'رأس التمثال' رواية ترصد تغير العراق من سرداب مقبرة

  

العرب/سعد عزيز دحام :في روايته الجديدة “رأس التمثال” تمكن الروائي العراقي حسن الفرطوسي من تسريب صورة بانورامية لما حدث بعد سقوط النظام العراقي السابق في التاسع من أبريل عام 2003، تلك الصورة المركبة التي جمع فيها الأسباب في حضرة النتائج، أو النتيجة الواضحة وإن كانت تقيم في أحد سراديب مقبرة النجف.

الرواية ترصد تداعيات الانهيار المريع الذي أعقب سقوط النظام العراقي السابق في التاسع من أبريل 2003، حيث تتناول حكاية بائع خضار متجول احتفظ برأس أكبر تماثيل الرئيس السابق صدام حسين، بعد أن أوهمه أحدهم بأنه يمثل قيمة فنية نفيسة سيجني من ورائها الكثير من المال.

وانطلاقا من تلك الواقعة تتغير حياة بطل الرواية مع تنقله من مكان إلى آخر لينتهي به المطاف إلى أن يكون أحد كبار رجال الدين المنضوين تحت تشكيلات الميليشيات المسلحة التي تفشت خلال سنوات ما بعد السقوط.

حبات مسبحة

مكونات الصورة العراقية التي تقدمها الرواية الصادرة عن دار “نوفا بلس” في الكويت، عن شخوص تنتمي معاناتهم إلى حقب متعددة، أحدهم أمير الرومانسي، بترت ساقه خلال الحرب مع إيران في عقد الثمانينات من القرن العشرين، ودفنها في القبر المخصص له ضمن قبور سرداب العائلة، واعتاد على زيارتها كلما شدّه الحنين إليها، وهذا السرداب هو ذاته مكان الرواية الذي جمع بقية الشخوص، ومن بينهم أيضا شخصية فاضل الدنماركي، الشخصية الغرائبية وصاحب تجربة التسوّل عبر العزف على آلة الناي، والذي عاد إلى وطنه بعد غربة طويلة في بلدان المهجر، وقد اتضح في نهاية الرواية أن هذه الشخصية مستوحاة من شخصية الشاعر العراقي فاضل الخياط المقيم حاليا في أستراليا.

أما شخصية رحمان المصوّر (الشمسي) والتي يبدو أنها شخصية حقيقية أيضا ومعروفة في مدينة الشطرة، جنوب العراق (مسقط رأس الكاتب) فقد عاشت تجربة التشرّد والترحال انطلاقا من السؤال الوجودي الذي بدأ يشاغب رحمان ويستحوذ على تفكيره حول ما إذا كانت الحقيقة تكمن في الصورة المقلوبة داخل صندوق الكاميرا الخشبي، أم في الحياة التي يعيشها في الواقع؟

هذه الشخصيات كلها منحها الكاتب مساحات في روي الأحداث بحرفية عالية بما يتناسب مع أهميتها الدرامية، كما حدد مساحة شخصيات أخرى أقل أهمية كشخصية جلّشان، المرأة الغامضة التي جاءت كمعادل موضوعي لدور رأس تمثال الرئيس المخلوع، وكسبب في تغيير حياة بطل الرواية الشيخ ناصر وكذلك شخصية محمود بائع الشاي الذي يتخذ من السرداب مقرّ سكن دائم، وشخصية محسن المالح البعثي التائب بعد أن اتخذ من الحزب عقيدة أخلص لها سنوات طوالا، وكذلك شخصية مفيد عباس الذي يجمع بين حسّ الفكاهة والظرافة مع أصدقائه وبين التعامل الجاد مع مهنته كصاحب متجر للملابس الرجالية.

تلك الشخصيات جمعها الكاتب الفرطوسي كما لو أنها حبات مسبحة يربطها بخيط الشخصية المحورية، الشيخ ناصر الذي بدا واهنا مضطربا في بداية الرواية، لينتهي به المطاف كزعيم لميليشيا دينية ينفذ أنواع الجرائم لصالح من يدفع له الثمن.

كاتب محايد

ومن اللافت للانتباه أن الكاتب بدا محايدا إلى حدّ ما في “محاكمة” حقبة النظام السابق من خلال طرح شخصية مثل محسن المالح، كصاحب تجربة طويلة بين صفوف حزب البعث، حيث كان يتحدث مع صديقه رحمان المصور في لحظة صفاء حول رؤيته بشأن المتغيرات السياسية التي حدثت خلال فترة حكم الحزب، فيقول “كنت ومازلت فرحا في خلاص البلاد من النظام إياه، لكني فهمت مبكرا طبيعة المرحلة القادمة، حدست حجم ونوع العنف القادم، عرفت أن الناس العزّل والأكثر سلميّة سيكونون وقودا مجانيا لهذه الحرب اللعينة، لذلك قررت ألا أكون هدفا ساكنا لمراهق أخرق في زمن يكون فيه الانفلات سيّد المشهد.. أحداث الـ91 كانت انتفاضة تتسم في بعض جوانبها بالنبل والبطولة، أما ما حدث في 2003 فهي فوضى تتسم بالخسّة، ذلك ما دفعني إلى هجر المدينة والقدوم مع عائلتي إلى هنا، حيث لا يعرفني أحد”.
    
وتلك إشارة عابرة على وجود بعض البعثيين الذين من الممكن أن نصنفهم ضمن خانة الوطنيين من أصحاب النوايا الحسنة، وهذا تحوّل ملحوظ في تجربة الرواية العراقية ما بعد الـ2003 التي كانت في مجملها تتبنى فكرة تجريم البعث بشكل يكاد يكون مطلقا.

وكما حرص الفرطوسي على الاعتناء بحركة شخوصه في روايتيه السابقتين “سيد القوارير” الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، و”عشبة الملائكة” الصادرة عن دار الفارابي، فقد جاءت رواية “رأس التمثال” وفق بناء روائي متوازن ومحسوب بدقة ونمط سردي اعتنى بالتفاصيل وتمكن من إيصال الرسائل التي يراد تمريرها، وقد تكون إحداها ما جاء في الغلاف الخلفي للرواية كمقتبس يصف مشاعر بطل الرواية الشيخ ناصر إزاء رسالة تسلمها من المرأة الغامضة جلّشان ذات التوجهات الصوفية، جاء فيها “أنا لا أؤمن بناسوت الإمام المنتظر، لا أؤمن بأنه سيظهر على هيئة إنسان، بل هو مرحلة زمنية وحالة متقدمة من النمو والنضج الفكري ومصالحة شفافة مع الزمن تمرّ بها الأمة، إنه صحبة الزمان والتماهي معه، هذا هو مفهوم المنقذ المنتظر بالنسبة لي”.

وقد أرعبه ما جاء في الرسالة إلى حدّ عزوفه عن الردّ عليها، وتحاشي قراءتها ثانية، فخبأها بعيدا، في بطانة حقيبته.. لم يكن مستعدا للاصطدام بفكرة ثقيلة من هذا النوع، كما لم يكن قادرا على الفكاك من أسر أنثى بكل هذا السحر.

نلاحظ هنا رغبة عميقة من الرواية في فك التابوهات والدخول إلى عوالم مختلفة بكل شفافية وصدق، إذ لا تعترف بالصور النمطية التي يقدمها الآخرون على أنها الحقيقة الواحدة، كل ذلك بأسلوب سردي مقتضب ولغة متماسكة بعيدة عن الإسهاب في إظهار المشاعر المرافقة للأحداث، كما تبنى الكاتب طريقة وصف المكان من خلال حركة الشخوص متجنبا الوصف الفوتوغرافي التقليدي.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

967 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع