متى يتوقّف تهجير العراقيين ؟

                                            

                            د. سيّار الجميل

يمر المجتمع العراقي اليوم بفترة حرجة وخطرة.  إذ يتعرض إخواننا مسيحيو الموصل لحملة إبادة وحشية واجتثاث وتهجير لإبعادهم من أراضيهم وبيوتهم وكنائسهم العريقة في بلاد ما بين النهرين .. إنه استئصال مؤلم لهم عن جذورهم  في هذه اللحظات التاريخية الحرجة والحزينة  .

وعلى كل العراقيين التضامن من أجل إيقاف هذه الكارثة اللاإنسانية ، وأن يقفوا جميعا ضد هذا التوحّش الباغي .

إن كلّ يوم يمضي نتعلّم أشياء جديدة من مخفيات مجتمعنا العراقي ومسكوتاته على جرائم وجنح وجنايات تطبيقا فاضحا لما يفرض من أجندات، وبتأثير سياسات مجتمع تربّى على شعارات التمجيد والتفاخر .. لا على النقد والتحاور .. شعب يكثر فيه الغلاة والبغاة والطغاة وعديمو الأخلاق ! إن من ابرز المشكلات المتفاقمة في المجتمع العراقي ، قد تمثلّت بالتعصّب والغلو والجهالة والبغي والعدوان والطغيان .. وأخذت السيئات تأكل كلّ الحسنات والطيّبات .. وغدا الغلو سيّد الموقف عند العراقيين بإظهارهم عدم قبول الحق حتّى عند ظهور الدليل الساطع بناء على تعصّب كلّ واحد منهم للطيف الذي ينتمي إليه.

لا استطيع القول ان فئة واحدة أو جماعة معينة أو أقليّة سكانيّة محدّدة قد أصابها التهجير والنفي والإذلال من دون التأمل في تاريخ سياسي واجتماعي بشع تمثّل بالتنكيل والاضطهاد والتهجير لهذا الطرف أو ذاك من العراقيين منذ اكثر من خمسين سنة .. وأعتقد ان الأنظمة السياسيّة التي حكمت العراق كانت تعبّر تعبيرا حقيقيّا عن طبيعة العلاقات الاجتماعية المهترئة التي حكمت العراقيين بعيدا عن المزايدات والأكاذيب والبطولات المزيّفة وتلميع الصفحات ، وإذا كان العراقيون قد عاشوا انسيابية واستقرارا خلال عهود محدّدة ، فهي مجرّد استثناءات مقارنة لما عاناه أغلبهم من تدمير الذات وتنكيل أي طرف بالطرف الآخر تحت أي غطاء ..

لا أقول ان شعوبا أخرى لم تعان اطيافها من الاضطهاد والتهجير والفصل العنصري أو الديني أو الطائفي ، إلا ان ما جرى ويجري في العراق باسم الدين من حالات مستمرة وشرسة وبشراكة سياسيّة واجتماعية معا تعدّ الأخطر على حياة العراق والعراقيين بغياب أطياف كاملة من نسيج المجتمع غيابا نهائيا ، ناهيكم عن ان تلك الأطياف لا يمكن تعويضها أبدا في المستقبل كونها من الشرائح القديمة والذكية والمسالمة والمنتجة التي عاشت في مواطنها العراقية منذ آلاف السنين .

إن التعصب عند العراقيين ظاهرة قديمة ولكنها اليوم تأخذ لها صورا وممارسات بشعة مع تداول الأيام .. ولقد شهدنا مختلف أنواع التمييز بوضوح لدى العراقيين ، وخصوصا التمييز العنصري والديني والطائفيي والجنسي والطبقي والتمييز بين المدن والتفرقة بين المستويات . ولقد استنتجنا من دراستنا لتاريخ المجتمع العراقي المعاصر أن جملة من الأحداث الجسيمة والحروب والثورات والصراعات التاريخية كان سببها التعصب والغلو والتمييز والكراهية والحقد والأخذ بالثأر ونيل بالحيف والطغيان في التفكير والتصرفات مع ما يرافقها من تنكيل واضطهاد وتشفي كلها ظواهر تتعالى نسبتها بين العراقيين بشكل مقرف ومتوحش ومثير للاشمئزاز ! وكان من نتائجها ان تشكلّت آفات اجتماعية وسياسيّة دمرّت العراق دولة ومجتمعا بشكل مخيف ، مع انعدام وجود أية فرص للمعالجة بوجود حكومات غبيّة لا تنظر إلّا إلى مصالحها السياسيّة والآيديولوجية ، وان حكومات العراق قد ساهمت في إذكاء التعصبّات والغلو وأساليب التنكيل الجمعي.

في الوقت الذي أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1981م الإعلان الخاص بشأن القضاء على أشكال التعصّب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقدات أو الطوائف ، خصوصا ما جرى في العامين 1979 و 1980 بين كلّ من العراق وإيران ، فانّ الإعلان قد حرّم أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يمارس على أساس الدين بغرض تعطيل أو إنقاص الاعتراف بحقوق الأنسان والحرّيات الأساسيّة أو التمتّع بها أو ممارستها على أساس من المساوة. وبحسب إعلان الأمم المتّحدة، فإنه لا فرق بين التمييز العنصري والتمييز الإثني أو العرقي. كما أننا نرى بأن لا فرق أبدا بين التمييز الديني والتمييز الطائفي أو المذهبي ذلك ان العوامل الموجبة لذلك التمييز واحدة ، وان النتائج التي تخلقها ممارسات التمييز هي واحدة . ولقد تجلى التمييز العنصري والديني بأبشع صوره في العراق حتى مع الدعوات الكاذبة للديمقراطية وحقوق الإنسان والسلم الأهلي ليس من قبل الأنظمة السياسية وحدها ، ذلك ان الخلل الحقيقي يكمن في بنية المجتمع العراقي وتفكير العراقيين انفسهم وطبيعة علاقاتهم مع بعضهم الآخر ، مع وجود اكثر من سلطة تتحكم في تصرفاتهم سواء كانت تلك السلطات دينية أو عشائرية أو حزبية .. الخ

إن الغلو بين العراقيين هو تعبير كل طرف من الأطراف عن تعصبه إلى دينه أو مذهبه أو جنسه أو عقيدته السياسية أو منطقته وجهته أو قبيلته وعشيرته .. واعتبار كل متعصب لهذه أو تلك على أنها الحقيقة المطلقة الوحيدة ضد الآخرين، بل والاستخفاف بكل ما يجمع على حساب الانتصار لكل ما يفرق في اطار الوطن الواحد . ان مجرد غياب هذا الوازع بقتل النزعة الوطنية ، ، فلقد مات كل شيء إيجابي في المجتمع ، فكيف ستكون إذن حالة الدولة ؟ إنها مهترئة في كلّ مؤسساتها ومرافقها .

إن التهجير القسري أو التطهير الجمعي كالذي مورس تحت أي غطاء ديني أو طائفي أو سياسي أو عنصري أو عرقي وما يرافقه من ممارسات مقرفة كالاضطهاد والتنكيل والبطش والقهر والتعذيب والمصادرات لا يمكن ان يسكت عنها أبدا ، ولا يمكن تبريرها بأية مسوغات ، ولا يمكن الرضوخ لها تحت أي باب أو شرعة أو بنود أو نصوص .. كما لا يمكن حلها بمجرد إصدار بيان رسمي أو حزبي أو شعبي .. ذلك ان المسألة اعمق مما يمكن تصوره وما نراه يحدث في العراق منذ اكثر من عشر سنوات من ممارسات قاتلة لم تجد أي فرص لإيقافها عند حدها تماما نظرا لهزالة الحكم وضعف الحكومة نتيجة انقسام المجتمع على نفسه..

إن التناقضات التي عاشها المجتمع العراقي قد خلقت لديه انقسامات جد رهيبة ،ومنها خفية لا يمكن التقاطها وتمييزها وقد أنتجتها النزعات الجديدة التي اجتاحت مجتمعاتنا بذبول النزعة المدنية والسلم الأهلي والتعايش الاجتماعي على حساب تفاقم التطرف الديني والاحتراب القومي والحقد المذهبي والتمييز الطائفي . لقد عانى الإيزيديين مثلا من ابشع ألوان التطهير الديني في تاريخهم .. كما عانى الأرمن من الأهوال جراء عمليات التطهير الدموي الذي لحق بهم في الأناضول ، ولكنهم استقبلوا في العراق استقبالا رائعا وغدوا في حماية العرب.. وعانى الآثوريون من صراعات الأقوى ضدهم في البيئات التي عاشوا فيها .. وعانى الكرد في مئات القرى المحروقة من التهجير والقصف والفرار الجمعي .. وعانى العرب من التهجير القسري .. وعانى آلاف الشيعة من التهجير القسري إلى إيران بحجة التبعية ، وعانى السنة العراقيون من التهجير من مناطقهم نحو مناطق أخرى لأسباب طائفية أيضا ، ومن قبلهم عانى اليهود العراقيون من التهجير والفرهود .. وهاجر المسيحيون في الموصل إلى بغداد إثر الصراع السياسي بين الشيوعيين والقوميين .. وعانى البهائيون العراقيون من المشانق الحكومية التي كانت بانتظارهم ، فأخفى بعضهم دينه .. كما عانى الآلاف من العراقيين من حالات الفرار الجمعي لأسباب سياسية أو عسكرية أو قمعية بحيث لم تجد هناك أي حالة شبيهة بما حصل للعراقيين في هذا العالم !

إن كل عراقي يحمل قصة درامية محزنة في تاريخه ، وخصوصا قصة فراره إلى المهاجر .. وكم حلت بالآلاف المؤلفة من العراقيين مآس ونكبات وكوارث لا يمكن تخيلها نتيجة التشرد والمطاردات عند المعابر أو الضياع في القفار أو الغرق أو السجون .. بل ولم يسلم اغلب العراقيين من النشطاء سياسيا وفكريا وآيديولوجيا من الملاحقات حتى في أصقاع الشتات من قبل أجهزة المخابرات أو من أعوان أي نظام سياسي كان يزرعهم في أي مكان يريد ..

إن من يهاجر من وطنه العراق لا يمكن تعويضه أبدا ، خصوصا اذا كان المهاجرون من المهنيين أو المتخصصين أو المبدعين أو من أبرز المثقفين ورجال العلم والصنعة والمهارة والخبرات وليس من حق كائن من كان ان يؤذي عراقيا تحت أي ذريعة من الذرائع الدينية أو المذهبية أو السياسية أو الطائفية أو الآيديولوجية أو العنصرية .. إن واحدا من العراقيين المهاجرين والمهجرين العراقيين يعادل ألفاً من أولئك التافهين المستهلكين المتسكعين الجهلة الذين غدوا وبالاً على المجتمع . إنني أهيب بالمجتمع العراقي أن يقف وقفة واحدة في الدفاع عن أهله مهما كانت مناطقهم أو أديانهم أو مللهم أو طوائفهم ، وأن لا يتعرض أي عراقي للإيذاء أو الإلغاء والإفناء ..

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1099 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع