أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي

                                 

                   علاء الدين الأعرجي

       

التخلف الحضاري وراء نكباتنا

جوهر الكتاب الصادر مؤخراً تحت عنوان"أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي"


موجز مكثف للمحاضرة التي ألقاها كاتب هذه السطور في الصالون الثقافي للإستاذ عبد الفتاح شبانة، حيث استضافه مشكوراً باعتباره ضيف الشرف،(في7/6/2014).

وبعد ان اعترف بكل تواضع بأن الظواهر المجتمعية تختلف عن الظواهر الطبيعية، من حيث أن الأخيرة تخضع للتجربة الحسية المختبرية للتحقق من صحتها بينما تفلت الظاهرة المجتمعية من ذلك، أكدّ أنه  لا يدعي ان فرضياته/نظرياته صحيحة، بل قابلة للمناقشة والنقد الذي يرحب به بكل سرور.

ثم شرع باستعراض كتابه المعنون" أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"، في طبعته الرابعة، التي صدرت قبل أشهر قليلة، انطلاقاً من فرضيته العامة في معظم  كتاباته ً التي تقضي بأن السبب الرئيسي في جميع نكباتنا وإشكاليتنا تعود إلى تخلفنا الحضاري.

طبعا هناك أسباب أخرى، ولكنها تعود معظمها في نهاية المطاف إلى السبب الأول. مثلاً خطط الآخر لزرع الفتنة. أقول لولا تخلفنا لما انقسمنا شيّعاً وطوائف نقتتل فيما بينا، فيدخل الأخر بن صفوفنا لإشعال نار الفتنة.  

 وبالعودة إلى فرضيتي في تخلفنا الحضاري، قلت " ليس لي  أي فضل في بناء هذه الفرضية. بل كنت وما أزال أدرسُ هذه الفرضية من خلال كتابات معظم المفكرين العرب المحترمين لاسيما  قسطنطين زريق وعلي الوردي ومحمد جواد رضا ومحمد عابد الجابري وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وحسن حنفي ومحمد أركون وعبد الإله بلقزيز وعبد الله العروي وغيرهم.

ولكن الشيء القليل الذي أضفته إلى هذه الفرضية، أنني حاولت أن أتعمق في تفسيرها وتنظّيرها وتجذيرها، من خلال ثلاث فرضيات/نظريات أزعم أنها رائدة، بل أجادل في أنها جديدة على الفكر العربي والعالمي بقناعة كافية، نتيجة بحث وتمحيص، ومناقشات واستشارت، تواصلت وتكثـّفت منذ مطلع هذا القرن. ومع ذلك أظل منفتحاً بشكل كامل على جميع الآراء المخالفة والناقدة، التي أرحب بها بكل حفاوة، أملاً في إغناء بحثي بل إثراء عقلي.    

أولا: نظرية العقل المجتمعي: نقصد بالعقل المجتمعي، بكل اختصار، ذلك العقل الجمعي السائد لدى جماعة من البشر، تعيش في مكان وزمان وظروف معينة،  نطلق عليها "مجتمع" أو "وحدة مجتمعية". ويتضمن ذلك العقل جميع القيم والمفاهيم والمعتقدات والأعراف والعادات والمعارف السائدة لدى ذلك المجتمع التي تعتبر من المُسَلـَّمَات الواجبة الاتباع. ويتشكل العقل المجتمعي من الحصيلة النهائية للتطور التاريخي الذي يمر به المجتمع منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا. ويتأثر بالأحداث الجارية والتطورات القائمة، كما قد يتأثر بالخصائص السائدة لدى المجتمعات المجاورة أو التي يتصل بها بأي طريق مباشر أو غير مباشر. وقديما قال بن خلدون أن المجتمع المغلوب يتأثر بالمجتمع الغالب.           

عقلنا المجتمعي ظل محافظاً على قيمه القديمة، التي تكونت منذ عصر التدوين، كما يرى الجابري، ولكنني أخالفه، فأقول أنه تكون خلال الفترة المظلمة  وفترة البداوة، بوجه خاص. علماً أن الجابري لا يتحدث عن العقل المجتمعي بل يتحدث عن العقل العربي  بوجه عام.

  والمُفارقة الصارخة، المُضحِكة المُبكِية، أنـَّنا جميعًا ضحايا ذلك العقل الجبَّار والحاكِم المُطلَق، حينما نُدافع عن قِيَمنا وتقاليدنا وتُراثنا ومُعتقداتنا،  بل حتَّى عن آمالنا وتطلُّعاتنا، إذْ نتصوَّر أنَّنا نُعبِّر عن آرائنا وأفكارنا الشخصية. وفي الواقع نحن نعبِّر عن الآراء التي تدور في عقل ذلك المجتمع، إذْ يفرضُها علينا فرضًا من حيث لا ندري ولا نشعر.

ثانيا:نظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل، التي تتعلق بالفرد، خلافاً للنظرية الأولى التي تتعلق بالمجتمع ككيان يتمتع بشخصية اعتبارية. ويمكن تعريف العقل المنفعل كما يلي:

هو تلك الملَكة التي يكتسبُها الفردُ من مُحيطه، ويستخدمُها في التفكير والتعامُـل مع الآخرين، واتِّخاذِ قراراته التي يُميِّز بها بين الصالحِ والطالح، والصحيحِ والخطإ، والخير والشرّ، في إطار مجتمعٍ مُعيَّن، وفي حدود زمنٍ معيَّن؛ أو هو مجموعةُ المبادئ والمعايير التي يفرضُها "العقلُ المُجتمَعيّ" (كما حددَّناه سابقًا)، والتي يتَّخذُها الفردُ مِقياسًا لمعظم أحكامِه وقراراتِه.

فنحن حين نُفكِّرُ أو نتعاملُ مع الآخرين، أو نتَّخذُ قراراتِنا، نضعُ غالبًا في اعتبارنا، شعوريًّا أو لا شعوريًّا، المُستلزَماتِ والقـيّم التي يفرضُها المجتمع،ُ والتي نخضعُ لها عادةً أو نحترمُها في الغالب، شئنا أو أبَينا، وهي مُتغيِّرة بتغيُّر الزمان والمكان.

-                 أمَّا تعبيرُ "العقل الفاعل"، فإنه يدلُّ على تلك الملَكة الذهنيَّة الطبيعيَّة التي تولَد مع الإنسان، ثمَّ تَضمرُ تدريجيًّا، بسبب تأثير الأهل والأصحاب والمربين بوجه عام الخاضعين، هم أنفسهم، لعقلهم المنفعل  الخاضع بدوره لسلطة العقل المجتمعي السائد مما يؤدي إلى أعادة إنتاج التخلف. ومع ذلك قد يشذ عن هذه القاعدة بعض الأشخاص الرواد الذين يشرعون بالتساؤل عن قيم ومسلمات العقل المجتمعي ومدى مصداقيتها، فيلاقون مقاومة شديدة من حرّاس  العقل المجتمعي. ومن هؤلاءالرواد أذكر بوجه خاص الشيخ محمد عبده، وطه حسين(حوكم) في كتابه الشعر الجاهلي، و علي عبد الرازق،(طُرد من القضاء والجامعة) في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وعلي الوردي،(اضطُهد) في كتبه المتعددة ومنها "وُعَّاظ السلاطين"،  ونصر حامد أبو زيد(طُلق من زوجته) في كتبه المتعددة ومنها "مفهوم النصّ"، وفرج فودة(قُـتل) في كتابه"الحقيقة الغائبة" وغيره .

يُلاحَظُ من ذلك أنَّ "العقل الفاعل" يُمثِّلُ الجانبَ الطبيعيّ "الحُرّ" من عقل الإنسان، الجانب المُتحفِّز المُتسائل والمُشكِّك والمُبدِع والمُتطلِّع نحو اكتشاف آفاقٍ جديدة في كلِّ شيء، سواءٌ على صعيد الإنسان ذاته أو في ميادين ومجاهيل الحياة والطبيعة والكون، أو على صعيد مجتمعه.

وأرى أن هاتين النظريتين تنطبقان على جميع المجتمعات في كل زمان ومكان. وهذا يؤدي إلى اعتبار النظرية عالمية.

-                 ثالثاً؛نظرية عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة على نحو يكفي لمحو الطباع البدوية:   تـفترضُ هذه النظرية  أَنَّ  العربَ لم يمرُّوا بمرحلة الزراعة، على نحوٍ كافٍ، بل انتقلوا من البداوةِ إلى الحضارة (أو بالأحرى التحضر، أي مجرد سكنى المدن) ، متجاوزين مرحلةَ الزراعة، بعد فترةٍ قصيرةٍ من بداية الفُـتوح الإسلاميَّة. وأَدَّى ذلك إلى عدَمِ زوالِ القِيَم البدويَّة الراسخة في العقلِ المجتمعيِّ العربيّ. وقد لاحظت أن العرب الذين كانوا بدواً في أكثريتهم الساحقة، هاجروا بموجات غفيرة إلى البلاد المفتوحة. وأصبحوا أسياداً فيها فضلا عن الغنى الذي أصابهم. فلماذا يمتهنون الزراعة؟

 فبعد أن جاءه عامله بخمسمائة ألف درهم من البحرين " أرتقى الخليفة عمر المنبر فقال إيها الناس جاءنا مال كثير إن شئتم كِلنا لكم كيلاً أو عددنا لكم عداً" وقد أصبح هذا المبلغ تافها فيما بعد.  

 

ومن الطبيعيِّ والمنطقيِّ أن يتجاوزَ المجتمعُ العربيُّ مرحلةَ الزراعة. فقد كان العربُ يحتقرون المِهَنَ بوجهٍ عامّ، كما يظهرُ ذلك في قولٍ مشهورٍ للجاحظ: "العربُ لم يكونوا صُـنّاعًا... ولا أصحابَ فِلاحة فيكونوا مَهَنـَة، ولا أصحابَ زَرع..." ويؤكِّدُ ابنُ خلدون هذا المعنى في عدَّةِ مناسبات في "مقدَّمته". وقد ناقشنا هذه الآراء في بحثِنا عن نشوءِ الحضارات وسقوطِها بين ابن خلدون وتوينبي(الوارد في كتابي"الصادر مؤخرا). وفي حديث رواه البخاري في صحيحه يقول إنَّ الرسولَ (ص)  لاحظ مِحراثًا في أَحدِ بيوت الأَنصار فقال: "ما دخلَتْ هذه السكَّةُ دارَ قوم إلاَّ دخلَه الذُلّ." ويُرجَّح أنَّه كان يُعبّر عن وضعٍ واقعيٍّ قائمٍ منذ العصرِ الجاهليّ.        

  عِلمًا بأَنَّ  المرورَ ٍ بمرحلةِ الزراعة، التي هي أُسُّ الحضارة وقاعدتُها الصَّلدة، يؤَدِّي إلى صَقلِ الطباع البدويَّة وتهذيبِها، أو بالأحرى تعديلِها وتغييرِها، نظرًا لأنَّ العقلَ المجتمعيَّ ما هو إلا مرآةٌ للبيئة التي يعيشُها المجتمع. فالزراعة تتطلب الاعتماد على الذات، في إعداد الأرض بحرثها وبذر الحب وسقيه (في حالة الزراعةالمروية)، ثم جني المحصول وخزنه إلى الموسم القادم. هذه الخطوات التي تعتمد على الجهد البشري، غير معروفة لدى البدوي الذي كان بعتمد بوجه خاص على جود الطبيعة ليعتاش هو وحيواناته، ثم على الغزو الذي أصبح قيمة اجتماعية يعتز بها البدوي.

وهكذا فالعرب لم يمروا بمرحلة الزراعة على نحو يكفي لمحو القيم البدوية(العشائرية) التي ما تزال تنخر في جسد الأمة. لذلك نلاحظ هذا الصراع الدموي القائم بين الفرق المذهبية المختلفة في سورية والعراق واليمن ولبنان، مثلاً فضلاً عن الصراعات العشائرية او الإثنية في ليبيا واليمن، مما سيقضي على مكتسبات ثورة 2011.

وأعترف أن هذا الموجز لا يقدم إلا رؤوس أقلام لبحث  سوَّدت فيه مئات الصفخات التي جاء بعضها في كتاب "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل" الصادر مؤخرا في بغداد، فضلاً عن كتاب "الأمة العربية بين الثورة والانقراض" قيد الطباعة هذه الأيام.  

14/6/2014

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

787 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع