شتاء عراقي ساخط يرسم خطوطًا جيوسياسية جديدة في المنطقة

        

ارتفع سقف مطالب الاحتجاجات العراقية من توفير فرص عمل ومحاربة الفساد إلى إقالة الحكومة وحلّ البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة بعد إعداد قانون جديد للانتخابات ومفوضية انتخاب نزيهة، كما ظهرت علامات غضب من الدورين الإيراني والأميركي في العراق.

"إيلاف" من بيروت: من الهتافات البسيطة المطالبة بوسائل الراحة الأساسية، وبالحصول على مياه الشرب والكهرباء والأدوية، أطلق العراقيون صرخاتهم طلبين حياة أفضل، وتجديدًا لكامل المؤسسات السياسية في البلاد.

ميزان القوى

إذا كان فصل الشتاء الحالي الممتزج بالسخط يمكن أن يتلخص في فشل الحكومة العراقية المزمن في تلبية احتياجات شعبها الأساسية، والقضايا المعززة بالفساد والرشوة المؤسسية، فإن من شأن الغضب الشعبي أن يفجر ميزان القوى الجيوبوليتيكي المعقد في المنطقة.

قلة من العراقيين تمكنوا من التنبؤ بالقوة والسرعة التي حشد بها المتظاهرون ضد مسؤولي الدولة للمطالبة بإخضاعهم للمساءلة عن جرائمهم. لكن، لا بدّ من القول هنا أن العراق يواجه نقطة تحول أخرى في تاريخه الصعب، خصوصًا أن مشكلاته كانت دائمًا كثيرة وعظيمة جدًا بحيث تجعل الانهيار احتمالًا دائمًا.

ليست قضية العراق سياسية فحسب. فلعقود من الزمان، ظلّ هذا البلد يعاني آثار طموحات متداخلة ومتعارضة بين طوائفه السياسية، وعشائره، وفصائله الدينية المختلفة، وأبرزها تلك الفصائل التابعة لقوى إقليمية تصرفت في أغلب الأحيان كأذرعٍ لدول أخرى.

الإصرار والعزيمة

يُمثل العراق مدرجًا رومانيًا أو كولوسيوم معاصرًا بالنسبة إلينا، فهو عبارة عن تجربة اجتماعية سياسية وبمنزلة جائزة إقليمية كبرى للدول التي تستطيع اختراقه لتحتل موقعًا في السلطة. وللمفارقة، يحرص العراقيون في هذه المرة على استعادة سيادتهم، وبناء مستقبل يمكنهم أن يروا أنفسهم فيه، غير مثقلين بفشل أميركا في المساعدة في صوغ دستور وظيفي، وبالانتهاكات الإيرانية للنظام المعيب والمتهالك.

تجسد انتفاضة الشعب العراقي اليوم طموحًا منعش بالتغيير؛ إذ إن الأمة العراقية أعطت الأهمية على مدى عقود وعلى وجه التحديد وبشكل شبه حصري الخصوصيات الدينية والإثنية الخاصة بالنخبة الحاكمة على حساب الآخرين. ومنذ بدايته بصفته دولة حتى اليوم، لم يكن العراق قادرًا على تبني تنوعه بالكامل، وهو ما سبب انحداره نحو الفشل، وهذا ما يبدو أن الشباب العراقي عازم بشدة على تغييره.

أطلق المحتجون معركة ضد نظام فاسد يبدو أنه لا يمكن التغلب عليه، خصوصًا أن الفساد أصبح بالفعل هو القاعدة لا الاستثناء، إلا أنه سيكون غباءً التقليل من شأن القوة التي يتمتع بها العراقيون في رفضهم – متحدين - الدولة الآن. وكما يقول الفرنسيون: "صوت الشعب هو صوت الله".


استخدام العنف

على الرغم من هذا المشهد الصاخب كله، لا تعير بغداد الشعب العراقي آذانًا صاغية. وبدلًا من إعطاء شبابها المحرومين حقوقهم، اختارت العنف لإسكاتهم، وحجبت الإنترنت عنهم ما أعاق التواصل وحدّ من تسريب ما يحصل على وسائل التواصل الاجتماعي. ومنذ الأول من أكتوبر الماضي، أفادت الأمم المتحدة بمقتل 319 متظاهرًا، وسقوط ما لا يقل عن 8000 جريح.

ربما يتمنى الساسة العراقيون قريبًا لو أنهم استجابوا لنداء الناس في أقصى الجنوب حيث حُرموا من الكهرباء والمياه النظيفة. وكما كانت الحال في الثورات تاريخًا، ثبت أن كل من لا يُصغي إلى مطالب الشعب، ويستخدم السيف بدلًا من إعطاء المواطنين حقوقها، يرتكب حماقة وينتحر. ومن المثير للاهتمام أن ما يميز هذا المشهد الراهن هو الاحتجاجات الديموغرافية. حتى الآن، بقيت المحافظات ذات الأغلبية السنية والكردية بعيدة عن المعركة، ما وضع علامة استفهام مثيرة للاهتمام حول طبيعة هذه الانتفاضة.

بلد ممزق

إلى جانب ما ذُكر آنفًا، لا بدّ من القول إن العراق ليس في حالة ثورة بعد. هذا لا يعني أنه لن يكون كذلك قريبًا، لا سيما إذا أصر المسؤولون العراقيون على التمسك بعاداتهم القديمة، أي الاستمرار بظاهرة الرِّشى والاختلاس والمحاصصة في إدارتهم شؤون الدولة.

ستحتاج طبقة النخبة في العراق إلى إعادة إنتاج نفسها من جديد إذا أرادت البقاء على قيد الحياة، من فلول نظام لا ينتمي إلى العصور القديمة فحسب، بل يتعارض مع أي تقدم ديموغرافي حقيقي.

ابتُلي العراق بسلسلة من الصدمات والتداعيات الاجتماعية والسياسية التي لم يتم معالجتها، فالبلد مزقته الحرب وأعادته إلى نقطة الصفر مع تصارع القوى المتنافسة والأيديولوجيات السياسية والطموحات المهيمنة، بينما كانت مشكلات العراق محصورة، في وقت ما، في اللحاق بنخبته القيادية. والسؤال الذي يُطرح اليوم هو كيف ستدبّر الدولة في العراق العاصفة التي ستحدد مستقبل البلاد، وعلى الأرجح مستقبل المنطقة، ولا سيما في ما يتعلق بتحديد مساء نظام الانتقاء الجيوسياسي.

إيران وأميركا

هناك نقطة لا بدّ من الإشارة إليها، ويكمن جوهر الأمر كله فيها. فلنضع جانبًا للحظة النهج غير الكفء للمسؤولين في الحكم، ودعونا ننسى أيضًا الانقسامات الكثيرة التي ما زالت تطارد الوحدة الوطنية للعراق من طريق الطائفية وكراهية الأجانب. يجب القول إن العلاقات العراقية - الإيرانية والعراقية – الأميركية هي التي ألقت بظلالها في نهاية المطاف على مستقبل الأمة وأذكت الاضطرابات الشعبية. بعبارة أخرى واضحة، سئم معظم العراقيين إملاءات إيران المفترضة وانتهازية أميركا الجيوسياسية.

لم يعد العراقيون قادرون على اتباع نهج الصمت على الصداقات السياسية التي نسجها المسؤولون مع إيران والولايات المتحدة. وعزز هذا الغضبَ الإزدراءُ الذي أبدته عدة ميليشيات مدعومة من إيران (تعمل تحت مظلة الحشد الشعبي) لسيادة القانون، وإصرار مسؤولي الدولة على وضع مصالح إيران الاقتصادية في كثير من الأحيان فوق مصالح الشعب، وصولًا إلى ازدراء أميركا لسيادة العراق من طريق استغلال مطالب المحتجين الاقتصاديية للتخلص من الوضع السياسي القديم.

لا يعرف معظم الناس مدى سطوة أميركا على مستقبل العراق المالي. يُطلب من العراق في كل عام الحصول على ضمان موقع من البيت الأبيض بأن أصوله ستكون محمية من الإجراءات القضائية المتعلقة بالانتهاكات المرتكبة في عهد النظام البعثي السابق. وإذا أغضبت بغداد واشنطن، فستجد نفسها أمام طوفان من الإجراءات القضائية، وعلى الأرجح ستواجه التزامات بمليارات الدولارات.

تجلى غضب العراقيين تجاه إيران بإحراق القنصلية الإيرانية في النجف وكربلاء، وهذا أمر لا ينبغي التقليل من أهميته نظرًا إلى الخصوصية الدينية التي تحظى بها هاتين المحافظتين عند الشيعة. كما يعكس هذا الغضب أيضًا الرفض الواضح للنظام الإيراني، ولحكم ولاية الفقيه في عمق الأراضي الشيعية، وكذلك رفض تدخل طهران في الشؤون الداخلية للعراق.

إذا بقيت إيران واحدة من أكثر الشركاء الإقليميين إستراتيجيًا للعراق، فإن الكثير من النوايا الطيبة التي اكتسبتها من طريق المساعدة في هزيمة داعش ستتحلل بسرعة. وبالفعل، ظهر هذا الأمر بدعوة المتظاهرين الذين بلغ عددهم عشرات الآلاف إلى "إزالة" صور آيات الله الإيرانيين من شوارع العراق ومبانيه ومواقعه الدينية.

أثار تصريح المرشد الإيراني علي خامنئي في نوفمبر بقوله إن على بغداد أن تمارس القوة لقمع الانتفاضة الناشئة غضبًا عارمًا على مستوى البلاد، ما دفع الكثيرين إلى التساؤل عن مدى التأثير الذي تملكه إيران في العراق.

تدخل السيستاني

نظرًا إلى خطورة ما آلت إليه الأمور وانعكاساتها، دخل المرجع الديني الأكبر في العراق علي السيستاني على خط الاحتجاجات. يتمتع السيستاني بسلطة لا نظير لها تقريبًا في العالم الشيعي. وكثيرًا ما يُقال إن ضربة واحدة من قلمه يمكن أن تعيد كتابة مجرى التاريخ.

استخدم السيستاني هذا القلم اليوم للدفاع عن حق العراقيين في أن يحكموا بلدهم، داعيًا الحكومة إلى إصلاح قوانينها حتى تعكس الرغبات المشروعة للشعب التي تؤكد سيادة العراق بعيدًا عن الأيدي الأجنبية.

في خطبة صلاة الجمعة في أواخر نوفمبر التي قرأها ممثله في مدينة النجف، ندّد السيستاني بالعنف ضد المتظاهرين، ودعا البرلمان العراقي إلى "إعادة النظر في خياراته" في دعم الحكومة الحالية برئاسة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. وحثّ المشرعين على التعجيل بالموافقة على حزمة من القوانين الانتخابية استعدادًا لانتخابات جديدة.

من الممكن أن يكون تدخله قد جنب العراق كارثة، ولو لم يتدخل، فمن المحتمل أن العراق كان ليتفكك بسبب التحالفات والولاءات المتناقضة. ففي بلد مثل العراق، حيث تتداخل العلاقات العشائرية مع الانتماءات الدينية والسياسة، يمكن أن تتصاعد التوترات بسرعة.

ساعد السيستاني على خلق فضاء يستطيع فيه العراق التفاوض على تسوية مع الطبقة الحاكمة وإعادة تحديد علاقته بجيرانه الأقوياء وشركائه. وتعتمد كيفية اغتنام هذه الفرصة إلى حد كبير على رغبة الجهات الفاعلة في تعزيز المنطق على الحرب.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1231 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع