"بيترلو": قصة المذبحة الحقيقية التي يتردد صداها إلى اليوم

   

BBC-كارين جيمس:يكشف فيلم "بيترلو" - الذي يتناول مأساةً وقعت قبل قرنين في إنجلترا - عن موهبة المخرج مايك لي وقدراته في أنقى صورها وبأفضل شكل ممكن، كما يتردد صدى أحداثه في عالمنا المعاصر، كما تقول الناقدة كارين جيمس.

دقيقةً إثر أخرى تتصاعد أحداث فيلم "بيترلو" للمخرج مايك لي إلى ذروتها المتمثلة في لحظة مُستمدة من التاريخ البريطاني، تتجسد أمام مشاهدي هذا العمل على نحو مفعمٍ بالحيوية. تعود هذه اللحظة إلى عام 1819 عندما لم يكن لمدينة مانشستر الإنجليزية تمثيلٌ في البرلمان، وكان اقتصادها في وضعٍ كارثيٍ، إذ احتشد في ذلك العام 60 ألف شخص في ساحة سانت بيتر بالمدينة لتنظيم احتجاجٍ سلميٍ، وهم يلوحون برايات ملونة انتظاراً للاستماع إلى كلمات يلقيها خطباءٌ مُناصرون لقضيتهم. لكن الجيش كان يخطط لفض هذه التظاهرة حتى قبل أن تبدأ.

وهكذا نرى على الشاشة جنوداً يمتطون صهوات الجياد، يقبضون على سيوف يديرونها في أياديهم ببراعة، لشق طريقهم بعنف بين الحشود، مُهاجمين كل من يجدونه أمامهم، بغض النظر عما إذا كان رجلا أو امرأة أو طفلاً.

وبأدواته السينمائية يجعل لي مشاهديه ينغمسون في المشهد ليصبحوا جزءاً منه، إذ يضعنا بوضوحٍ وسط الحشد وفوضاه المُفعمة بالخوف والفزع. وتتبع الكاميرا أشخاصاً بعينهم، نراهم وهم ينكمشون مذعورين من الجنود، أو خلال بحثهم عن أفراد أسرهم الذين تلاشوا من أمام أعينهم.

وبحسب سجلات التاريخ، أدت مهاجمة الجنود للمتظاهرين إلى سقوط 15 قتيلاً ومئات الجرحى. أما على الشاشة، فقد شاركت بعض الشخصيات الروائية التي ظهرت في العمل، الضحايا هذا المصير. وفي وقت حدوث هذه الواقعة، وصفها الصحفيون بـ"مذبحة بيترلو" في إشارة إلى المجزرة التي شهدتها معركة "واترلو"، وإن كانت الأخيرة قد نجمت عن قتال جيشيْن عدوين.

ويظهر "بيترلو" إمكانيات مايك لي في أنقى صورها وبأفضل شكل ممكنٍ: فالعمل واعٍ لمسألة انتماء شخصياته لطبقات اجتماعية واقتصاديةٍ بعينها وما يترتب على ذلك، بجانب أنه يتضمن أداءً تمثيلياً بديعاً، وجرى تصويره ببراعة من جانب القائمين عليه، فضلاً عن كونه دعوةً إلى التغيير الاجتماعي.

كما أنه فيلمٌ يُعنى باستعراض الأفكار والنقاشات السياسية، وليس عملاً ينتمي إلى فئة أفلام الحركة، بالرغم من مشهد المعركة المفعم بالحيوية الذي يتضمنه.

علاوةً على ذلك، يستعرض "بيترلو" المشكلات التي واجهت شخصياته - وكانت موجودة على أرض الواقع بالفعل قبل قرنين - بتفصيل رائعٍ ومتقن ويتسم بالحساسية، ما يصل إلى حد الحديث بشكل متعاطف مع الطبقة العاملة والأسنان النخرة لأبنائها الفقراء، وكذلك وصف البهرجة والزخارف التي تتمسك بها الطبقة الحاكمة المتعجرفة.

لكن الأفكار التي تضمنها هذا الفيلم بُلوِرَت على شاكلة تجعلها مفهومة بالنسبة لمن يعيشون في عالمنا اليوم، من قبيل الحديث عن اقتصاد يعمل في ظله عمالٌ ينالون حقوقاً وأجوراً أقل من تلك التي يستحقونها، والإشارة إلى الساسة قساة القلوب ممن يفتقرون إلى الضمير أو حتى القدرة على التعاطف مع الآخرين، بل إن الأمر يبلغ حد تناول مسألة الاجتراء على الحقائق وتشويهها، والدفاع عن الصحافة التي قد تشكك في الأكاذيب الحكومية.

وفي "بيترلو" يلجأ لي إلى إضفاء طابعٍ شخصيٍ على القضايا التي يتناولها من خلال الشخصيات التي تظهر في العمل، وهو أسلوبٌ سبق أن اتبعه في أفلامٍ سابقةٍ مثل "فيرا دريك" الذي بحث موضوع الإجهاض، و"أسرارٌ وأكاذيب" الذي تناول مسألة العِرْق.

فصناع الفيلم يختارون أن تبدأ أحداثه في ميدان معركة واترلو نفسها، حيث انفجاراتٌ تدوي هنا وهناك، بينما يقف جنديٌ شابٌ يُدعى جوزيف في ساحة القتال. وبلقطة مقربة للغاية، نرى وجهه الذي تتناثر عليه الدماء، وعينيه اللتين تنتفخان وتحدقان على نحوٍ مثيرٍ للقلق. بعد ذلك يشق الجندي طريقه صوب مسقط رأسه مانشستر، وهو يعاني مما صار يُعرف الآن بـ "اضطراب ما بعد الصدمة".

ويشكل أفراد أسرته الكادحون الفقراء - وكلهم عبارة عن شخصيات روائية لا أصل تاريخياً لها - جزءاً من الشخصيات التي يركز عليها العمل أكثر من غيرها. ويتمثل هؤلاء في والده الناشط سياسياً وإخوته الراشدين وأطفالهم، بجانب والدته نيللي التي تُجسّد شخصيتها ماكسين بيك، وهي واحدةٌ من الممثلين القلائل المعروفين الذين يشاركون في الفيلم.

   

     لوحة فنية تجسد مشهدا من مشاهد "مذبحة بيترلو"
وبحسب الأحداث، ترى الأم - التي تبيع فطائر لكسب مبالغ ضئيلة من المال - أن ثمة حاجةً لإجراء إصلاحات، ولكنها تضمر شكوكاً في جدوى تنظيم التظاهرة المرتقبة.

وتعبر بيك بملامح وجهها عن كل مشاعر القلق التي تجتاحها تلك. لكن المخرج لي لا يأبه بذلك على ما يبدو، ولا يكترث بتقديم كل التفاصيل الخاصة بشخصياته حتى مع شخصيتها هي، وهو ما يجعل شخصياتٍ مثل جوزيف ونيللي، تُستخدم - عملياً - كرموزٍ لا أكثر.

إيماءات رمزية
لكن ربما كانت هاتان الشخصيتان أسعد حظاً من شخصيات أخرى بدت حتى أكثر إبهاماً، بما في ذلك الصحفيون الذين يأتون إلى مانشستر لتغطية المظاهرة المنتظرة. فبعض الشخصيات لا تظهر سوى في مشهد واحد، مثل خادمٍ يمثل أمام محكمةٍ تُنزِل به حكم الإعدام لإدانته بأخذ أحد معاطف سيده.

وفي القضية، لم يكن من المقنع أو الكافي بالنسبة للقاضي أن يعلم من الدفاع، أن هذا السيد كان يمتلك معطفين، وأن الخادم كان يشعر بالبرد.

الإبهام والغموض ينسحبان أيضا - وإن بدرجةٍ أكبر - على شخصيات قضاة المدينة وممثلي الحكومة، الذين يصطفون جميعاً على الجانب الآخر من المحتجين، ولا يمكن للمرء تعريفهم بشيءٍ تقريباً إلا ما يتفقون عليه من ازدراءٍ للآخرين، ممن لا ينتمون إلى طبقتهم.

ويبلغ الأمر حد أن العبارة الأكثر لطفاً التي وُصِفَ بها أبناء الطبقة الدُنيا من قبل أولئك الأشخاص خلال الفيلم، صدرت في سياق الترفع عنهم ونبذهم حين قيل إن المنتمين لتلك الطبقة ما هم إلا "قومٌ صادقون سذج يسهل خداعهم".

ويخشى المنتمون للطبقة الحاكمة حدوث عصيانٍ مسلحٍ ضدهم، ويتفقون على ضرورة إبقاء أبناء الطبقات الدُنيا تحت أقدامهم، قائلين دون مواربة إن استخدام العنف في سحق الاحتجاج المرتقب سيلقن "مُحدثي النعمة" هؤلاء درساً.

وفي مشهدٍ قصير، يقدم الوزراء القادمون من لندن تقريراً بشأن القلاقل القائمة في مانشستر إلى الأمير الوصي على العرش نفسه، والذي يجسد شخصيته تيم ماكنيرني.

ويصوّر هذا الرجل الشخصية على أنها لرجلٍ مغرورٍ تافهٍ ونرجسيٍ على نحوٍ مبالغٍ فيه، وذي خديْن يكسوهما اللون الأحمر. وهنا من العسير ألا يرى المرء أن هذه الشخصية - المُجللة بالشعر المستعار والتي صوِّرَتْ على نحوٍ ينطوي على مبالغة - هي إشارةٌ من جانب لي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

ونرى من خلال الفيلم كيف يشوه الوزراء الحقائق بانتظامٍ نيابةً عن الوصي على العرش. فعندما تُلقى ثمرة بطاطا (بطاطس) صوب مركبته الملكية المغلقة، يُصنف ذلك على أنه اعتداءٌ عنيفٌ ويُستغل ذريعةً أخرى لقمع كل أشكال الاحتجاج.

وبينما تتنقل كاميرا لي بين متابعة اجتماعات العمال الجارية في مانشستر، وتفاصيل الخطة الوقائية التي تعدها الحكومة لإنهاء الاحتجاج برمته، يقدم لنا الرجل نسخةً كابوسيةً من الانقسامات الطبقية السائدة في مسلسل "داونتون آبي" التليفزيوني البريطاني.

نصل هنا إلى شخصية حقيقية هذه المرة تظهر في الفيلم، وهي للسياسي البريطاني هنري هانت الذي يؤيد طرفي الصراع في العمل، ويجسد شخصيته روري كينير.

ونرى في العمل كيف وصل هذا الخطيب المفوه الشهير إلى مانشستر، لكي يدافع من خلال خطاباته عن حقوق العمال. لكن اتصاف شخصيته كذلك بالتفاهة والغرور، يشكل برهاناً على أن حلفاءك السياسيين ليسوا دائماً بالبطولة التي ترغب في أن يكونوا عليها. ولذا، يمثل وجود هانت في الفيلم بشخصيته التي لا تخلو من العيوب، الدليل الأفضل من نوعه على أن "بيترلو" لن ينحدر إلى مستوى الأعمال التي تُسطِّحَ مثل هذه الصراعات، وتصوِّرها على أنها مجرد مواجهة بين نخبة من الأخيار وزمرة من الأشرار.

وقد قُدِمت كل هذه الأحداث سالفة الذكر على الشاشة في لقطات سينمائية ذات مستوى رفيعٍ بفضل براعة المصور السينمائي ديك بوب، وهو ما يجعل "بيترلو" يدخل قائمة أكثر أفلام لي روعةً وسحراً من الناحية البصرية، وهي القائمة التي تضم أعمالاً مثل "مستر ترنر" (السيد ترنر) والفيلم المرح "توبسي - ترفي" (رأساً على عقب).

وعبر طريقته في توزيع الضوء والظل في المشاهد، يُصوِّر لي اللون البني الداكن الذي يكسو المناظر الداخلية في البيوت المتواضعة للعمال، ممن تُذَكِّرنا الطريقة التي يُسلط بها الضوء على وجوههم بالطريقة التي تتوزع بها الإضاءة في لوحات الرسام الهولندي رامبرانت.

أما في المناظر الخارجية، فقد استخدم المخرج لقطاتٍ واسعةً وعريضةً، أظهر من خلالها الحقول الخضراء شاسعة المساحة، التي تمتد أمامنا تحت سماءٍ صافية وفي آفاقٍ ساطعة متألقة، وهو ما يتواكب مع تحضيرات تجريها ميليشيا محلية استعداداً لأي صدام.

وخلال المجزرة نفسها، يطغى الزي الموحد أحمر اللون الذي يرتديه الجنود راكبو الجياد، على الألوان الباهتة المعتمة التي تصطبغ بها جموع المحتجين.

ورغم كل نقاط قوة "بيترلو" فما من شكٍ في أنه يتسم بالثرثرة، إذ نرى أفراد أسرة جوزيف - مثلاً - وهم يتناقشون ويتداولون بشأن ما إذا كانت التظاهرة ستكون مُؤَمّنةً أم لا. كما نرى الانقسام بين المحتجين في مانشستر ممن يريد بعضهم حمل أسلحةٍ، ويرى آخرون أن ذلك لن يفضي إلا إلى إشعال شرارة أعمال عنف.

وبفضل ما تتسم به حركة الكاميرا في الفيلم من رشاقةٍ وحيويةٍ بالغةٍ، لم تبد أيٌ من لقطاته وقد خيم عليها الجمود أو الركود. غير أن كل هذه الجُمل الحوارية التي يتضمنها الفيلم، قد تصيب بعض المشاهدين بالضجر والتبرم، خلال مدة عرضه التي تصل إلى 154 دقيقةً.

ومن هنا يشكل الإيقاع المتأني المتمهل للعمل مجازفةً يرغب المخرج لي في الإقدام عليها، في ضوء أنه يُحجم عن الإفراط في مشاهد الحركة، ويتيح الفرصة للصراع لكي يضطرم على نارٍ هادئة.

من ناحيةٍ أخرى، فبالرغم من أنه يسهل على المرء أن يُعجب ببعض أفلام مايك لي، يتطلب البعض الآخر منها قدراً أكبر من التركيز والانتباه لتكوين رأيٍ مثل هذا. ومن بين أعمال النوع الثاني "ناكيد"، الذي أدى فيه دافيد ثيوليس شخصية متشرد يتصرف بطريقة بهيمية.

وفي نهاية المطاف، فمع أن "بيترلو" يحتاج من مشاهديه أن يتقبلوا فكرة الاضطرام بطيء الإيقاع للصراع فيه بما يقود إلى نهايته الحزينة المتفجرة، فإن ذلك لا ينفي كونه عملاً مثيراً للإعجاب قدمه مخرجٌ سينمائيٌ مقتدرٌ ومتمكنٌ من أدواته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1032 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع