أمين المميز : مؤسس الادب الدبلوماسي العراقي

    

     أمين المميز : مؤسس الادب الدبلوماسي العراقي

          

            

    

شخصية بغدادية عريقة، قال عن نفسه ( أسمي محمد أمين ، والدي عبد الجبار بك بن إبراهيم أفندي المميز، وقد أوردت تفاصيل نسبي وتعلقاتي العائلية

: أجدادي وأعمامي وأخوالي وأخواتي وأبنائي وأمي وجداتي وزوجتي في هامش الصفحة (37) من كتابي (بغداد كما عرفتها) ، جدنا الأعلى الوالي أحمد باشا بن الوالي حسن باشا، وكانا قد حكما بغداد حكماً شبه مستقل عن السلطنة العثمانية قرابة نصف قرن وأحمد باشا هو والد عادلة خاتون صاحبة الخيرات والنفوذ ومشيدة الجامعين المشهورين باسمها وهما جامع عادلة خاتون الصغير الواقع في عكد الصخر (مدخل سوق الصفافير مقابل المتحف البغدادي) وقد خلَّدته بعد تهدمه ثلاث نخلات باسقات ما زالت قائمة أمام العمارة التي شيدتها أمانة العاصمة في شارع المأمون مقابل المتحف العراقي القديم ، وقد شيد بديلاً عنه جامع في الصرافية بالاسم نفسه سنة 1962.
    
ذلك هو وجه من التاريخ القديم ، أما وجه التاريخ المعاصر، فيذكر أنا بغدادي (أصلي) ، وكما يقول المثل الدارج (جر كراع ودك كراع) ، وقال ولدت في بغداد سنة 1912 علماً انه ورد خطأ في التسجيل بالوثائق الرسمية انه ولد في 10/5/1909. في محلة كانت تعرف في غابر الأزمان محلة الدنكجية والتي وصفها في كتابه (بغداد كما عرفتها) بأنها كانت (قطب الكون) وصارت تعرف بعدئذ بمحلة (جديد حسن باشا) نسبة إلى الوالي حسن باشا والد أحمد باشا وجد عادلة خاتون ، وقد سكناها أباً عن جد وكما يقول (خبناها) كابرا عن كابر لمئات السنين)، ويذكرنشأت وترعرعت وسكنت ودرست فيها شطراً من عمري ولم أنفك عنها إلا حينما نقلنا سكنانا إلى الصرافية سنة 1935 وقضيت بين الدنكجية والصقلاوية والفلوجة والرمادي من أعمال لواء الدليم (محافظة الأنبار حالياً) .
 درس في كتاب الملا إبراهيم ابن الملا أحمد الشيخلي في جامع عادلة خاتون الصغير في عكد الصخر، وتخرج في المدرسة الحيدرية الابتدائية في بغداد عام 1924- 1925، و تخرج في المدرسة الثانوية في بغداد سنة 1928-1929، والتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1929 وتخرج فيها عام 1933 وعمل في سلك التعليم سنتين ثم انتسب إلى السلك الدبلوماسي الذي كان يسمى (الخارجي) سنة 1935.
 درس في جامعة لندن لمدة سنتين في موضوع العلاقات الدولية ولم يحصل على شهادة لنقله إلى منصب آخر، وكان أول تعيينه في المفوضية العراقية بلندن سنة 1936 ثم نقل إلى المفوضية العراقية في باريس سنة 1938 ثم نقل إلى السفارة العراقية في لندن ثانيةٍ سنة 1946 ثم نقل إلى السفارة العراقية في واشنطن سنة 1947 ثم عين قنصلاً للعراق في نيويورك وممثلاً للعراق في هيئة الأمم المتحدة سنة 1949 ثم عين مديراً عاماً للدائرتين السياسية والعربية في وزارة الخارجية ووكيلاً للوزارة بالوكالة بدرجة سفير ثم عين قائماً بأعمال المفوضية العراقية في دمشق سنة 1949-1950 ثم عين وزيراً مفوضاً للعراق في المملكة العربية السعودية سنة 1954 حتى عام 1956 ، وأحيل على التقاعد بعد ثورة 14 تموز 1958 وتفرغ لإدارة أعماله الخاصة وتتبعاته ودراساته التاريخية والتراثية .
انه العراقي الوحيد من منتسبي السلك الدبلوماسي الذي كتب أربعة كتب في الأدب الدبلوماسي بل ربما حتى على المستوى العربي وربما الأجنبي وأضاف : لم تكن عندي هوايات مفضلة في حياتي ، وكل هواياتي في صباي وشبابي كانت هوايات بسيطة عابرة ، كالتصوير والرسم وجمع الطوابع والنوادر والطيور والحيوانات الأليفة ومطالعة الصحف والمجلات والكتب وما إلى ذلك مما يستسيغه الشباب، وكنت بعيداً عن الرياضة والألعاب بكافة أنواعها ، ولم تتبلور هوايتي المفضلة ، وهي حب الأسفار ، إلا بعد انتسابي للسلك الخارجي فصرت أكتب كتاباً عن كل بلد أعمل فيه ، وقد "درت عكا ومكة وعكود اليهود" كما يقول المثل البغدادي ، لذلك الغرض ، فخرجت بثلاثة كتب عن البلاد الأجنبية ، فصدر كتابي الأول (الإنكليز كما عرفتهم) سنة 1944 ولما أهديت هذا الكتاب إلى المرحوم حافظ عفيفي باشا مؤلف كتاب (الإنكليز في بلادهم) ثم زرته عندما كان محافظاً لبنك مصر ، قال لي بكل تواضع " لو كنت أعلم بأنك ستصدر كتابك هذا لما أصدرت كتابي " ، أما الكتاب الثاني فهو كتاب (أميركا كما رأيتها) فقد صدر عام 1952 وحاز الجائزة الأولى للمجمع العلمي العراقي لتلك السنة ، عندما كان المرحوم السيد منير القاضي رئيساً للمجمع وذلك بتزكية وتوصية من عضو المجمع الأستاذ محمد بهجة الأثري ، أستاذي في اللغة العربية ...

                

أما الكتاب الثالث فهو كتاب (المملكة العربية السعودية كما عرفتها) فقد صدر عام 1963، وقد هدفت من ورائه التقريب بين العراق والمملكة العربية السعودية .

وقد تضمن كتابه الأخير بغداد كما عرفتها المطبوع سنة 1958 دراسات ومطالعات عن (سورية كما عرفتها) و(مصر كما رأيتها) و(فلسطين وشرق الأردن كما عهدتها) ، وهو يختلف شكلا وموضوعا وأسلوبا ولغة عن كتبه الأخرى ، فقد كتبه إبان الحرب العراقية- الإيرانية بعاطفة جياشة ورغبة صادقة وحب أكيد لبغداد كما يكتب عاشق رسالة غرام لعشيقته ، فلذلك تراه بدأ الكتاب بالعبارة التالية: "عهدا صادقا اقطعه على نفسي ووعدا صادقاً التزم به مادمت حيا فوالذي نفسي بيده لن استبدل شكنكه (شكنك، من الفارسية (شكسته سنك) ، وتعني الحجر أو الآجر المكسر ، وكان البناءون البغداديون يتخذونه حشية في بناء جدران الدور ) واحدة من أحجارك بكل صخور الدنيا وقصورها " كما ختم الكتاب بالعبارة التالية: "هاأنا ذا" بغدادي من أعماق جذور بغداد ومن صميم مراحل تاريخها الغابر والمعاصر ، وسأمضي بقية أيام عمري فيها والأعمار بيد الله واني لأوصي بان ادفن في ثراها الطاهر إن شاء الله ذلك ، وهو القائل صدقت كلمته وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.

 
 وعن طبيعته قال ( طبيعتي تميل إلى مراعاة التقاليد والتمسك بأهداب العقيدة الإسلامية وشعائر الدين الحنيف، وأني اجتماعي النزعة بالغريزة، أحب المعاشرة والمجالسة وتفقد الأصدقاء والأقرباء ، أمقت الأنانية والاستئثار وحب الذات ، أميل إلى التفاؤل في نظرتي إلى الأمور التي تجابهني في مسالك الحياة ، أجنح إلى المحافظة والاعتدال في التصرف ..

      

أحب مجالسة الشيوخ والمعمرين ، وأسعد الساعات هي التي كنت أقضيها في مجالس معروف الرصافي ورؤوف الجادرجي ومحمود صبحي الدفتري وتحسين قدري وصالح صائب الجبوري ، وفخري البارودي في دمشق ، والشيخ محمد نصيف في جدة .

        
 تعلقي بالتراث ، أو كما يسميه الشيخ جلال الحنفي (الفلكلور) تعلق أعمى لا يزعزعه كسب ولا مال ولا وعد ولا وعيد ، أفضل الطعام الشعبي واللباس الشعبي والغناء الشعبي وكل تقليد شعبي ، وأحب كل شيء قديم إلى حد الهيام ، لا شيء يغيظني ويخرجني عن طبيعتي الهادئة والمعتدلة مثل ما يغيظني أي تعد أو ظلم يقع على شخص أو على معتقدي أو على وطني ، فأبذل كل ما في وسعي لمحاربة ذلك الظلم والعدوان ، قدر استطاعتي وضمن حدود إمكانياتي ، متمثلاً بقول أحد الحكماء القدماء " لقد أقسمت أمام محراب الله شن حرب أبدية على كل لون من ألوان الظلم على البشر ".
 لازمت بغداد أيام طفولتي وصباي وشبابي وكهولتي وشيخوختي، وعشت فيها أيام بؤسها وشقائها وحرمانها، إني أحب الحياة لأني أحب أن أعمل شيئاً مذكوراً في هذه الحياة من أجل نفسي ومن أجل أبنائي وأحفادي ومن أجل وطني وأمتي ).

  

                                مع الأمير/ سعود الفيصل والسفير السوري

كتب عن تجاربه في السلك الدبلوماسي العراقي بلغة سلسة جميلة ومنها هذه التجربة :
كانت الفترة من تموز 1940 حتى تموز 1941 (سنة عسل) بكل معنى الكلمة بالنسبة لي فلن اصّبح بعد اليوم وعلى مكتبي بوزارة الخارجية اكداس من الاضابير المتعلقة بمشاكل الحدود بيننا وبين ايران، فبعد اليوم لا اسماء حمه رشيد وجعفر سلطان واحمد البرزاني ومصطفى البرزاني والشيخ محمود فارس اغا الزيباري وخولة بيزا تزعجني، لا عشائر الهركية والهورمانية والسنجابية والسورجية والبشدرية تقلقني كلما اقترب موعد اصطيافهم وحل موسم رعي مواشيهم في الأراضي الايرانية، ولا مخافر كاني سخت والبجيلية وني خضر وقالان وغيرها التي شيدتها ايران داخل الحدود العراقية تثير حفيظتي كلما ورد ذكرها في المخابرات، ولا نهر كنكير وكنجان جم والوند التي اغتصبت ايران مياهها باقامة السدود عليها وحرمان البساتين والمزارع العراقية منها، فافقرت اهاليها وشردتهم، تمر امامي فتوغر صدري، ولا قضية شط العرب وانتهاكات ايران المستمرة للاتفاقيات وللمعاهدات التي تثبت حقوق الطرفين في الملاحة والصيانة والعوائد واعمال الكري وشؤون الادلاء وغير ذلك تهز بدني .
اذا كان لا يمر يوم واحد الا ووجهنا مذكرة او احتجاجاً الى السفارة الايرانية في بغداد او الى وزارة الخارجية الايرانية بواسطة السفارة العراقية في طهران حول التجاوزات والمخالفات والانتهاكات الايرانية للحدود والحقوق العراقية ولكن دون جدوى، فلم تنفع الاف المذكرات ومئات الاحتجاجات التي وجهناها لهم ولا نفعت شكوانا الى عصبة الامم عام 1934، لحمل ايران على الانصياع الى الحق وسلوك جادة الصواب ومراعاة القوانين الدولية والمعاهدات والاتفاقيات ومقتضيات حسن الجوار.
ذكر المرحوم امين المميز في كتابه الشهير (بغداد كما عرفتها) الصادر في سنة 1952 بعضاً من قصص بيئته العزيزة، فنرى ان معظم الملامح البغدادية القديمة لتلك البيئة قد تغير تغيرا جذريا وتبدل تبدلا كليا فتارة يتحدث عن شرائح المجتمع البغدادي وتسقط اخبار مختلف الطبقات والشخصيات عاليها وسافلها التي كانت اسماؤها وقصصها واخبارها وممارساتها التي تردد على ألسنة الناس.

 
حيث ذكر المؤلف عن احوال بغداد في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الاولى يوم كانت في اوج ظلامها الحالك وكان كل شئ فيها بدائيا ومتاخرا وسيئا، كأنها تعيش في القرون الخوالي، ويومها كان في بغداد جسر واحد فقط من (الدوّب الخشبية العائمة) واذا ماانقطع هذا الجسر وهربت الدوب الى (كرارة) او نزلت (حدّار) الى البصرة، انقطع الاتصال بين صوبي الكرخ والرصافة الى ان تعود (الدوب) من حيث هربت مصحوبة ( بالمزيقة )، اما في بغداد ففيها الان اكثر من سبعة جسور حديدية ثابتة ومثلها عددا قيد التصميم والانشاء.

                                  
وكان الناس يستضيئون ويدرسون في ضوء الشمعة والقنديل والفانوس والادارة واللاّلة والاذيزة، وعند وصول الكهرباء الى شارع الجسر يحصل احتفال به، وصار الطلاب يدرسون على ضياء مصابيح الشارع اما اليوم فقد وصل الكهرباء الى كل بيت من بيوتها كذلك الى القرية والريف والهور والبادية.
اما السقا في بغداد القديمة فقد كان يطوف (بكربته) يحملها على ظهره او على ظهر حماره ليزود بها البيوت بماء النهر، ويؤشر على الحائط بباكورته حساب الدروب التي اوصلها الى كل بيت اما اليوم فقد وصل الماء الصافي المعقم الى كل بيت من بيوتها وتعدّ قوائم الحساب بالحاسبة الالكترونية.

اما الشوارع فكان فيها شارع واحد مبلط او مرصوف باستثناء عكد الصخر (شارع الجسر) المرصوف بالصخر الجلمود الاسود، اما اليوم فقد بلطت الاف الكيلو مترات في شوارعها احدث تبليط.
وفي بغداد قديما كانت هناك سيارة واحدة فقط من نوع (فورد ام اللوكيه) وهي سيارة الوالي خليل باشا فتسير في الشارع الوحيد الصالح لسير السيارة وهو الشارع الجديد الذي فتحه الوالي لهذا الغرض..

  

ويومها كان (الكاري) الذي يعمل بين بغداد والكاظم اسرع واسطة نقل في بغداد يومئذ، اما اليوم فترى مئات الالاف من السيارات والحافلات ومن الانواع كافة .
كما لم يكن في بغداد سوى خستخانة المجيدية وخستخانة اليهودي (مستشفى مير الياس سابقا) وخستخانة الغرباء في الكرخ اما اليوم فقد قامت مدينة الطب بالاضافة الى تأسيس عشرات المستشفيات الاخرى.

    
كما لم يكن في بيت من بيوت بغداد القديمة تلفون او راديو او تلفاز فكانوا يسهرون مع القرقوز (خيال الظل) والفوتغراف الذي يعمل بالاسطوانات اللولبية والعاب المنقلة والدومنة والطاولي والاسقنبيل او يقصدون احدى المقاهي للاستماع الى القصخون اما اليوم فعشرات الالاف من ارقام التلفونات موزعة بين البيوت كما يشاهدون البرامج التلفازية عبر الاقمار الصناعية من جميع ارجاء العالم.

  

    
ولم يكن في بغداد في نهر دجلة غير البلام والكفف والمهيلات والجلاج اما اليوم فالبواخر السياحية المتلألئة في شارع ابي نؤاس والاعظمية والموتورات والقوارب والبلام.
وايضا لم يكن في بغداد ساحة او حديقة ، والاطفال يلعبون بالازقة والدرابين وفي الخرابة المقابلة للقشلة والمجاورة لأمانة العاصمة القديمة والتي ليست هي الاّ مزبلة لرمي الانقاض والسيان وسقط المتاع او اللعب داخل البيوت اما الان فهناك ملعب الشعب وحديقة الزوراء ومدينة الالعاب.
وقد ذكر المؤلف في كتابه وصف الرصافي لبغداد يقول:
ايا سائلا عنا ببغداد اننا يهائم في بيداء اعوزها النبت
اما اليوم فكل عراقي يعتز ببغداديته وعراقيته.

والمؤلف حين يؤرخ للشخصيات التي تعرف عليها ولقيها وعايشها يورد من معالم حياة هؤلاء الناس ما يجعل القارئ يقرأ تاريخاً مجسماً ملموساً باليد وهذه مزية معروفة في المؤلف فليتهُ استغل أسلوبه في هذا الوجه فيحدث قرائه الكثيرين بحديث علاقاته بالناس من أعداء وأصدقاء على حد سواء لأن حياة المحلة تمنح السكان نسباً مثل شرف النسب العائلي. إن المؤلف ذاب حنيناً في كتابه هذا كأي بغدادي فقد كانت لغته في كتابه مذكراته الموجزة لغة ذات تعبير شاعري تستوعبه النفس قبل الأذن.

           
إن البغدادي قليل الهجرة الى آفاق المعمورة أو كان ذلك في اختياره فهو يحترق شوقاً ويلتهب التياعاً حين يفارق بغداد فتعنّ على باله مشاهد من باب الشيخ أو الفضل أو سوق الغزل وتظل تداهمه ذكريات الوطن العزيز إذ يذكر العلامة جلال الحنفي أنه حين كان يعمل في (شنغهاي) وهي إحدى مدن الصين كان إسم بغداد عالقاً في ذهنه فما كان أن يترك له فترة التذوق لتلك القارة العظيمة فكان أكثر من التعبير عن تعلقه ببغداد وفي شعره ورسائله وقد كتب له الأستاذ البصام أبياتاً من قصيدة له مطلعها :
دع عنك بغداد التي من شحها
ضنت عليك بدافئ من شمسها
فرد عليه العلامة جلال الحنفي:
أحببت بغداد ولست أخالني
مستبدلاً سعد السعود بنحسها
إني لأفديها بكل مدينة
في الخافقين بجنها وبأنسها
تلك هي طبائع البغداديين فان نار بلدهم خير من جنان الدنيا كلها لديهم وما يلام أحدهم على ذلك فلقد منح الله نكهة ما وجدوا لها مثلاً في بلدانه المنبثة في أرضه كلها على سعة أرضه وكثرة بلدانه.
إن المرحوم أمين المميز هذا الوجه البغدادي العريق قدم لنا في كتابه هذا كتاباً فلكلورياً نادراً يعج بالذكريات البغدادية العزيزة على البغداديين حيثما كانوا.

   
 
اخترت من كتاب المميز ما كتبه عن يهود العراق بصورة عامة ويهود بغداد بصورة خاصة، من عاداتهم وتقالديهم ومهنهم لما لهم اهمية كبيرة في العراق، لاقدمها للقارىء العراقي:

    

* يأكلون أندر الفواكه وأغلى الخضروات، وأول ما تنزل فاكهة الموسم الى السوق يشتريها اليهودي بأغلى الاسعار، واليهودي يأكل اللحم الصحي (الكاشير) المفحوص من قبل ( المَعلمْ) وكذا الحال مع الدجاج. (فحسب تعاليم ديانتهم عليهم ان يقدموا شكرهم لله بتناول أول فواكه الموسم، كما ان دينهم يحتم فحص الذبيحة بخلوها من الكسور في العظام والامراض التي قد تعدي الانسان)

          
* معظم اليهود يلبسون أحسن الملبوسات المصنوعة من أفخر الاقمشة الانكليزية المخيطة عند أحسن الخياطين في بغداد، إسلام أم يهود أم ارمن أو عند الخياط الهندي(فارما). (وذلك احتفاء باعيادهم حسب وصايا التوراة)
* معظم اليهود (يجرّون) العرق في بيوتهم مع أنفس العكدات المكونة من الحيوة وصدور الدجاج الدهينة.

   
* اليهودي يرتاد المقاهي البغدادية المختارة، مثل كهوة الشط وكهوة الباشا وكهوة الشابندر وكهوة موشي وكهوة المميز والتي يجد فيها التسلية والراحة وعقد الصفقات ولا يأبه بما يدفعه للكهوجي.

* اليهود لهم أرقى وأحسن النوادي في بغداد مثل نادي الرشيد ونادي لورا خضوري ولايسمحون لغير اليهود بالانتساب إليها.

 
* اليهود لهم ارقى المدارس الابتدائية والثانوية في بغداد، وهي الاليانس وشماش وفرنك عيني، واذا أراد اليهودي إرسال اولاده للدراسة العليا في الجامعات الاوربية والامريكية فباستطاعته أن يفعل ذلك دون قيود أو شروط أو حرج.
* وإذا أراد اليهودي الدفاع عن حقوقه فباستطاعته استقدام أكبر المحامين من الخارج، كما حصل في قضية الثري اليهودي(شمّيل جميلة) عندما استقدم المحامي الانكليزي الشهير في العشرينات المستر(بارنكتون-وارد)، لمتابعة دعواه في المحاكم.

                                   
* اليهود يجلبون أفخر البقر الحلوب والمؤصلة وأندر أنواع الطيور الاليفة (طيور المطيرجية) والببغاء والكناري وطيور الحب.
* اليهود أول من استورد السيارات الامريكية الى العراق، فكان إبراهيم وشفيق عدس وكلاء شركة فورد، وعزرا خضوري كير لاوي وكلاء شركة جنرال موتورز.
* اليهود يقدرون القمية الغذائية للنبك والجمّار ومَنّ السِما والشوندر المشوي بالطّمه فيدفعون لقاءها كل ما يطلب منهم من ثمن.

      
* اليهود لا يأكلون إلا السمك اليلبط (الحي) وشترونه من الشريعة مباشر، ويختارون أحسن المواقع على شاطىء دجلة لنصب (جراديغهم) الصيفية فيها كشاطىء الكاهورية وشاطىء الاعظمية الذي لم يتركوه إلا لمّا (هججهم) منه المرحوم نعمان الأعظمي)، اذ كانت هناك خطة لتهويد الاعظمية.
* أقدر معلمي السباحة في شريعة السيد سلطان على كانوا من اليهود وأن(المعلّم) صفاني هو أكفأهم.
* أكفأ زعرتي للطهور هو المعَلِمْ اليهودي، وكثير من المسلمين يجرون ختان اطفالهم على يد المعلم اليهودي.
* أكفأ مدرسي اللغات الاجنبية في بغداد كانوا من اليهود، أمثال صالح شميل للفرنسية، وحسقيل افندي للانكليزية و..و..
* أكبر التجار المستوردين للمواد الصحية الحديثة هم من اليهود. وأن سالم شمعون هو الذي ادخل (الكيزر) و(البويلر) و(البانيو) الى حمامات البيت البغدادي الحديث.
* أكبر المخازن لبيع الاقمشة على اختلاف انواعها، مخزن شاشا في خان الصفافير.

       
* بيت حكّاك هُم الذين استوردوا ماكنات (سنجر) وكراموفونات (صوت سيده) واسطوانات (بيضافون) الى العراق.
* بيت سودائي هم الذين أسسوا المعمل الذي ينتج الطابوق الرمادي اللون المعروف بأسمهم.
* بيت بلبول اشتهروا بكثير من المهن والمصالح التجارية المعروفة في بغداد وخاصة دلالة وبيع الاراضي، وأن سليم بلبول هو الذي تولى بيع اراضي الوزيرية لحساب الخزينة الملكية الخاصة.
* بيت دنكور احتكروا تجارة الورق والمقوى وسائر صنوف القرطاسية.
* أكثر من نصف أعضاء غرفة تجارة بغداد كانوا من اليهود.
* اذا مات احد اليهود دفن في مقبرة خاصة بطائفته هي مقبرة اليهود (قرب ساحة النهضة) ولا يجرؤ أحد أن يدنس قبورهم او يسيء الى موتاهم او يبخس من طقوسهم، او يمس شعائرهم الدينية.
لقد تميزوا بكل هذه الصفات لجدهم في كسب العيش ولغناهم وتمسكهم بتقاليد دينهم واتصالهم الوثيق باوروبا، كما ان يهود العراق كانوا يتبعون التيار العقلاني الذي ساد في العصر العباسي ايام المعتزلة والذي يدعو الى التمتع بالحياة ولم يندمجوا بالتصوف الذي يدعو الى التقشف والزهد.

      

                       مع الأمير/ عبدالرحمن السديري قائمقام جدة

الاستاذ امين المميز يعود بنا من خلال هذا الحوار الذي استذكر فيه بغداد القديمة.. كيف كانت وكيف عاش البغداديون فيها .
يقول لقد فطنت على بغداد ايام العهد العثماني وكان عمري نحو الست سنوات، وكانت محصورة بين الخندق ونور مجلة من جهة الرصافة، وبين النهر وحقول وبساتين ومقابر الشيخ معروف والشيخ جنيد، ومن الشمال محلة الجعيفر ومن الجنوب محلة الكريمات من جهة الكرخ ويربط الصوبين جسر خشبي عائم مكون من جساريات من الخشب ومهدد بالقطع كلما ارتفع منسوب مياه دجلة، بينما كان في بغداد قبل العدوان الثلاثيني عشرة جسور حديدية ثابتة دمرت ثلاثة منها بالقصف العداوني وتم اصلاحها بوقت قياسي وجهود عراقية جبارة ومواد محلية صرفة .
كان يحيط بغداد سور لم يبق منه الان جزء قليل يقع بين قاعة الشعب وجامع الازبك، وكان في السور القديم اربعة ابواب هي باب المعظم وباب الطلسم والباب الوسطاني والباب الشرقي، وكان ترددي على باب المعظم اكثر من الابواب الاخرى لاننا كنا نمر منها في طريقنا الى بستان الصرافية، الواقعة خارج السور والخندق، وقد هدمت باب المعظم سنة 1925م لتوسيع الساحة المقابلة لها والتي تقع عليها قاعة الشعب، كانت بغداد يوم ذاك عبارة عن محلات وبيوت متلاصقة اشبه بكورة الزنابير، تتخللها درابين وعكود ضيقة بعضها لايتجاوز عرضة مترين. ولم يكن في بغداد الامس لا شوارع ولا ساحات ولا حدائق ولا متنزهات ولا ملاعب رياضية.

  

واول شارع فتح فيها كان ايام الوالي خليل باشا وقد سمي باسمه (خليل باشا جاده سي) ويسمى اليوم شارع الرشيد، ان فتح هذا الشارع قد لازمته مشاكل عديدة، فعندما اقترب الهدم من منطقة الحيدر خانة احتج الاهالي واصحاب الدكاكين والوجهاء الذين يطال الهدم بيوتهم . فما كان من رئيس البلدية وكان يومئذ المرحوم رؤوف الجادرجي، الا ان يامر بالهدم ليلا، ولما الصباح اصباح جوبه الناس بالامر الواقع وليس لديهم من يشتكون اليه الا الله، ثم استمر الهدم حتى بلغ محلة السنك حيث تقع القنصلية البريطانية المعروفة محليا (بيت الباليوز) فاعترض القنصل البريطاني على هدم بعض مرافق القنصلية وجزء من حديقتها، فتوقف الهدم حتى نهاية الحرب العالمية الاولى وبعد احتلال بغداد استمر تنفيذ المشروع حتى وصل الى الباب الشرقي، لقد كانت هناك قنصليات اخرى عدا القنصلية البريطانية استفادت من توقف الهدم منها القنصلية الالمانية وكانت اوسع القنصليات ابان تشييد خط برلين – بغداد واشتهر قنصلها بين الاوساط البغدادية التي كانت تتندر باخباره، وكان اسمه (الهر ريجارد)، ولكن الاهالي يسمونه (ريشان)...

                  

               حسن فهمي المدفعي مع الملا عبود الكرخي

وكان اقرب اصدقائه ووكيل مشتريات القنصلية المرحوم الملا عبود الكرخي وكان القنصل الالماني (ريشان) ينتقل بين محلات بغداد راكبا عربة ذات (جرخين) يجرها (تك حصان) يسوقه القنصل نفسه. لم تكن بغداد التي وصفتها انفا من انها مثل (كورة الزنانير) بحاجة الى وسائط نقل، فكان الناس ينتقلون اما مشيا على الاقدام او ركوبا على الدواب، واتذكر بعض الذين شاهدتهم يركبون الخيل والحمير او البغال، سواء اثناء العهد العثماني او ابان الاحتلال البريطاني او في اوائل الحكم الوطني منهم الطبيب اليوناني (ياقو) الذي كان يمتطي حمارا اسود اللون، والطبيب الايراني اليهودي (مرزا يعقوب) الذي كان يزور مرضاه راكبا فرسا بيضاء، واليهودي (مير الياس) الذي كان يمتطي حمارا حساويا ليوصله من بينه في (ابو سيفين) الى المستشفى الذي شيده في العلوازيه. والعالم عبد السلام الشواف الذي كان يطوف محلات الكرخ ممتطيا البرنون الابيض...

                 

والشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي الذي كان يركب بغلة بيضاء، وصلاح الدين الضراع متولي اوقاف العلوية المعروف بين اصدقائه ومحبيه (الملا شجر) الذي يمتطي حمارا ابيض، ومن الشخصيات الاخرى كان المرحوم (ادوار سيزار) الذي كان مترجما لدى الحاكم العسكري (ارنولد ويلسون) ثم مع السيد برسي كوكس، وبع ذلك كان مدرسا للغة الانكليزية في المدرسة الثانوية فكان الشاهد بين حين واخر راكبا حصانا ومعتمرا برنيطة ومصطحبا حقيبة تضم الرسائل و(الصوغات) و(الخرجية) التي يرسلها نوري السعيد بواسطة الحاكم العسكري الى عائلته التي كانت تسكن محلة (رأس الكنيسة) ابان وجوده خارج العراق بمعية الملك فيصل الاول.

      
اما وسائط النقل الأخرى غير الخيل والحمير والبغال فكان (البلم) و(الكفة) و(الجلج) و(الشختور) وسائط النقل النهري، والعربات على انواعها (الربل) او (اللاندون) والبرشقة من وسائط النقل البري. ولما تولى الوالي المصلح مدحت باشا ولاية بغداد سنة 1879 م اسس واسطة نقل بري جديدة هي (الكاري) الذي يصل صوب الكرخ بالكاظمية، ان عربة (الكاري) تسير على سكة الحديد ويجرها زوج من الخيول تستبدل بزوج اخر من منتصف الطريق بين الكرخ والكاظمية وهي محطة (المنطكة) لقد ركب (الكاري) مرة واحدة في حياتي وكأني ركبت طيارة (جامبو) فقد دعاني صديقي المرحوم إبراهيم الجلبي ابن الحاج عبد الحسين الجلبي وزير المعارف في معظم الوزارات العراقية الى قصرهم المعروف بـ(القصر ابو الايل) وهو المحطة قبل الاخيرة من وصول الكاري الى الكاظمية وهو الآن موقع ساحة الشاعر عبد المحسن الكاظمي. وكانت الدعوة لتناول الغداء يومئذ (الفسنجون) وهي أكلة ايرانية يسحنها طباخهم الايراني المدعو (ميرزا قلي!!).
ايها الاخ الكريم: لقد جئت لزيارتي بالسيارة وربما استغرقت الرحلة بين بيتك وبيتي ربع ساعة.. ولكن هل تعلم كم كانت الرحلة تستغرق من الوقت بين دارنا القديم الواقع في محلة (الدنكجية) وداري في الصرافية؟ كانت تستغرق بين ساعتين او ثلاث ساعات واليك التفاصيل:

   

نغادر البيت صباحا باتجاه سوق السراي مشيا على الاقدام، ونستقل (البلم) من شريعة (المكتب) ليوصلنا الى شريعة المجيدية (موقع مدينة الطب) حيث ينتظرنا الفلاح مستصحبا الخيل التي نمتطيها لتوصلنا الى بستان الصرافية موقع السفارة اللبنانية حاليا) قنصلها بعد ثلاث ساعات على اقل تقدير ومثل هذا الوقت تستغرق رحلة العودة من الصرافية الى الدنكجية .
فقارن بين تلك الرحلة وبين رحلتك في الوصول الى بسيارتك اما السيارة الوحيدة التي وصلت بغداد في اواخر العهد العثماني فكانت سيارة الوجيه (حمدي بابان) ما عدا سيارة الوالي (خليل باشا) ولاسيارة غيرهما في بغداد، اما الان فان مئات الآلاف من السيارات تطوف شوارع بغداد التي صارت تزدحم بها .

                 
أما عن الخدمات العامة في بغداد كما عرفها
فاما الماء، فكان امرنا معه مفجعا ومؤلما وبائسا. كنا نعتمد على السقاقي (جمع سقا) لتزويدنا بالماء من اقرب شريعة، وهي مياه ملوثة وقذرة و(خابطة) خاصة في مواسم الفيضان، فتملا (الحباب) بها ونصفي شيئا منها (بالبواكات) للشرب، ونستعين احيانا بماء البئر، ولكنه مالح و(مج) لايصلح لا للشرب ولا للطبخ، وكنا نستعمل البئر، (كثلاجة) لتبريد الفواكه في الصيف لان ماء البئر بارد يكون دافئا في الشتار فنستعمله للوضوء!!
وبعد الاحتلال البريطاني لبغداد تاسست في بلدية بغداد لجنة اسالة الماء، فشيدت منشآت بدائية في ستان الصرافية، فحفرت احواضا واسعة كي تملؤها بالماء الذي تسحبه المضخات من النهر ثم تضخه بالانابيب الى بعض مناطق بغداد، وبعد ذلك تتم تصفيته بالشب، فلا (كلور) ولا (اوزون) ولاهم يحزنون!!.

                              
واما الكهرباء، فلم تكن تذكر في بغداد حتى الاحتلال البريطاني سنة 1917 وكانت وسائل الانارة تقتصر على الفوانيس واللالات والثريات او الايزات و(الادارات) التي تنار بالنفط والقناديل التي تنار (بالشيرج) وعلى شموع الكافور.
وبعد الاحتلال تاسست في (العباخانة) محطة للكهرباء لتزويد الشوارع والدور والدوائر بالكهرباء، فصرنا ندرس على ضوء المصابيع الكهربائية المنصوبة في الشارع المؤدي الى الجسر والمسمى يومئذ (عكد الصخر) وبعد عدة سنوات من تلك المعاناة توسعت شركة الكهرباء واسست محطة كهرباء الصرافية التي الغيت في الوقت الحاضر، بعد انشاء مصلحة الكهرباء الوطنية .
     

                                                المتحف البغدادي
حَمّامات بغداد أيّام زمان منتجعات للترفيه والغناء
في مذكراته (المملكة العربية السعودية كما عرفتها) التي كتبها الحاج المرحوم امين المميز، يصف وزير العراق المفوض في السعودية لحظة وصوله الى مطار جدة في العشرين من مايس عام 1954 ولحظة خروجه من الطائرة بانها تشبه الدخول الى (حمّام حيدر)، لحرارة جو الحجاز العالية المشبعة بالرطوبة

و(حمّام حيدر) الذي يضرب به المثل، كان في شارع المستنصر قرب محلة رأس القرية، وينسب إلى حيدر جلبي من أغنياء بغداد وموسريها، وهو احد بقايا عشرة آلاف حمّام في بغداد وحدها، كما قدرها المؤرخ اليعقوبي في القرن الثالث الهجري (955م)، قبل ان يتناقص عددها ليصل في القرن السادس الهجري الى الفي حمّام فقط!
وكلمة (حمّام) أصلها (حمّى) باللغة العربية وتعني الحرارة المفرطة وقد وردت بصيغة (حمّام تركي) لدى البعض على الرغم من أن الأتراك لم يستخدموا الحمّامات عندما كانوا بدواً في موطنهم الاصلي بآسيا الوسطى، لكنهم استخدموها بعد دخولهم الى الإسلام.
واصبح الحمّام في بغداد جزءاً من الحياة البغدادية منذ اقدم العصور، وفي أواخر العهد العثماني وبداية الاحتلال البريطاني لبغداد عام 1916 فإن الحمّامات البغدادية كانت جزءاً من حياة (البغادة) الحافلة بالمعتقدات والعادات الشعبية والحكايات، اذ لم يوجد بغدادي في بداية القرن الماضي ليس له حمّامه العام الذي كان يرتاده قبل أن تصبح شيئا من الماضي، لأن بيوت البغداديين أيام زمان نادراً ما تجد فيها حمّاماً خاصاً الا عند الموسرين منهم الذين بنوا القصور والمنازل الحديثة.
ويتذكر الحاج سبع عبود، الذي مازال يتردد على احد حمامات الكرادة، ان الحمّام البغدادي كان ملتقى اجتماعياً يجمع أبناء المحلات المتقاربة، ويتميز بفوائد عديدة لا تقتصر على الاغتسال والنظافة، انما كان منتجعاً للترفيه والطبابة والتعارف والاسترخاء وحتى الغناء اثباتاً للموهبة والهواية، وكانت له طقوس وعادات وأجواء زاخرة بالطرافة والفكاهة

    

تتكون اغلب الحمّامات من ثلاثة اقسام:
1.الأول (المنزع) او حوش الحمّام وهو الذي أول ما يدخل اليه الزبون حيث يجلس على (لوج) مرتفع في مدخله وحوله اشبه بالرفوف فيها المناشف والصابون ومستلزمات الحمام الأخرى، وتحيط بالمكان (دكة) مفروشة بالحصران والبسط يجلس عليها الزبائن ويضع كل واحد منهم (بقجة) فيها أغراضه وملابسه ويشرع في نزع ملابسه ويتقدم منه عامل الحمام ليعطيه (الوزرة) او ما يسمى (البشطمال) يلف جسده بها كما يعطيه قبقاباَ خشبياَ يضع قدميه فيه.
2.بعدها يذهب الزبون الى (قسم التعرق) وهو قاعة ثانية بدرجة حرارة مناسبة تفصله عن الأولى ستارة من قماش سميك وفي وسطها (دكة) يتمدد عليها الزبون لكي يتعرق، واذا أراد المستحم (مدلكجياً) فطلبه موجود حتماً.
3.ثم يدخل المستحم الى قاعة الاغتسال التي هي قلب الحمام الساخن حيث تتصاعد الحرارة العالية مع بخارها، وهي قاعة مستطيلة أو دائرية حولها أحواض الغسل وفي كل حوض حنفيتان، واحدة للماء الحار والأخرى للماء البارد مع (طاستين) نحاسيتين.
وغالبا ما يشترك اكثر من شخص في حوض واحد، وهنا يقوم (المدلكجي) بغسل جسم الزبون بالليفة والصابون مرتين أو ثلاث مرات، وحين ينتهي الزبون من الاغتسال يطرق بـ (الطاسة) النحاس على حافة الحوض لكي ينبه عامل الحمّام بأنه جاهز للخروج ويريد مناشف، ثم يخرج الى مدخل المنطقة الوسطى (التعرق) ليجد العامل بانتظاره حاملا له المناشف النظيفة، ثم يقدم له شاي الدارسين، وبعد فترة (تنشيف) يرتدي ملابسه النظيفة ويلف ملابسه الوسخة في (البقجة) التي معه ويقوم بدفع أجرة الحمام وإكراميات (المدلكجي) وعامل الحمّام و(الجايجي)

وما يثير الدهشة ان وقود تلك الحمّامات كان (روث الحمير) ! اذ كان يوجد الى جوار كل حمّام (تلّ) من روث الحمير يشترونه من (النكاكيب) وهم باعة الطابوق والجص والقصب والحصران، ولهؤلاء الباعة عدد من الحمير فإذا (روثت) حملوا الروث إلى الحمامات وباعوها لأصحابها، وينشأ من هذا الروث بعد إحراقه لتسخين ماء الحمام نوع من الرماد شديد الزرقة كان أصحاب الحمّامات يبيعونه لبائعي المواد الإنشائية الذين يخلطونه بالنورة فينشأ منه ما هو اشد قوة من السمنت.

     
واذا ذكر حمّام الرجال فلا بد ان يذكر (حمّام النسوان) الذي اشتهر في الامثال الشعبية كمكان يضج بالاحاديث الصاخبة للمستحمات ولا يفهم منه شيء.
وحمّام النساء هو نفسه حمام الرجال إلا أن ذلك الحمام يترك نهاراً لاستحمام النساء ويعمل ليلاً في خدمة الرجال المستحمين.
تقول الحاجة (ام سمية): كان يوم الذهاب الى الحمام يوم (كسلة) بالنسبة للمرأة، تصطحب معها (الركية) وهي اناء دائري مضلع على شكل (اشياف) الرقي مصنوع من (الصفر) أي النحاس، وله غطاء وتستخدمه لحفظ التجهيزات الخاصة بها مثل (الديرم وسبداج الوجه وكيس الحمام والليفة والصابونة ومشط الخشب والحجارة السوداء.
وعلى ذكر المثل (اذا ضاق خلكك اتذكر ايام عرسك) تستذكر الحاجة ام سمية التي جاوزت عقدها السابع من العمر احلى ايام عمرها، وتقول ان العروس كانت تأتي الى الحمّام برفقة صاحباتها فيتحول المكان الى احتفال تتعالى فيه الزغاريد والاغاني حيث تكون (طاسات الصفر)، في مقدمة آلات العزف المصاحبة للغناء! وتضيف ان بعض النسوة المستحمات يقضين معظم النهار في الحمّام، لذلك تراهن يستحضرن جميع ما يلزمهن من الطعام مثل الكباب والكبة وخبز العروك والفواكه خصوصاً النومي حلو ولايرجعن الى بيوتهن الا عصراً، وذلك تنفيساً لبقائهن في بيوتهن شهراً كاملاً او اكثر لا يخرجن منه الا للجيران او الاقرباء !
وللبغداديين قصص طريفة عن ايام طفولتهم وهم في سن الخامسة أو السادسة من العمر حين كانوا يذهبون مع امهاتهم الى (حمّام النسوان) وبعضهم لايسمح له بالدخول برغم ان عمره كان دون السابعة لاعتقاد بعض النسوة ان هؤلاء الاطفال قد يسترقون (النظر المحرم) لان عيونهم ربما تزيغ هنا او هناك بقصد او بدون قصد!

       
وللعرسان حكايات لاتنسى، اذ كان العرس في بغداد يبدأ من الحمّام حيث تبدأ مراسيمه بالنسبة للعريس من ساعة أخذه للحمّام مع مجموعة من اصدقائه المقربين الذين يدفعون اجور (الحمّام) تكريماً له، وبعد ان يتم (غسله وتوظيبه) يخرجون به الى الزفة في ليلة الدخلة !

        
ويبدو ان نوري السعيد كان من رواد احد حمّامات بغداد في منطقة الحيدرخانة، حسب قول الحاج رجب رشيد الذي كان يسكن في بيت العائلة قرب الحمّام، ويشير الى ان (الباشا) كان يصحب مرافقه (الشرطي) الذي يحمل (بقجة) ملابس اشهر رئيس وزراء عراقي وهما يدخلان الى الحمّام!!!
واذا تحدثنا عن اشهر حمّامات الكرخ، فلا بد ان نذكر (حمّام شامي) الذي يعود تأريخ انشائه الى القرن السادس عشر الميلادي ويقع في علاوي الشيخ صندل و(حمّام ايوب يتيم) و(حمّام الجسر) ويقع بجوار (مشهد بنات الحسن) و(حمّام الجعيفر) في الكرخ.
أما في الرصافة فأشهرها (حمّام حيدر) بقسميه الرجالي والنسائي و(حمّام الشورجة) و(حمّام بنجه علي) مقابل سوق الصفافير و(حمّام كجو) في باب الآغا و(حمّام الباشا) قرب سوق الهرج و(حمّام المالح) الذي سميت المحلة باسمه و(حمّام الكهية) و(حمّام يونس) في محلة الميدان قرب باب المعظم و(حمّام عيفان) و(حمّام القاضي) بجانب المحكمة الشرعية وأكثر رواده من تجار بغداد ويتميز بنظافة المكان وأناقة (المنزع) و(حمّام السيد) و(حمّام الراعي) يقع في محلة باب الشيخ و(حمّام السيد يحيى) في محلة سوق الغزل في سوق العطّارين، و(حمّام كيجه جيلر) و(حمّام بكتاش خان) وغيرها من الحمّامات التي اختفت من بغداد الان.

  

وبعض الحمّامات تكاد تكون خاصة لمستحمين لا يتردد غيرهم عليها ومنها التي لا تسع أكثر من أربعة أشخاص وهي تقع داخل البيوت. واخذت حمّامات بغداد حيزاً كبيراً من الذاكرة الشعبية البغدادية، ويكاد المؤرخ يجزم بأن لا أحد من البغداديين من لم يدخل (حمّام السوق) كما يطلق عليه اليوم. ولا يوجد حمّام من حمّامات بغداد له طقوس تختلف عن غيره، لكن طباع البغداديين تكون مختلفة عموماً، فكل واحد يريد الحمّام على مزاجه ومرامه، لذلك يختار البغدادي حمّامه الخاص ومقهاه الخاصة وصحيفته المفضلة وحزبه وزعيمه الخاص به وشيخه الذي يفضله على الآخرين، وفي الحمّام لابد للمستحم أن يختار مدلكه ولا يحيد عنه !

         

وعلى اريكة متهالكة في مقهى حسن عجمي في محلة الحيدرخانة، جلس الحاج خليل ابراهيم بجسده المتعب متأملاً صخب الباعة والحمالين في شارع الرشيد، وحين عرف ان الموضوع عن حمّامات بغداد، قال بلهجة بغدادية ( أغاتي، كانت الناس ايام زمان تدخل الحمّام لتنظف اجسامها، اما اليوم فلن تستطيع حمّامات الدنيا تنظيف نفس توسخت بالحرام ويد تلطخت بالدماء .!

     
  
رحم ألله أمين ألمميز وطيّب ثراه فقد كان دبلوماسياَ ناجحاَ وكاتباَ رائعاً باسلوبه السهل والممتع وكان انساناً صادقاً... كاتب موسوعة بغداد والدبلوماسي المتمرس الذي طواه الموت يوم الأحد 15 / حزيران / 1997 ودفنت معه أسرار وأسرار عن فترة الحكم الملكي وما قبله...


هذه ألمقالة هدية للأستاذ القدير وألدبلوماسي ألمخضرم عبدالوهاب الجواري لما يحمل ألرجلان من صفات مشتركة أطال ألله بعمره ألمديد وأنعم عليه براحة ألبال ليكتب لنا ألتاريخ وليسجل تجربته كدبلوماسي عايش شخصيات معروفة..

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

621 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع