مارلين روبنسون تعيد الروح المفقودة إلى الأدب الأميركي

      

هل ثمّة ما يدل على الزمن الذي نغوص فيه في عالم الرواية أو كما نشعر به نحن في قرارة أنفسنا؟ ولماذا يبدو التفكير في الزمن تفكيرا غريبا؟ في موازاة ذلك هل بمستطاع أحد أن يصف الزمن أو يتلمّسه؟ هل يمكن ذلك ولو من خلال معطيات علوم الفيزياء والرياضيات؟ تبدو الإشكالية أكثر تعقيدا عندما تتعلق بالزمن النفسي الذي نعيشه، وربما نشعر بوجوده بشكل ما، اعتمادا على ذلك الإحساس الطاغي بالحقيقة الواقعية المتجددة التي ينتجها لنا، فيجعلنا في حيرة ملتبسة ونحن نعيد تشكيل تلك اللحظات الهاربة.

العرب/ طاهر علوان:في جدل عميق حول الزمن تنطلق الكاتبة الأميركية ذائعة الصيت مارلين روبنسون لتغوص عميقا في فلسفة تتوقف فيها قوة الزمن أو تتجمد لكي تنطلق من جديد، بدأت رحلتها الأدبية مع روايتها الأولى “التدبير المنزلي” في العام 1980، ثم توقفت لما يقرب من ربع قرن، لتعود بروايتها الثانية “جلعاد” في العام 2004. وفي ما بين الزمنين ترسّخ اسمها أدبيا، فكانت كتاباتها، على قلّتها، تلفت الأنظار وتنال الجوائز.

إعادة الروح

الزمن الروحي يدفع الكاتبة مرارا إلى تبنّي ما يعمق وعيها الخاص، فالزمن ما هو إلا امتداد لوعي لا تحده حدود التواريخ المجرّدة، وليس غريبا مثلا أن تفتتن روبنسون بعوالم جون كالفن الذي عاش قبل أكثر من خمسة قرون، وأن يحضر فكره بقوة في جدله المستمر حول الذات والروح والموت واللاهوت، مزيجا مبتكرا للارتباط الروحي للزمن بالمادة والروح والعلم كأداة لولوج تلك المجاهل.

تتجلى موهبة روبنسون التي جعلتها بالصدارة والواجهة في عمقها المنهجي عند قراءة الأزمنة والتواريخ، وفي نحتها لشخصيات عالمها التي تعيش أزماتها وهي تعيد اكتشاف ذاتها والآخر، تخوض سجالات عميقة في أدق معالم وجودها المؤثّر والفاعل.

“الصوت المتفرد” و”الروائية التي أعادت مجد الرواية الأميركية”، من الأوصاف المعتادة التي تليق بمكانة مارلين روبنسون ومنجزها، وهي وإن انتشرت رواياتها القليلة هذا الانتشار الكبير مصحوبة بتقييم مفاده أنها تعيد تلك الروح المفقودة في الأدب الأميركي، فإنها تنعش قيما روحية وأخلاقية وثقافية من خلال شخصيات عميقة الجذور ولديها اهتمامات هي أبعد مما يعيشه المجتمع القشري الاستهلاكي وشخصياته المأزومة.

تعيد روبنسون قراءة مجتمع يغرق في إشكالياته لتجد هي بنفسها مقاربات تعيد متعة الاكتشاف.

في روايتها “جلعاد” الحائزة على البوليتزر، تلفت النظر الكلمات الأخيرة التي ترد على لسان الشخصية في السطور الأخيرة قبل اختتام الرواية “سوف أصلي ومن ثمّ أنام”، ويحيل نقاد أعمال روبنسون هذا الحوار إلى رائعة وليم شكسبير “الملك لير”، وهي واقعيا ليست بضع كلمات في تلك المسرحية بل تمثل انسلاخا روحيا كاملا عاشته شخصية لير وهو يبحث عن ملاذ من العاصفة، ويكتشف وجها مختلفا للحياة في محصلته عمق روحي ودلالات روحية مؤثرة وهو الذي يبهج روبنسون وهي تقدم شخصياتها الروائية بأنها ليست عائمة أو بلا جذور، بل إنها عكس ذلك تماما.

تدبير منزلي

عائلة بوتون هي محور رواية روبنسون “التدبير المنزلي”، تمثل الشخصيات الرئيسية للعمل، عائلة من فتاتين وولدين هم أبناء القس بوتون، والجميع يعيشون في عمق أزمات أميركا الوجدانية إبّان خمسينات القرن الماضي، لكن الكاتبة تعود إلى ذات الأماكن في روايتها “جلعاد” في مدينة أيوا، لكن الأب بوتون في هذه الرواية هو الذي سيعيش إحدى أزماته العاصفة وهو المنتسب إلى الكنيسة البروتستانتية مع صعود موجة المتطهرين البيوريتانيين، الحاصل أن أزمة وجدانية وروحية ذات امتداد صوفي- اجتماعي غالبا ما تحضر في فصول الرواية.

تجري مارلين روبنسون في روايتها أيضا تجريبا لمعنى الصداقة العميقة، كما في شخصيتي بوتون وايمز كمثال على ذلك الثبات في أثناء العاصفة، إضافة إلى شخصيات أخرى تبحث عن أسئلة وجودية عميقة.


رواية “التدبير المنزلي” التي رسّخت اسم روبنسون في الساحة الأدبية تعبّر عن المعنى الذي حمله اسم الرواية، نعم إنه التدبير المنزلي ولكن بمعناه الشامل؛ الإنساني والروحي، ليس مطلوبا فقط حسن تدبير المنزل وتجميله، إنما المطلوب كذلك تدبير القيم الروحية والإنسانية وتجميلها، تلك هي الثيمة غير المباشرة التي أرادت روبنسون إيصالها، لكنها، وهي في سردها المتقن هذا، تعود إلى عنصر الزمن وتبقيه غامضا متواريا يفتك ويغيّر المصائر ولكنه غير مرئي، هنا في هذه الرواية يتوارى الزمن بشكل شبه كلّي.

الولع بكلاسيكيات الأدب الروائي الأميركي هو علامة فارقة في مسار ووعي روبنسون، وهو ما تتحدث عنه مرارا في محاضراتها لطلبتها في جامعة أيوا، حيث تقوم بالتدريس في ورشة الكتابة الإبداعية منذ سنوات طوال، هو نوع من استنباط الوعي المختلف؛ الاحتفاء بالأسرة المتماسكة التي نشأت فيها، فانعكست في أعمالها القيم الروحية والأخلاقية السامية التي تنعش الأمل، وهي التي كانت في طفولتها تشهد هروب العبيد من الجنوب إلى ولاية أيوا محتمين بالكنيسة، ثم وهم يبنون بيوتهم المهلهلة من الحطب والشجر والقش، وقد كانوا بشرا عاديين يعيشون بسلام، فيما كانت الطبيعة الممتدة شاهدا على رحابة كونية فسيحة.

لا تكاد تمر برهة أو فاصل من عمر الزمن دون أن يكون لكليهما وقع في حياة روبنسون ومنجزها، وهي في صعودها لتتسلم العشرات من الجوائز، آخرها قلادة العلوم الإنسانية التي منحها لها الرئيس الأميركي باراك أوباما تقديرا لمنجزها.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

992 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع