروسيا ليست من ضمنها، تعلم أيضا أن رفع العقوبات دفعة واحدة قبل ضمان الكف النهائي عن العبث النووي انتحار أيضا امام شعوبها والعالم. فهي لا تثق بالنظام الإيراني، ولا تريد أن تخدع مرة ثانية، مثلما خدعت في مسألة كوريا الشمالية من قبل.
يعني أن نظام الولي الفقيه يقر ويعترف بأنه مخنوق بالعقوبات، ومتأكد من أن صبر شعبه على آثارها المدمرة بدأ ينفذ، ولكنه يخاف ويرتعش من أنه إذا ما سلم مفاتيح مفاعلاته النووية لأعدائه بدون رفع كامل لعقوبات مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوربي والكونغرس الأمريكي لن ينجو من عقاب شعبه الآتي ولا ريب فيه.
بعبارة أوضح. إن كل ما يريده النظام هو أن يحني رأسه للعاصفة ليتمكن من رفع العقوبات، اليوم، على أمل أن يعاود، في الغد، سعيه النووي بعد مرور العاصفة.
تماما كما كان صدام حسين يفعل في أعقاب كل هزيمة. يهرب دائما إلى أعلى وإلى أمام أملا باستعادة العافية بعد أن تحين الفرصة المواتية، إلى أن سقط وسقطت معه أحلامه الخائبة.
وانتبهوا إلى مسألة مهمة جدا.ففي عز النعومة الخادعة التي أبداها المفاوضون الغربيون في لوزان، أيدوا، جميعُهم، وروسيا ليست منهم، علنا وعلى رؤوس الأشهاد، عملية الكسر الأول لأنف الإمبراطورية الفارسية في اليمن وتكريت. أما الكسر الثاني لذلك الأنف المكسور فهو المتمثل بحصر المفاوض الإيراني في الزاوية، وعدم منحه فرصة للتنفس والتذاكي. فالعصا وحدها، فقط، الآن. أما الجزرة فأمرها مؤجل ومرهون بصدق النوايا وعلى مدى عشر سنوات من الآن. وأغلب الظن أن الغربيين معتقدون بأن عشر سنوات أمد طويل، ولابد فيها أن يموت الحمار، أو يموت حجا، أو يموت الوالي. بعبارة أخرى، من يضمن بقاء الولي الفقيه وقاسم سليماني لعشر سنوات قادمة؟ الله أعلم بما سوف يكون.
بالنسبة لنا، كتابا ومحللين، ليس مهما أن نعرف جميع أسرار ما دار في المفاوضات. بل الذي يعنينا هو هذا السؤال.
إذا كان النظام الإيراني يُهرق اليوم ماء وجهه، بذل وهوان، من أجل رفع العقوبات، فلماذا تسبب في فرضها إذن؟
فأي حاكم هذا الذي يفترض أن العالم (أهبل) و(جبان) سيقف لاهيا وعاجزا وهو يرى هذا النظام يقدم، كل يوم، وفي كل مكان من الإقليم والعالم، دليلا بعد دليل على أنه نظام أرعن وأحمق وغبي ومشاكس لا مكان لديه للعقل والحكمة والواقعية، يستخدم المشروع وغير المشروع من طاقات دولته وإمكاناتها لإذلال الآخرين وابتزازهم واحتلال بلادهم وتدميرها؟.

وفي ضوء سلوكه اللاعقلاني واللامشروع واللامقبول يصبح من تحصيل الحاصل أن يستخدم سلاحه النووي للهجوم وليس للردع والدفاع، إذا ما امتلكه فعلا، ولترهيب المنطقة والعالم وابتزازهما والعدوان عليهما ونشر الخوف وقلة الأمان فيهما كليهما.
ومؤكد أيضا أن امتلاك نظام متمرد ومشاكس ومخبول كنظام الولي الفقيه لقنبلة نووية لابد أن يدفع بدول أخرى في الإقليم أغنى منه وأكثر قبولا لدى المجتمع الدولي على امتلاك القنبلة ذاتها لمعادلة الخطر وللدفاع عن وجودها، وهو ما سوف يجعل المنطقة ساحة جنون نووي يهدد الكرة الأرضية بالفناء. وهو ما لايغيب عن بال حتى الدول الكبرى الأكثر انتهازية ومصلحية التي ساعدت إيران على توريطها بدخول سباق من هذا النوع يأكل مواردها ويعطل حياة شعبها، وبلا نتيجة ولا فائدة، لا في المدى القريب ولا في البعيد.
كما أن للدول الغربية، قاطبة، وأمريكا على رأسها، مصالح حيوية عليا في نفط المنطقة وأسواقها. وهي ليست مستعدة، أبدا، لترك قاسم سليماني وصقور النظام الآخرين يزحفون قليلا قليلا لاحتلال العواصم والمنابع والموانيء والمعابر، إلى أن يقع الفاس بالراس الغربي الأوربي والأمريكي، قبل وقوعه برؤوس الآخرين.
وأي حاكم هذا الذي لا يحسب حساب ما قد تفعله العقوبات باقتصاد بلاده وبرامج تنميتها وأمنها واستقرارها ومستقبل أجيالها، فلا يجنح إلى السلم، ولا يقدر مخاطر  التهور والعنجهية والغرور والمشاكسة وتحدي المجتمع الدولي، ليجنب ملايين مواطنيه آلام العقوبات وآثارها المدمرة؟.
ولماذا لم يستخدم مرشد النظام سلطته الدينية والدنيوية (المقدسة) فيهذب غلاة حرسه الثوري ويجبرهم على ترك العناد والعنجهية والتطرف، ويُذكـّرهم بما سببته العقوبات الدولية لجارهم العراقي من ويلات الجوع والفاقة، وما فعلته فيه من التمزق والتشظي والضياع؟
ولماذا لا يفهم هذا النظام الحاكم في إيران غير منطق القوة والقهر، ولا يفهم الواقع الدولي والإقليمي إلا  بالعصا؟
تعالوا نتحاسب. كم أنفق النظام على مفاعلاته النووية؟ وكم تسبب من خسائر لا حدود لها بالعقوبات؟
شيء آخر. ليست العقوبات كلها مفروضة بسبب النشاط النووي السري، بل كثير منها متعلق بمخالفات أخرى للقانون الدولي، وفي مقدمتها حقوق الإنسان. ثم إن تلك العقوبات ليست كلها أيضا مفروضة من مجلس الأمن الدولي ليمكن رفعا بقرار، بل إن كثيرا منها، والأكثر أذى فرضه الاتحاد الأوربي، والأشد سما وقسوة فرضه الكونغرس الأمريكي. ومن أشق الأمور الآن حمل الجمهوريين الماسكين بالمجلسين على الرضوخ لهوى أوباما، بأي حال من الأحوال.
وأخيرا، أية امبراطورية تلك التي تركع على ركبتيها ضارعة متوسلة من أجل أن يسمح لها خصومها بالحياة ولو بأنفها المكسور مرتين؟

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

868 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع