محمد غني حكمت قبيل رحيله!..كم أراد محادثتي؟ وأستعاض عنها بابتسامات ذابلة

                                     

                          صبري الربيعي

مثل (غراب ألبين) جاءني نبأ رحيل عبقري النحت وأخر حبات لؤلؤ رواده (محمد غني حكمت) عن عالمنا الفاني، لم أكن أعرف (حكمت) عن قرب، إلا أن برنامج المعالجة المستمر، الذي خضعنا له في مستشفى (ألخالدي)، في (عمان)، قد جعلني على معرفة بحالة عملاقنا الفنان (محمد غني حكمت)، الذي كان في حقيقة الأمر يمضي أيامه الأخيرة بمنتهى المشقة !

فقد كان (رحمه الله)، يرقد من وقت لآخر، على سريره الذي تفصله عن سريري مسافة متر واحد.. كنت أرقب تنفسه وهو يصعد وينزل، طيلة ثلاثة أشهر من هذا العام، هي مايس، وحزيران، وتموز. وفي الفترات مابين غفوة وغفوة، يرسل نظراته الزائغة إلي، يحاول جاهدا الابتسام، إلا أن عضلات وجهه الرخوة لا تساعده على ذلك، فيكتفي بتضمين نظراته تلك انكسارات تحدث فعلها العميق في نفسي !.

◄ (عكروكة) جواد سليم..صار أمثولة !
أنامله الذابلة، كانت تلاعب الطين لتستخلص منه (شهريار وشهرزاد) و(الأم) و(الكرخية) و(أبو جعفر المنصور) ومئات المنتجات الإبداعية، إنها أيضا تحن.. ليعود الزمن إلى وراء. حيث مشاغل (جواد سليم) في إيطاليا وبغداد، وهو في سبيل انجاز (نصب الحرية)، الذي قال عنه (جواد سليم) ذات يوم في رسالة بعث بها من بغداد إلى (روما)، حيث يواصل (حكمت) دراسته، (العراقيين يسمون النصب (عكروكة) سخرية ! فقال له (حكمت)..(لا ضير..المستقبل سيجعله مأثرة) ! ولقد صدقت (نبؤته) !

◄ وفيّ..ليس ككل الأوفياء!
يرافقه في كل مرة إلى قاعة الغسيل الكلوي، الفنان ألطباعي الشاب هيثم، نجل رائد الطباعة الحديثة فتح الله، صاحب (مطبعة الأديب البغدادية)، محتضنا بأصابعه بحذر شديد، حقنة ثمينة تحافظ على جودة الدم، وبعد دفع رسوم المعالجة، يرقد (محمد غني حكمت).. الذي جاءني ذات يوم، وهو يسير على قدميه بثبات، ودون كثير ميلان، فوجدت نفسي في جذل ما بعده جذل!.. ولكن القدر وأمراضه، لم يمهلانه طويلا.. وربما تكون الصورة المرفقة.. هي الصورة الوحيدة له على فراش المستشفى، التقطها ولدي الإعلامي والمذيع، رغيد الربيعي، وقد همس في أذني (ستكون صورة ذات قيمة) !.

◄ كل جيدا!
تلقيت النبأ المحزن، وأنا على بعد ألاف الأميال من (عمان)، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة، كيف لي أن أرثي (محمد غني حكمت)، الذي عرفته، والتقطت في شبابي المبكر، صورة أمام تمثاله (الأم)، في (ساحة التحرير) قبل أن أعرفه شخصيا، ولم أجد إلا تخيّل الأجواء المتوقعة التي أحاطت ب(محمد غني حكمت) بعد أن أغمض عيناه الذكيتان.. (لالي) ممرضته الهندية الدؤوبة، بلغتها العربية الهجينة عن ثقافتها، وطبيبته (هبة البرغوثي)، التي جاهدت من أجل أن يأكل، لكي يقوى جسده النحيل المتعب، الذي يصارع ثمانين حولا، وهيثم..الشاب النبيل الصديق المحب ل(محمد غني حكمت) الذي يأتي من (ماركا) الى (عمان) وقد دخل عالمه الواسع، ليخصص له وقتا، لا أظن أن أحدا يمكن أن يفعل ما فعله (هيثم فتح الله)، ل(محمد غني حكمت)..

◄ أين هم من (حكمت)؟
أصدقاء (حكمت) من الفنانين.. لم أرى أحدا منهم يزوره ! مستشفاه.. الصحفيين وزارة الثقافة والسفارة العراقية في (عمان)، ربما لايعرف أحدا منهم أن (محمد غني حكمت) يحتضر !.. لم أرى باقة ورد إلى جانبه.. ولم أرى محاسب السفارة، يدفع من أموال (محمد غني حكمت) كعراقي، نفقات علاجه الباهضة في جحيم أسعار (عمان) ! لايعرف الجميع أن (محمد غني حكمت) يتمعن في أخريات أيام الزمن الذي يعيشه !..نسوه..قبل أن يرحل !..أي والله نسوه ! كما نسوا غيره من المبدعين، بسبب من أن ذاكرتنا وضمائرنا قد أصابها الجدب.. فلم تعد تعبّرعن الوفاء لرموزنا..و(محمد غني حكت) ليس خارج هذه المعادلة !

◄ مقالة..لم تتم!
قبل أن يحط (غراب البين) لينقل لي خبر رحيل فناننا، كنت في سبيل كتابة مقالة لم أكملها.. تدعو لرعاية (محمد غني حكمت) قبل فقدانه..توقفت عن إكمالها حين جاءني غراب البين) بالنبأ المؤسف..وهذه بعض سطورها:

 
لايختلف اثنان، على أن الجهات الحكومية، على امتداد تأريخ العراق لاتلتفت الى مبدعينا في حياتهم، ولا تعمل على معالجة المشكلات الجسيمة التي يعاني منها المبدعون، وفي مقدمتها التقدير اللائق بمكانة المبدع الذي تجسده القوانين واللوائح، وبعد ذلك التقاليد التي تتوجه لمواكبة ظروف المبدعين في السراء والضراء.. وأخ من هذه الضراء !.. لقد أفقدتنا عمالقة لن يتكرر أمثالهم، عانوا وتشردوا وجاعوا ومرضوا وماتوا وهم غرباء خارج الوطن، ومعروف لكل مطلع، كم فقد العراق من مبدعيه شعراؤه ومثقفوه وكتابه وفنانوه.. وفي أحايين معدودة، (تنغز) سطور من كاتب نبيل، تدفعه غيرته إلى التنبيه عن مبدع ينتظر الموت، دون علاجات تتناسب ومكانة المبدعين في شتى سوح المعرفة !.

◄ (عمان) يدللها الموسرون فيما تقهر المبدعين !
في (عمان).. التي يدللها سراة العراق، وأغنياؤه المحللين والمحرمين، فيبذخون على المساكن الفارهة، والمطاعم الغالية، وجلسات الأنس والطرب، التي تحرق فيها الدنانير الأردنية المعادلة ل(اليورو) الأوربي، وهو اغلى عملة عالمية، يمارس الفنان القومي (محمد غني حكمت)، مبدع روائع النحت العراقي حياته متصارعا مع عديد الأمراض المزمنة، يسكن جسده الضعف والهزال.. فقد امتنع منذ وقت طويل عن تناول الغذاء، ، وعندما يسير لايتحكم في ذلك لوحده، بل لابد من مساعدة الصديق الوفي هيثم فتح الله نجل الرجل الطيب فتح الله، الذي يرافقه أيام غسيل الكلية الى قاعة الغسيل، وما أن يراه قد سلم في أيدي الممرضات، وأطمئن عليه يغادر إلى عمله.
(محمد غني حكمت) هذا المبدع، الذي يحمل من النضج الفني ما لا يمكن مضاهاته..تعلم، وساعد (جواد سليم وخالد الرحال) في انجاز (نصب الحرية) عنوان بغداد.. هذه القامة المديدة، توشك أن تتلاشى، وزارة الثقافة والمؤسسات الفنية والثقافية ونقابة الفنانين تتفرج.. فيما تهدر الحكومة وزبانيتها ممن طغى وتبطر ثروات العراق !.

◄ لم ينحت تابوته !
(هنا سكت قلمي عن الكلام المباح، واشرأبت عوامل نزوعي إلى السكوت)، فلم تعد هناك حاجة للكلام والكتابة، فقد مات (محمد غني حكمت) آخر عباقرة النحت العربي، من اجل ان يهنأ الذين عاشوا ويعيشون على هوامش الفعل الإنساني، دون أن يتذكروا، أن للعراقي في ثرواته حق، وكلما ازدادت حاجته الى ذلك الحق.. كلما كانت وجوبية تمتعه به أكثر، نزل (محمد غني حكمت) بثمانينه، إلى قبره ليستأنف منه صناعة الوعي والذائقة للأجيال القادمة.. فهو لم ينحت لمنامته الأبدية، تابوت من حجر أصم، ينطقه كما أنطق مئات التماثيل، الذي أسهمت في تجسيد الذائقة العراقية..فكنا ننظر أليه أنه آخر عناقيد الإبداع المؤثل، الذي يلوى الأعناق للاعتراف بعبقريته وفنه وحسه ومسيرته الإبداعية التاريخية.
نزل (محمد غني حكمت) إلى روضة قبره، محفوفا عن قرب أو بعد، بدفء بمشاعر عارفيه ومحبيه وتلامذته، ليهنأ بعيدا عن السوء والجحود وفراغ المحتوى!.

◄ ورود الكلام…
يا.. حكومة.. ويا.. وزارة الثقافة.. ويا.. نقابة التسكيليين.. ويا..نقابة الفنانين، أحيوا ذكرى (محمد غني حكمت) باقامة متحفه الخاص، وشراء أعماله والأنفاق على أسرته وتخليد ذكراه !.

      

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

640 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع