في الذكرى الاربعين لوفاة شاذل طاقة

                                        

                     نواف شاذل طاقة/باريس

                       

      

       في الذكرى الاربعين لوفاة شاذل طاقة

قبل أربعين سنة، وفي مثل هذا اليوم، رحل عن عالمنا شاذل طاقة، الانسان والشاعر والسياسي، بعد أن وافته المنية في أثناء حضوره اجتماع وزراء الخارجية العرب في العاصمة المغربية، الرباط، بتاريخ 20 تشرين الأول/اكتوبر 1974. وقد اخترت في هذه المناسبة التحدث عن جوانب من حياته، كنت قد أشرت إلى بعضها في مقالات سابقة، علني اتمكن من تقديم صورة لطبيعة الحياة الزاهدة التي عاشها طاقة، ومحاولاً، في الوقت نفسه، تقديم صورة حية لجانب من جوانب الحياة السياسية في العراق مطلع السبعينات.
كان شاذل طاقة قد عين وكيلا لوزارة الاعلام بعد وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في تموز 1968، وهو المنصب الذي أمضى فيه أقل من عام واحد حيث صدر أمر حكومي بتاريخ 20 شباط 1969 بتعيينه سفيرا في ديوان وزارة الخارجية لينتقل بعد ذلك التاريخ إلى العمل كسفير للعراق لدى الاتحاد السوفيتي. امضى شاذل طاقة في عمله في موسكو زهاء سنتين لحين نقله إلى بغداد سنة 1971 حيث عين وكيلا لوزارة الخارجية، وهو المنصب الذي شغله حتى حزيران 1974. وبتاريخ 23 حزيران من العام نفسه صدر مرسوم جمهوري بتعيينه وزيرا للخارجية وهو المنصب الذي لم يمض فيه إلا وقتاً قصيراً إذ وافته المنية بعد تعيينه في منصبه المذكور بأشهر معدودات.
 وعن طبيعة الحياة التي عاشها كوكيل لوزارة الخارجية في بغداد خلال تلك الحقبة والامتيازات التي حظي بها المسؤولون حينئذ، لا بد من التذكير بأن وكلاء الوزارات في العراق في عقد السبعينات لم تكن لهم حمايات خاصة أو مواكب سيارات أو مرافقين. كانت لدى وكيل وزارة الخارجية سيارة حكومية واحدة مع سائقين يتناوبان العمل معه. وكان والدي غالبا ما يقود سيارته الشخصية بنفسه في الذهاب والعودة من وإلى مكتبه، وفي أحيان عديدة كان سائقه الحكومي يجلس إلى جواره. كانت سيارته الشخصية فرنسية الصنع نوع (بيجو 504) خضراء اللون، صنعت سنة 1971، اشتراها مستعملةً من المانيا في السنة نفسها بعد صدور أمر نقله من موسكو إلى بغداد، حيث لم يتوفر لديه حينئذ المبلغ الكافي لشراء سيارة غير مستعملة. لا اتذكر كثيرا استخدام والدي لسيارته الحكومية اثناء عمله كوكيل وزارة فقد كان غالبا ما يفضل الذهاب والعودة من الوزارة بسيارته الشخصية. وفي الايام التي كان يعود فيها والدي إلى الدار ظهرا، كانت والدتي تقدم له وجبة غداء بسيطة، مصحوبة في كثير من الأحيان بالخبز العراقي الذي كان يطيب له أن يتوقف لشرائه من المخابز المنتشرة في طريق عودته من الوزارة. وكان في كثير من الأحيان يتناول غداءه بمفرده، أو قد ينضم بعض من أفراد الأسرة إليه، لأن الأسرة لم تعلم إن كان سيعود لتناول الغداء معها، وإن عاد بالفعل لا تعرف متى سيكون ذلك، فلم تكن هناك هواتف نقالة لمتابعة تنقلات الأشخاص دقيقة بدقيقة كما هو عليه الحال اليوم. ولم تكن هناك سيارات حكومية مخصصة لخدمة أسرة وكيل الوزارة، أو حتى الوزير في حالة والدي، فقد كان أفراد الأسرة يستخدمون وسائط النقل العامة شأنهم شأن بقية المواطنين. كانت شقيقتي طالبة في كلية الآداب الواقعة قرب باب المعظم، وكنت أنا في المرحلة الاعدادية حيث كانت مدرستي في شارع الرشيد، وكنا نستخدم حافلة نقل الركاب في ذهابنا وإيابنا. غير أن والدي كان يحلو له في بعض الاحيان أن يصطحب شقيقتي إلى الكلية بسيارته الشخصية في حالة توافق ذلك مع أوقات عمله، وكان يقول لها بأن المرور بمنطقة كليتي الآداب والتربية يمنحه متعة كبيرة إذ يستذكر خلالها السنوات التي أمضاها في الكلية أواخر اربعينات القرن الماضي.
حماية الوزير
 في العام 1974 وبعد صدور أمر تعيينه وزيرا لخارجية العراق، استبدلت الدولة سيارته بسيارة أخرى كانت أحدث طرازا (شوفرليت بيضاء اللون). ولكنه بقي يمتلك سيارة حكومية واحدة، مع سيارته الـ(بيجو) الخاصة المشار اليها آنفاً التي لم يغيرها حتى وفاته. ولم ترافق سيارة وزير الخارجية أية سيارة حماية أو أمن أو شيء من هذا القبيل فهو أمر لم يكن متعارفاً عليه في أواسط سبعينات القرن الماضي.
 وقد سارت حياة الأسرة بصورة طبيعية بعد تعيين والدي وزيرا للخارجية دون أي تغيير يذكر إذ واصلنا ذهابنا إلى جامعاتنا ومدارسنا مستخدمين وسائط النقل العام، غير أن  مشكلةً تتعلق بالحماية الأمنية المخصصة للوزير برزت في دارنا. فقد علمت من حديث كان يدور بين والديّ بعد أيام من تولي والدي منصب وزير الخارجية بأن جهات أمنية تصر على وضع ترتيبات أمنية محددة، وفي مقدمتها وضع نقطة حراسة عند باب دارنا لحماية والدي بوصفه وزيرا للخارجية. وقد لاقت هذه الفكرة استياءً من والدي، وغضباً من والدتي، إذ رأيا بأن وضع نقطة حراسة ثابتة عند باب الدار من شأنه أن يزعج الجيران وأهالي الحي، ويحدد علاقة أسرتنا بالوسط المحيط بنا. رفض والدي فكرة نقطة الحراسة الثابتة عند باب الدار رفضاً قاطعاً، غير أنه وبعد إصرار الأجهزة الأمنية وافق على مقترحين آخرين: أن يرافقه في سيارته الرسمية، حصراً، رجل أمن يجلس في المقعد الأمامي مرتديا ملابس مدنية، وكان مفوضا في مديرية الأمن العامة على ما أظن. أما بالنسبة لحماية الدار، فبعد مفاوضات معقدة تدخلت فيها والدتي، في بعض الأحيان،  لقيت فكرة، لم أعد أذكر من اقترحها، قبولا مترددا منهما. الفكرة كان مفادها أن معظم أحياء العراق السكنية يجوبها حارس ليلي بعد منتصف الليل يسمى باللهجة البغدادية (جرخجي)، يطلق صافرته كل ما مرّ بأحد أزقة الحي ليرعب اللصوص ويشعرهم بأن الحارس الليلي مستيقظ. ويعرف العراقيون أيضا بان الحارس الليلي ذاك ربما لم يرعب في حياته لصاً، بل كان الجرخجي موضع تندر دائم بين الأهالي، لكن الحياة كانت في معظم الأحيان هادئةً هنية. تضمن المقترح السماح لهذا الحارس الليلي بأن يأتي حال انتهاء جولته بعد منتصف الليل للبقاء في مدخل البيت الخارجي حتى انتهاء فترة الحراسة الليلية. وهكذا بدأ الجرخجي المجيء بعد منتصف الليل لينام قرب باب الدار الداخلي على أن يغادر الدار فجرا. غير أن والدتي التي كانت تشكو دائما من مشاكل صحية في القلب وجدت بقدوم ذلك الحارس بعد منتصف الليل اجهاداً اضافياً لها، فقد رأت أنه لن يكون من اللائق أن يأتي الحارس بعد منتصف الليل دون أن تقدم له وجبة طعام. وبما أن دار وزير الخارجية لا يوجد فيها خادم أو طباخ أو سفرجي، فأن مهمة اعداد الطعام وتقديمه للحارس في وقت متأخر من الليل صار مصدر عبء آخر على والدتي المتعبة أساساً. كانت الأبواب الخارجية لدارنا مشرعة في الليل، شأنها في ذلك شأن بيوت معظم العراقيين، حيث يدخل الحارس إلى المرآب ويتخذ هناك موقعا في زاوية الدار لينام حتى الصباح.  بعد نحو أسبوع من هذه الممارسة العبثية، تصادف أن عاد عمي رحمه الله إلى الدار في ساعة متأخرة من الليل فوجد الحارس نائما وبندقيته مركونة عند الباب فخبأها داخل الدار. كانت محنة الحارس كبيرة عندما استيقظ فجرا ولم يجد بندقيته، الأمر الذي دفع والدتي، إلي الإشفاق عليه وطلبت من عمي أن يعيد البندقية إليه. أظن اليوم أن والدتي وجدت في هذه الحادثة فرصة طيبة للطلب من والدي أن يخبر دائرة الأمن في الحي بأن تتوقف عن تكليف الحارس بالمجيء إلى دارنا. وهكذا توقف الجرخجي فعلاً عن إزعاجنا واستمرت حياتنا العائلية طبيعية دون أية منغصات فلا حماية ولا رجال أمن طيلة بقاء والدي في منصبه الوزاري لغاية يوم وفاته.
دار الوزير
كانت دارنا، دار السفير ووكيل الوزارة ووزير الخارجية، قد شيدت فوق قطعة أرض اشتراها والدي من الدولة بالاقساط عندما كان موظفاً في وزارة الارشاد أواخر الخمسينات أو مطلع الستينات على ما أظن. وفي وقت لاحق، عندما كان والدي مفصولا من العمل بسبب نشاطه السياسي، قرر والدي تحت الحاح والدتي تشييد دارنا فوق قطعة الارض تلك الواقعة في حي 14 تموز القريب من شارع فلسطين حيث انتقلت الاسرة إلى تلكم الدار سنة 1965-1966، ولازلت اتذكر أن سور الدار الخارجي لم يكن قد اكتمل بناؤه عندما انتقلنا إليها، وهي الدار التي بقيت الاسرة فيها منذ ذلك التاريخ حتى احتلال العراق سنة 2003 وتفرق أفراد الأسرة في المهاجر بعد ذلك التاريخ.  كانت دارنا متواضعة ولكنها جميلة إذ كنت ولازلت أراها أجمل قصر يمكن أن يعيش فيه الانسان طيلة حياته. بيدّ أن الغرباء والأجانب لم ينظروا إلى دارنا بنفس العين التي كنا ننظر اليها في الاسرة. ولعل حادثة زوجة سفير الاتحاد السوفيتي في بغداد هي أبلغ دليل على اختلاف الانطباعات التي ولدتها رؤية الدار. ففي أثناء المأتم الذي اقيم في دارنا لدى وفاة والدي في تشرين الأول 1974 أبلغتنا دائرة التشريفات في وزارة الخارجية برغبة حرم سفير الاتحاد السوفيتي في بغداد بزيارة والدتي لتقديم التعازي لها. ويبدو أن حرم السفير السوفيتي فوجئت عند زيارتها لنا بحجم دارنا المتواضعة وبساطتها فلم تتمالك نفسها، وبعد أن تلفتت شمالاً ويميناً في الدار، توجهت بالسؤال إلى والدتي مستفسرة إنْ كانت تلك الدار قد هيئت مؤقتاً لاستقبال المعزين مضيفةً: لا بد أن لكم دارا غير هذه؟ فاجابتها والدتي بفخر كبير بأن هذه هي دارنا وليس لنا سواها!!
توفي شاذل طاقة في العشرين من تشرين الأول/ اكتوبر 1974 وكان في الخامسة والأربعين من عمره، ولم يمتلك لدى وفاته حسابا مصرفيا داخل العراق أو خارجه، ولم يمتلك قصورا أو شققا في عواصم عربية أو غربية، أو أسهماً في شركات استثمارية. وكنت قد سألته ذات يوم عندما كان وزيرا للخارجية لماذا لا ننتقل من دارنا هذه إلى دار أخرى في واحد من احياء بغداد الارستقراطية ، فكان يبتسم لي ويقول بأنه سوف يموت ولكنه سيترك لنا شيئاً اثمن من كل هذا!!

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1004 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع