رواية فوهة في الفضاء لمحمود سعيد

       

رواية فوهة في الفضاء لمحمود سعيد
المفقود غائب في ثقب الذاكرة
د . فاروق أوهان

هل هناك أقسى، وأمرّ من حالة الضياع التي يعانيها أهل مفقود، غاب في ليلة، ولا أخبار عنه، فكيف حالهم، والمفقود لم يعد من جبهة الحرب، فلا هم يُقرون بموته، ولا هم متأملون في عودته، حالة مؤسية من الضياع، والتماهي في كوابيس يغوص الأهل في دهاليسها لمرات، ومرات من غير أمل. هواجس في الأحلام، وتفتيش في الواقع. وأمل موهوم معقود على عودة غير مرتقبة. لهذه المعاناة وودت منذ البداية تسمية الرواية ثقب في السماء، أو ثقب في الفضاء؛ ثقب في الذاكرة، لأن حالة ضياع عزيز، يبقي الأهل بين الأمل واليأس، لتظل الحالة مثل ثقب في قربة، أو نزف وريد يشخب بلا انقطاع، لا ينهيه سوى عودة الغالي الغائب، أو فناء المنتظِر، وموته.
في رواية فوهة في الفضاء للمبدع محمود سعيد، ورغم هواجس الانتظار المرير، فإن قسوتها تجعل القارئ يستمتع المرارة إلى حد التماهي في بعض أحداثها التي تتعلق بالتيه الذي يعتري من له مفقود يبحث عنه، ويتعلق بقشة يعرف مسبقاً أنها هي الأخرى إحدى أوهامه.
في تقويمي للرواية خصصت جزءاً للمقدمة وآخر في سياق التقويم نفسه، ولم أفوّت الفرصة في تسجيل اندهاشاتي الفنيّة من خلال المطالعة الأولى مصحوبة بشواهد من متن الرواية ذاتها، وتبقى الخاتمة استثنائيّة لتأثير الرواية فيّ كقارئ، وليس كناقد؛ أهنئ المؤلف على عمله البديع؛ وأتمنى أن تكون ملاحظاتي في مكانها.

المقدمة
فكيف عالج المؤلف مقاربته بين باحثين اثنين كل عن مفقود عزيز له، منذر لابنه، وزهرة لشقيق زوجها، حب من طرفين أب، وأرملة، أراد المؤلف أن يجمع قلبين موجعين بآلام البحث من خلال توحد المشاعر، وتناسق الهواجس، وتعاطف إنساني لا قيود اجتماعيّة تحدده.
تبدو الرواية واحداً في اثنين. أنهما روايتان متداخلتان يجمعهما رابط ضعيف جداً، ونقصد علاقة منذر بزهرة من جهة، وقصة المفقودين في الحرب. عالجها المؤلف بمهارته الفنيّة، وخبرته في التأليف الروائي. ولكننا كنا نتمنى عليه أن يفرد محوراً استباقياً عن إعجاب خفي من طرف منذر لزهرة، قبل أن يراها في بغداد لدى الصليب الأحمر، كان سيبدو إعجاباً متبادلاً. له تأريخه. ربما سبق لهما أن التقيا، ولنفترض أنه حدث أثناء المحاكمة، فقد تكون زهرة قد رافقت محاميها إلى مكتب منذر لتقديم هديّة كما أشارت الرواية في الاسترجاعات.
ومع هذا بدت تلك العلاقة، والأحداث المختصة بزهرة ومنذر، وكأنها في عالم منفصل عن الراوية ذاتها، لا تمت للرواية الأصليّة حتى من حيث الأجواء والمناخات، والتعابير، فقد كان بالإمكان جمع المعجبين في أيّة ظروف مماثلة، أو مصادفة. وتمرير كيفيّة نشوء نوازع زهرة الجنسيّة، ودوافعها، ربما كانت الروية بحاجة لمحور يبين علاقاتها وهي شابة، حتى في مشهد خطبتها من زوجها من غير سرد، واسترجاع، ما دامت الرواية واقعيّة، أكثر عنها أي لون آخر. ولربما كنا سننظر إلى مستوى تعلّق أولادها بها، كما كانت علاقة منذر بأنور، ونور.
إلى هنا وبعيداً عن سرد المعطيات الأخرى، علينا أن نسترجع انطباعاتنا الأوليّة للقراءة الأولى، لنعبّر عن فعل الاندهاش خطوة فخطة، ومن ثم سنجمعها في محصلة تقويميّة عامة.

مراجعة في سياق الرواية العام يبدأ المؤلف رواية فوهة في الفضاء باستخدام مفردات الحرب التي اعتادها الناس، والتي شملت حياتها اليوميّة، وتدخلت في ثناياها وكأنها كابوس جاء ليطعي على كل شيء، ويغلفه بقسوته، ومرّة بعد أخرى يبتكر الإنسان الواقع تحت ضغط الحالة التي لم يخترها، وليس بإرادته التخلّص منها. كلّ ما يفعله، أن يتفاعل مع مجرياتها بردود أفعال تبدأ فرديّة، ومن ثم تصبح جماعيّة، وكأنها تنتشر مثل الإشاعة، لأنها تعبر عن حال الجميع، يبتكر المؤلف لتلك الوضعيّة مصطلحاتها التهكميّة المريرة كقول أم أنور التي تعقص حاجيبيها لتهتف مكلّمة نفسها بدأ الغيث، يا فتاح، يا رزاق 1 . ومع هذا فليس بالقول وردود الأفعال من قوّة لكي تزيح الكابوس، بل إنها مصيبة شملت الوطن، تبقى تسير مع يوميّات الناس الحياتيّة، وتتقاطع معها كلما أعلنت غيضها بفعاليّة يسمع صداها الجيران، وتقع مصيبة القصف على أهالي الحي، والبيوت التي نالتها نيران الصواريخ، أما بين القصفين فإن الحياة تسير بشكلها الاعتياديّ استمرّت أمّهما تعدّ الفطور، توزّع الصّحون على المائدة. بعد نحو خمس عشرة دقيقةً جاء صوت القنبلة الثّانية أقوى من الأولى. وصار الناس يخمنون بالهاجس مواقع سقوط الصواريخ من خلال قرب، وبعد الصوت، ويتراهن البعض في تخمين موقع الصاروخ، أو القنبلة قرب ثانويّة الموانئ. هذه المرّة العشرون يُقصف محيط الثّانويّة، لكنّ لم تقع أيّ قنبلة على المدرسة.
إن لأجواء التعلق بأمل عودة الغائب مناخاتها التي تفرض نفسها حتى على سياق الحياة اليوميّة، ومنها وميّات الرواية نفسها، وأبطالها الذين يعانون في البيت، وأينما تواجدوا، وحيثما تلاقوا مع جيران، والأهل، وفي هذه الأجواء المريرة التي يعريها المؤلف، يتعلق بأيّة نأمة، وإشارة لكي يعكس تصابر الشعب على محنته، وتفاؤله في انفراج الأمر بين لحظة، وأخرى، لهذا فإن المؤلف يحاول أن يضفي على المحنة جوانب تتعلّق بمصابرت الطبيعة هي الأخرى، وتشامخها، فنراه يصفها بإضفاء روحيّته التي تتفاعل مع الطبيعة في جمال الكائنات، وسحر الموجودات، وكأنّه يتحاور بذلك مع الكون، ويحاكي ذاته في ماهيّات الخلود، وجماليّات الألوان، والتشكيل الكونيّ الفريد، وما تعكسه الحياة التي تأقلم عليها، فتتانسق وروحيّة الكائن الحيّ، حتى في أجواء الظلم، والمعاناة ينتقل الزّيطة فوق ثيّل الحديقة بقفزات. جمال ساحر، تناسق الأبيض والأسود خلّاب. حركات رشيقة. ذيل طويل رائع يتحرك إلى الأعلى والأسفل ليخلق توازناً يمكنّه من الحركة.
ولا يترك المؤلف سانحة إلا ويجسد من خلالها حال من يقع تحت طائلة واقع لا يستطيع أن يزيحه بنفسه، حاله حال طائر جميل، ضعيف عليه أن يتأقلم مع الواقع الذي سحب إليه عنوة، فها هو المؤلف يعقد مقارنة بين طائر الزيطة، وحال العراقيين من خلال حواريّة بين نور وأخيها أنور فتقول نور أتعلمون أن الزّيطة مظلوم مثلنا نحن العراقيّين جميعاً، لا يحظى بأيّ اهتمام تساءل أنور كيف؟. فترد نور أظنه أجمل طائر في العالم، طائر العراق الوطني بلا منازع لكنّ لا أحد يعترف به، ولا يذكره أيّ مؤلف في أيّ كتاب مدرسيّ، ولا يوجد عنه أيّ بحث. 3
وللابتعاد عن أجواء البحث عن المفقود، وقسوة مؤثرات الحرب، يعمد المؤلف إلى تخفيف التوتر من خلال وصفه للأماكن، فيجعل القارئ يجوس بأقدامه خطوة فخطوة، وكأنما القارئ مرافق للأبطال في الحدث، بل هم إحدى هواجسه التي ستكشف له عبر السطور ما يمكن للمكان أن يكشفه لهم، وله في عين الوقت، بل يتنفس، يشم، يسمع، يئن، يدوخ، ينزعج من الهواء الملوث، ويحاول أن يعود نفسها على دوي أصوات الانفجارات، ويقنع نفس بالارتياح لها، ويرى المؤلف ببصيرة الأشخاص ما يرنو إليه، وما يسدر له من توقعات، فيصورها في تعابير، وكأنما يراها القارئ في حلم مصور لفيلم متتابع اللقطات، وبمونتاج حريف ماهر اقتربا من حيّ الموانيء. سمعا من بعيد أصوات سيّارات الإسعاف تنطلق نحو الجنوب وبوضوح. اقتربت السّيّارة من بيت سعدي. الزّقاق مليئ بالنّاس، نساءَ، رجالاً، أطفالاً، لكنّ لم يكن هناك سيّارة إسعاف. قدّر عادل أنه لا يستطيع أن يدخل بالسّيّارة في العطفة المزدحمة تركاها في بداية الشّارع مع الزّقاق الفرعي، بعيداً عن التكدّس الملموم في وسطه. حين ترجّلا منها ملأت خياشيمهما راحة البارود المخرّشة. شاهدا خيط دخان ينبعث من وراء البيت يكشف أن هناك حريقاً مازال يلتهب. بينما كانت واجهة الدّار الصّفراء، والباب السّاج الخشب سالمتين لم يصبهما ضرر. 6 .
ولربما وجد المؤلف من الضروري تليين القسوة، والمصائب من خلال استمرار الحياة وتداعيات حب الجمال، والتغزل بالمفاتن، فالروح الإنسانيّة تسعى للجمال حتى في أصعب أوضاعها، وأحلك أيامها، فيقوم بطرقه الخاصة في طرح التغّزل بمفاتن النساء، ولا يستثني أيّة أنثى بيضاء، أم سمراء، المهم أنها أنثى تستفز مشاعره، فيشغف بالمفاتن، ويروح ينسج عبارات نادرة، نافذة، ومستفزة للرغبات حتى بالنسبة للقارئ، هذا الشعور قد ينتاب القارئ ليتساءل عن مشاعر المؤلف المتوقدة وهو يكتب تلك العبارات ليصور لنا عوالم لا تخلو من الواقعيّة رغم كل شفافيتها، وفتازياتها صور يستحضرها من مخيلة مستثارة أمامه، ليقدمها لنا وهو يستمني بالعبارات من سطر إلى آخر، فيقلب المفاتن في جزيئات جسد الأنثى التي يتخيلها، ونراها شاخصة أمامنا بروح، ودم، ولحم. بل باكتناز في مكان، وتورد في مكان، وبروز، في مكان آخر. يًشبهُها بما يطيب للسان أن يتذوقه طعماً، ونكهة، وبمختلف النوازع؛ وأنواع الهواجس المنفلتة للحظات من معاقل التحفّظ؛ إلى رحاب الهروب وراء الرغبات حتى تتم تفريع الشحنات المتوفزة للانبثاق اشبعوا نظركم، بعد ثلاثة أيام يبدأ التّدريب، ثم الجبهة، ثم الموت. تابع أنور الفتاة بنظراته، سهمت عيناه برهة، لم يتنبّه إليهم إلا بعد أن لكزه أحدهم بمرفقه هل وقعت بغرامها؟ انتفض، هتف كمن يتذكّر أعرف هذه الفتاة. إنّها عبير. أمّها صديقة أمّي، سأتزوّجها.ضحكوا، سخر منعم هذه ليست لك، إنها ملكة جمال 13-14 .
وفي تفاصيل يوميات الحرب الشعواء، يمرر محمود سعيد أجواء الحروب التي يعيشها الفرد العراقي، في المدينة، أو الجبهة، حالات متعددة، ومتنوعة من العذابات التي ترافق الإنسان في يومه، ضجيج الطائرات، أصوات القنابل، مواقع الانفجارات، غاز ودخان، نيران ودمار في البيان، وانهيارات في النفوس، وكوابيس في الأحلام، وانكسارات في الحزن والألم، الجوع والعطش، البكاء والعويل. النحيب والبؤس الدفين، حالات لا يمكن حتى للذي يعيشها أن يعكسها بغير أن يكون راصداً مبدعاً، وفناناً ذو حساسيّة مفرطة، وإنسانيّة عالية، تتداعى لديه في جمل أديبة، مشحونة بالعواطف والأحاسيس.
مجادلات حوارية
ويبقى لمحمود ميزة التفريق بين موقف وآخر، وموقع وموقعة، لكل منها حالتها وصفاً، وتحرياً لما يعتريه كمؤلف من تأثر وهو ينقلها إلى القارئ بشكل يستثيره، ويستفزّ مشاعره، الغاية لدى محمود هي تقريب الحالة للقارئ ممن مارس، أو من هو بعيد. هدفه أن يضع الكل في محّك افتراضي عليه أن يشعر به فيما لو وقع تحت نفس الظروف ظلّ يفكّر في الأمر. لكنّ بعد هذه المعركة علموا لماذا وُجدت؟ أصبحت مدرج مروحيات، كانت طائرات الهليكوبتر تئزّ، توقظ النّائمين في عزّ اللّيل تنقل الجرحى بنشاط منقطع النّظير وباستمرار لا ينقطع. ثّم في البدء جاء براد واحد ضخم بطول أربعين قدماً وحده، أول برّاد بمثل ذلك الحجم يقف هناك، ترى ماذا فيه؟ تعكس أشعة الشّمس على صفائح الألمنيوم التي تغلفه وميضاً حاداً يحرق المقل، ثم تكاثر عدد البرّادات، كما تنقسم الأميبيا، نافت على الخمسين، ثم سرت شائعة أنها تحمل جثث الشّباب القتلى، كانت البرّادات تنتظر دورها لتنزل الجثث، لم تستطع أمّ أنور إحصاءها، كانت تراقبها وتبكي فقط. 18
ومن الصعوبة بمكان وصف وضع ضياع أهل مفقود في الحرب، بين الأمل واليأس، بين الحسرة، واللوعة، فإن الموت رغم هول الفاجعة أهون بكثير على الأهل من البحث عن ابنهم لأن الموت يهبط كبيراً، وينتهي ثقله بمرور الأيام، عندما يبدأ الثكيل بالإيمان بالأمر الواقع، فيصبح الميت لديه كيان خالد في المطلق. أما أهل الغائب المفقود، فتتصارع في دواخلهم هواجس عديدة، وحسرات عنيفة، صور عنيفة للمعاناة التي يتصوروها عن ابنهم المفقود، تتداخل في أحلامهم، تنعكس على تصرفهم، وبالتالي تغور في أعماق أنفسهم بنوازع تتداخل فيها الآمال باليأس، كل هذا يعكسه محمود من خلال الغور في أعماق النفس الإنسانيّة، بل ويسدر سابراً في ثنايا هواجس الأهل من موقف إلى آخر، ومن خلال تطور الأحداث من جهة، وما يستجد من أنباء قد تكون أوهاماً عن المفقود نظر في عيني العسكري، فكّرر هذا الوحدة رقم 2520. كان بين الصّحو والمنام. جسد مفكّك، دماغ يتلاشى في الفضاء، هتف السّائق منبّهاً هذه وحدة ابنك؟ ثم وفزّ، ووعى إلى الوجود، بدأ النّزول، لماذا لا يستطيع تثبيت قدميه بسهولة؟ استغرق نزوله بعض الوقت، وإذ وقف على الأرض زاغت نظراته، لم يصفُ رأسه إلا بعد أن أجهد دماغه. آنئذ لحظ بضعة جنود شباب ينظرون إليه. 26-27
ولتأكيد ما يعتري الفرد من هواجس، وما تتعامل في داخله من هموم تشغله عن الدنيا، لأن ما بداخله هو نوع من المجادلات الحواريّة بين الأنا، والآخر، تدور على محور واحد يشغل المكلوم، وتجعله ينغلق على ذاته، ألا وهو فقدان عزيز، من غير أي دليل عليه، يشهد على وفاته، أو حياته، هذا المجهول المرعب يحيل الشخص إلى منازعات تتراكم حولها آلاف من علامات الاستفهام، لهذا لا يعير انتباهاً لما حوله، حتى لما تتعرض إليه الحواس من مستحثات في الشّم، والسمع، وحتى اللمس شاهد زوجته تفتح حقّيبتها، أخرجت محرمة ورقيّة، أخذت تمسح دموعها السّخيّة وهي تسير وتحرص على ألّا يراها أحد. مرّا ببضعة مطاعم في العطفة إلى اليمين والشّمال. لكنّها لم تكد تراها، فضّل أن يتركها تسير. تنفّسُ عن حزنها بالمشي والبكاء. لا يتدخل في حالها، لا يناقشها في أيّ موضوع حتى تعود إلى طبيعتها. انعطفا إلى اليمين، حيث شارع السّعدون العريض. تلقّفهما نسيم بارد منعش، كان الشّارع نظيفاً ألقاً هادئاً واسعاً أليفاً. يتحرك النّاس فيه باعتياديّة ودون خوف، قال انظري إلى النّاس. يسيرون على طولهم مطمئنين 34 . ثم قالت بحدّة أنت تستفزّني. أنت تعلم، منذ اختفائه لم أرّ أيّ شيء في التّلفزيون، وتريدني أن أرى السّينما؟ انفجرتْ تبكي. جلب بكاؤها نظر بعض القريبين منهما، قال كفى رجاءً. تركتْه، ذهبت إلى ساحل دجلة، ثم اعترتها نوبة نحيب طويل، اقترب منها، كان وجهه إلى شارع النّهر، قال بصوت هامس حسناً، لا تنسي. لكنّ اضغطي على نفسك كي لا تبكي أكثر. جفت دموعي. لم أعد أحسّ بها. ستموتين. هل أنا خير منه. لكنّ من يقول أنه ميّت؟ لعله أسير 38
وتنبثق من عتمة اليأس وبؤس الضياع، وانحطاط الآمال شرارة مضيئة لفرح مؤقت، أو نزوة عابرة تتبسم لمنذر حين يلقي سيدة تبحث عن زوجها، كما يفعل عن ابنه، ويريان في توحد الهدف، عنصر مشترك يشدهما في الوقوف أمام بوابات الانتظار، والتسكع على أرصفة المنظمات الإنسانيّة، يحدو كل منهما أمل مختلف، ولكن المصير الواحد، يوحد خطواتهما، لتنشأ بينهما علاقة تبدأ بالود، وتمر بمراحل من الوجل، والخجل، ومن ثم المطارحة، فالمصافحة، فالعناق، ولا يترك محمود فرصة ذهبيّة يحبك فيها خيوط حكايته، لكي يستثمرها في تلغيم الأجواء بما لا يباح، وبالنزوات العابرة بين اثنين جمعهما حرمان من نوع ما فكّر في التغيير الذي حدث له كيف استطاع هذا اللّقاء الفجائي من إزاحة همّ كبير رازحٍ فوق قلبه، وعندما تداعت أمامه أسئلة تستفسر عن مستقبل هذه العلاقة، شطب عليها جملة وتفصيلاً. يحسّ الآن بسعادة قضت على حرارة صيف بغداد اللّاهبة، على حزن أشهر طويلة، كانت أجفانه تغمض على الحزن وتفتح على الحزن. ثم سدّ جفنيه لحظةً. تنفسّ بارتياح كبير. حَسَد نفسه لأن الصّدف ساعدته، نصبتْ أمامه امرأة جميلة لم يكن يحلُم قطّ في مرافقتها دقيقة واحدة وهو في هذا السّنّ، فكيف بها تخرجه من كآبته، حزنه، تثير فيه الانبساط، الرّغبة، الضّحك. تعيده ربع قرن إلى الشّباب. تمنى لو تدوم هذه اللّحظات العمر كلّه. 45 ثم سارت السّيّارة، وسار معها هوسه في الاتجاه نفسه، لأول مرّة بعد اختفاء ابنه يشعر أنه يحيا، لأول مرّة بعد مدّة طويلة يشعر أنه يعيش لحظات حياة لا يسمّمها الرّوتين، ولأول مرّة بعد زواجه يحسد نفسه على حظّه. هبط عليه ملاك سماويّ أعاده إلى الحياة بعد أن مات قلبه، آماله، حياته. ملاك زرقه بعنفوان متأجّج لم يعشه إلا في شبابه. ما السّبب؟ كيف تغيّر خلال هذا الوقت القصير؟ 56 .
وكرجل في بالعقد الخامس، وبعقليّة العراقي المحافظة، يبخس منذر على نفسه نوازعه ورغباته، تحت ضغط الالتزامات الإخلاقيّة، ومن دون التفريط بها، بينما عليه أن يكبت كغيره تلك النوازع الإنسانيّة الحيّة في داخله، خاصة وأن عقد المقاربة بين العواطف والرغبات من جهة، والموقع الاجتماعي والوظيفي من جهة ثانية، هما المقياس هنا، وليس النزعة الإنسانيّة، وكأن هذه المواقع تشترط العفة. مقاييس وضعناها نحن الشرقيون في ميزان يوازي السرقة، والقتل ناسين قدسيّة الجسد. بينما انتهى الغرب منها على طريقته، وحلل للزوجين التصرف إلى حد القبح، بمعنى أن ما سمحت به المجتمعات الغربيّة أخلاقياً من أبواب حقوق الفرد، صار الفرد يتعاطاها بمبالغات كأن تسمح الزوجة لزوجها المنحرف أن يجلب خليله إلى بيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1010 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع