التعليم الثانوي في بغداد وتأسيس الثانوية المركزية..كيف اختيرت بناية اول ثانوية عراقية؟

       

ويكليكس العراق – صورة تاريخية فريدة تضم خريجي الاعدادية المركزية في بغداد لعام 1932 فيها شخصيات عديدة اهمهم الزعيم عبد الكريم قاسم – الخامس في الصف الاخير من اليمين , اضافة الى (حسب ما يشير المصدر) كل من د. علي الوردي والفنان جواد سليم وباحث التاريخ ومترجمه د. طه باقر وحسين علي محفوظ والفنان يوسف العاني والفنان عزيز علي والشاعر عبدالوهاب البياتي والزعيم ناظم الطبقجلي والمعماري قحطان المدفعي ود. كمال السامرائي وفؤاد حسن غالي وغيرهم .

       

التعليم الثانوي في بغداد وتأسيس الثانوية المركزية..كيف اختيرت بناية اول ثانوية عراقية؟

تعد الاعدادية المركزية (المدرسة الثانوية سابقاً) من اقدم المدارس التي أنشئت  في بغداد بجانب الرصافة وعلى ضفاف نهر دجلة، وتعد صرحاً حضارياً وموقعاً  تراثياً مهماً أما سبب تسميتها بالمركزية فيعود إلى كونها في مركز مدينة  بغداد، وهي المدرسة الوحيدة التي كانت تجمع بين الدراسة الاكاديمية  والعسكرية  وفيما يأتي استعراض لتطورها التاريخي من خلال القاء الضوء على  الخلفية التاريخية لبناية المدرسة، وما يحيط بها من شواخص ومراكز حضارية  مهمة.

ترجع جذور بنايتها إلى العصر العباسي المتأخر فأصل الأرض التي شيدت عليها المدرسة تعود إلى مدرسة ورباط يعرف برباط سعادة  وتشير المصادر التاريخية إلى أَنَّ المدرسة كانت للحنفية والرباط للشافعية وبسقوط الدولة العباسية وتقادم الزمن تهدمت تلك المدرسة والرباط واصبحت عبارة عن ارض خربة. ولما قدم الوالي مدحت باشا إلى بغداد عام (1869-1872) امر بانشاء مدرسة على تلك الارض، إلاَّ إن البناء لم يكتمل خلال ولايته فاكمل البناء في عهد الوالي عبد الرحمن باشا في ولايته الثانية عام (1879-1881).

            

وحين الانتهاء من بنائها نقل اليها طلبة المدرسة الرشدية العسكرية التي أسسها مدحت باشا بعد أَنَّ كان طلبة المدرسة الرشدية العسكرية والاعدادية العسكرية يداومون في بناية واحدة هي بناية (المحاكم المدنية سابقا في القشلة)، وذلك ما أكدته المصادر والمراجع التي تم استشارتها ومنها على سبيل المثال لاالحصر، ما اشار اليه محمد رؤوف السيد طه الشيخلي وهو احد طلبة المدرسة الرشدية العسكرية من: ((إن المدرسة الرشدية العسكرية والاعدادية العسكرية كليهما في بناية واحدة)) واستناداً لما رواه محمد رؤوف طه الشيخلي فانه قد شيد للمدرسة الرشدية العسكرية بناية خاصة بها تقع في محلة الميدان موضع المدرسة الاعدادية المركزية الحالية. وانه بعد دوامه في المدرسة الرشدية عام 1891م باسبوع واحد صدر الامر السلطاني، بانتقال المدرسة الرشدية العسكرية كلها إلى البناية الجديدة، في حين بقيت المدرسة الرشدية العسكرية حتى عام 1913، إذ تحولت المدرسة إلى مكتب سلطاني إستمر حتى عام 1917، ليتحول في عهد الاحتلال إلى معهد للمعلمين (دار المعلمين))بدأت الدورة الدراسية الاولى في حزيران 1917 وكان عدد الطلاب (81) طالباً اغلبهم من المعلمين السابقين الراغبين في الاستمرار بعملهم في التعليم، وقدعين لادارة المعهد الاستاذ= =(حسن رفقي ال قاضي الدمشقي) وكانت مدة الدورة الواحدة ثلاثة اشهر وقد نجح في الدورة (29) طالباً من ابرزهم محمد ناجي القشطيني وطه الراوي وداود نيازي سليم وسلمان الشيخ داود وغيرهم(. وحين دخل الجيش البريطاني بغداد في آذار 1917، نهبت اغلب اثاث المدارس، كما نسف الاتراك ليلة الاحتلال البريطاني بناية دار المعلمين الابتدائية، الواقعة أمام دائرة البريد (الاعدادية المركزية حالياً).
وفي عهد الاحتلال البريطاني وفي محاولة منه للتوجه لانشاء مدارس ثانوية وبخاصة بعد ضغط الاهالي وتوقع تخرج الوجبة الاولى من طلاب المدارس الابتدائية، اعلنت نظارة المعارف العمومية عن نيتها فتح مدرسة تجهيزية أو ثانوية في بغداد في 16 نيسان 1918، لكنها تأخرت في المباشرة بفتح المدرسة الثانوية في بغداد بحجة عدم توفر المدرسين الاكفاء ورحيل اغلب المعلمين السابقين مع القوات العثمانية المنسحبة.
وحينما تأخرت نظارة المعارف في المباشرة بفتح مدرسة ثانوية في بغداد، ولاسيما ان المدارس الابتدائية قد خرجت الوجبة الاولى من صفوفها النهائية، دفع ذلك الامر بالغيارى من معلمي المدارس الابتدائية لفتح صف ثانوي يتولون مهمة التدريس فيه، وقد اجتمعوا لذلك الغرض في صيف عام 1918، في دار الاستاذ محمد ناجي القشطيني مدير المدرسة البارودية لوضع خطة مشتركة لعملهم، وقرروا اثر ذلك فتح (صف ثانوي) في المدرسة الحيدرية التي كان مديرها عبد المجيد زيدان وبعد الاعلان تقدم للالتحاق بذلك الصف، خمسة عشر طالباً ممن انهوا دراستهم الابتدائية، من بينهم : نجيب الربيعي، وحكمت عبد المجيد، وحافظ جميل، ونهاد مراد، وحسين الكيلاني واكرم عبد الجبار وعلي حيدرالجميل، واكرم داود، وتقررأَنَّ تكون التدريسات في ذلك الصف على وفق= = منهج الدراسة الثانوية المصرية، أما من تولى التدريس في ذلك الصف فهم كل من عبد المجيد زيدان لتدريس الرياضيات، ومحمد ناجي القشطيني لتدريس اللغة العربية وهاشم الالوسي للاجتماعيات ونجيب مشرقي لتدريس اللغة الانكليزية وعبد العزيز الباجه جي لتدريس الطبيعيات وابراهيم العثمان لتدريس التربية الوطنية واخرهم عبد المجيد راغب محمد لتدريس التربية الدينية.

لم ترحب سلطات الاحتلال البريطاني بذلك الاجراء ولم تستحسن تبرع هؤلاء بالتدريس فاصدرت امراً باغلاق الصف دون بيان سبب مقنع لذلك، إلاَّ أَنَّ ضغط الاهالي وأولياء إمور الطلاب اثمر بموافقة الميجر (بومان) ناظر المعارف على اعادة فتح الصف الثانوي كخطوة اولى في حقل التعليم الثانوي. وقد فتح الصف الثانوي في اواخر عام 1919، إلاَّ إن عدد الطلاب انخفض إلى ثمانية، اغلبهم من المسلمين، واتخذ من غرفة في بناية (دار المعلمين) مكاناً له.
ومن اجل معالجة عدم توفر العدد الكافي من المدرسين لتدريس الاختصاصات اللازمة للتعليم الثانوي، رأى الميجر (بومان) ضرورة الاتصال بالجامعة الامريكية في بيروت لمساعدته في اعارة خدمات بعض الاساتذة للعمل في العراق، وفعلاً استقدم عدد من المدرسين المصريين والسوريين والبريطانيين، من خريجي الجامعة الامريكية في بيروت من بينهم: وديع عبد الكريم وجبرائيل كانول وجيمس سمرفيل، وفائز أسعد وفليب فيصل واميل جبر ضومط وغيرهم، وانضم اليهم عدد من الاساتذة العراقيين من بينهم عبد المجيد الخوجة ومحيي الدين الناصري.
ولما انتهت السنة الدراسية الاولى على فتح (الصف الثانوي عام 1919)، قررت نظارة المعارف العمومية، فتح ثانوية مستقلة، اتخذت من (بناية البعثات السابقة) الواقعة مقابل دار الضباط في باب المعظم مكانا لها وعينت لادارتها محمد عاصم الجلبي وفي الاعلان الذي نشرته نظارة المعارف يوم 23 آب 1920، أشارت فيه إلى أَنَّ الدراسة ستبدأ في تلك المدرسة يوم الحادي عشر من ايلول 1920 واما مواضيع الدراسة فهي: التربية الدينية – اللغة العربية – اللغة الانكليزية – الاجتماعيات – العلوم الطبيعية – الرسم – الاشغال اليدوية – الرياضة البدنية.

وتقرر أَنَّ يدفع كل طالب يقبل في المدرسة (روبية واحدة) شهرياً، وان يكون ناجحاً في امتحانات الصفوف الرابعة الابتدائية (جرت الامتحانات النهائية للدراسة الابتدائية (البكلوريا) لأول مرة في العراق عام 1921-1922 إذ كان القبول يعتمد على التلاميذ الذين انهوا دراسة الصفوف الرابعة الابتدائية وليست السادسة الابتدائية، للاسراع في عملية انشاء المدارس الثانوية وتطورها).  وعليه أَنَّ يراجع نظارة المعارف العمومية قبل اليوم الأول من شهر ايلول 1920، لملء استمارة خاصة تحتوي على بعض المعلومات الشخصية كاسم الطالب واسم المدرسة التي تخرج منها وعمره وديانته.
بدأت التدريسات الفعلية في المدرسة الثانوية الجديدة في 11 أيلول 1920 وكان عدد الطلاب في الصفين الأول والثاني (50) طالباً  أما المدرسون الذين كانوا يدرسون فيها فهم كل من الاساتذة: عبد المجيد الخوجة لتدريس الرياضيات ومحيي الدين الناصري للغة العربية وعبد العزيز الباجه جي للرياضيات ونجيب المشرقي للغة الانكليزية وأخيراً وديع عبد الكريم للطبيعيات.
وفي مطلع شهر آيار من عام 1921 تقرر نقل المدرسة الثانوية إلى بناية اخرى هي مدرسة الاتحاد (المأمونية)، ولكن لمدة قصيرة لحين توفر بناية تصلح لها، وكانت تلك من اهم المشاكل التي كان يعاني منها التعليم الثانوي والتي كانت تقف عائقاً امام فتح عدد من المدارس الثانوية.
إن مشكلة البنايات وعدم المباشرة بانشاء بنايات جديدة كانت من المشاكل المستعصية، ولعل من الاسباب المباشرة لذلك أَنَّ القوات العسكرية البريطانية كانت بحاجة إلى بنايات في بغداد مما جعلها تشغل بنايات المدارس القديمة كمكاتب ومقرات ادارية لها.

ونتيجة لذلك الوضع لم يكن أمام وزارة المعارف إلاَّ أَنَّ تتخذ بنايات غير ملائمة أو تستأجر دوراً فتجعلها مدارس علماً بان تلك الدور لم تكن مهيأة أو صالحة كمدارس، ولم تستطع الحكومة حينذاك اعداد ابنية للمدارس لضعف ميزانية الدولة التي لم تكن قادرة على توفير المبالغ اللازمة لتلك البنايات، ولم تستطع وزارة المعارف بناء عدد من المدارس إلاَّ في عام 1928، استناداً لما ورد في التقرير المرفوع من الحكومة البريطانية إلى مجلس عصبة الامم عام 1929 حول بنايات المدارس، والذي اشار فيه إلى أَنَّ عدد المدارس بلغ (18) مدرسة جديدة واربعة توسيعات في ابنية اخرى  الامر الذي دفع وزارة المعارف للبحث عن مبانٍ قائمة تصلح لان تكون مدارس ثانوية، فكانت بناية (المدرسة الرشدية) والواقعة أمام دائرة البريد المركزي في الميدان  واحدة من تلك البنايات التي اختارتها وزارة المعارف لتكون بناية خاصة بالمدرسة الثانوية وقد اختيرت تلك البناية  لما تتمتع به من مواصفات خاصة بعد أَنَّ اعيد بناؤها وتوسعت مرافقها والبناية مستطيلة الشكل، ومكونة من طابقين كل طابق يحتوي على عدد من الغرف ويطل الطابق العلوي على ساحة وسطية داخل المدرسة، فضلا عن ساحة خلفية، والبناية  اربعة اذرع يستند اثنان منها إلى خلف واثنان إلى الامام وكلا الذراعين بطابق واحد، وبين كل ذراعين ساحة مرصوفة بالطابوق (الفرشي) ويوجد في الذراع الايسر الخلفي قاعة للاجتماعات، وخلف القاعة دورة المياه بما فيها من أحباب الماء مفردها (حِب)، والمرافق الصحية والوصول اليها من خلف ذلك الجناح، لا من الساحة التي بين الجناحين.
وهذا مما يؤشر على أَنَّ الاحتلال البريطاني للبلاد، كانت له انعكاساته السلبية على مختلف جوانب الحياة العامة في العراق، ومنها السياسة التعليمية عامة والتعليم الثانوي بخاصة.
ولكن عند الانتقال من الاحتلال وسيطرته إلى الحكم الوطني، أخذت المدرسة الثانوية (الاعدادية المركزية) تتغير شيئاً فشيئاً، بفضل اهتمام الملك فيصل الأول، الذي كان معنياً بسير المعارف وضرورة النهوض بواقع التعليم، وكانت اولى اهتماماته تلك حل المشاكل التي واجهت وزارة المعارف ومنها مشكلة عدم توفر البنايات الصالحة لان تكون مدارس ثانوية، ومنها المدرسة الثانوية، لانها لم تكن بالمستوى المطلوب، لكونها الثانوية الوحيدة في بغداد.
ويذكر عضو مجلس النواب العراقي المحامي اسماعيل الغانم، الذي كان طالبا في المدرسة الثانوية في بداية العهد الوطني الملكي قائلاً ((كانت البناية التي تشغلها المدرسة انذاك عبارة عن خرائب معهد قديم (دار المعلمين) احترق بعد جلاء الاتراك عن بغداد، وكنا ندرس في بعض الغرف التي انشئت انشاء مؤقتا وعلى عجل وكنا ندرس وعمال الانشاء يشتغلون في انشاء الغرف الحديثة القائمة...)).
وفي ضوء ما جاء في مناهج الوزارات العراقية واهتمامات البلاط الملكي وتوجيهات الملك فيصل الأول قررت وزارة المعارف العام الدراسي 1925-1926 توسيع بناية المدرسة الثانوية نتيجة زيادة عدد الطلاب الملتحقين بها، فاصبحت المدرسة بحاجة إلى التوسيعات اللازمة، وشملت تلك التوسيعات الجديدة بانشاء قسم جديد يتألف من اربعة صفوف للدراسة، وغرف اخرى للادارة، وملحقاتها، وكان من المؤمل أَنَّ ينتهي العمل نهاية العام الدراسي المذكور. وفعلاً تم فتح القسم الجديد في المدرسة الثانوية في بداية العام الدراسي 1926-1927، واصبح مؤلفاً من ثمانية صفوف بعد أَنَّ كان بأربعة صفوف دراسية فقط وغرف اخرى للادارة وثلاث قاعات للمختبرات، كما اعيد بناء واجهة المدرسة الثانوية في عام 1927 وكتب اسم المدرسة على قطعة من الرخام الازرق، وان من قام بخط اسم المدرسة الثانوية وسنة التشييد الجديد عام 1927 هو ساطع الحصري.

وعلى الرغم من تغير اسم المدرسة من المدرسة الثانوية إلى الاعدادية المركزية، بعد فصل الدراسة المتوسطة عن الدراسة الاعدادية في ثلاثينات القرن العشرين، بقيت تلك الواجهة على حالها دون تغيير وليومنا هذا مع وجود ذلك التاريخ على واجهة المدرسة ولهذا ساد الاعتقاد لدى الكثيرين بان المدرسة الثانوية المركزية قد تأسست عام 1927، حتى أَنَّ وزارة التربية الحالية ومديرية تربية الرصافة الاولى ومديرية الابنية المدرسة التابعة لوزارة التربية، تذهب بذلك الاتجاه، وذلك غير صحيح كما اشير اليه سابقاً.
ومن التطورات التي شهدتها المدرسة الثانوية، انشاء قسم داخلي للقادمين اليها من خارج بغداد إذ تقرر في العام الدراسي 1925-1926، استئجار دار خاصة للطلاب يكون قسماً داخلياً لهم، وبذلك يكون ذلك القسم اول قسم داخلي للطلاب في العراق إذ استثنينا (القسم الداخلي) الذي انشاته المدرسة الامريكية في البصرة وقد قبل في القسم الداخلي (25) طالباً في بداية الامر، ثم استأجرت وزارة المعارف بعد ذلك داراً كبيرة تقع خلف دائرة الأطفاء الملاصقة لبناية (امانة بغداد) حينذاك، واعتمد قسماً داخلياً لطلاب الثانوية، وكان طلاب القسم الداخلي يذهبون يومياً بعد تناول العشاء إلى قاعة المطالعة في المدرسة الثانوية لمراجعة دروسهم وتحضير واجباتهم لليوم التالي، باشراف مدرسين من غير مدرسي المدرسة.
وبقيت المدرسة الثانوية المركزية، المدرسة الوحيدة في العراق، التي تتمتع ببناية جيدة وحديثة على وفق منظور ذلك الوقت استناداً إلى ما ورد في تقرير وزارة المعارف السنوي عن سير المعارف لسنة 1928-1929، إذ اشار التقرير إلى ضرورة انشاء مدارس تتوفر فيها الشروط الضرورية لضمان نجاح تطور المسيرة التعليمية، وان تلك الشروط لم تكن متوفرة حسبما ورد في ذلك التقرير إلاَّ في الثانوية المركزية في بغداد.

خنساء زكي شمس الدين

عن رسالة (الإعدادية المركزية للبنين
1919-1939–دراسة تأريخية-)

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

754 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع