إسقاطات الأحداث والوجوه في رحلة التشكيلي "رائد نوري الراوي"

   

كمال يلدو:إسقاطات الأحداث والوجوه في رحلة التشكيلي "رائد نوري الراوي"

             

      

                 


حتى وإن غادروا تلك الأرض، أو اختاروا “عشاً ” آخرا ووطناً جديداً، فإن رائحة العراق تبقى فوّاحة وتشـي عن نفسها فيهم، فتتلمسها في احاديثهم وامنياتهم وحتي في احلامهم ومجمل تأملاتهم، اولئك هم الأبناء النبلاء للعراق، اولئك هم النجوم التي زيّنت ومازالت، سـماء ثقافتنا الوطنية، ومابرحت تمدها بالضياء والمحبة الدائمة.
ادعوكم لرحلة في عالم الفنان التشكيلي رائد نوري الراوي، آمل ان تروق لكم.


       

من مواليد مدينة الأعظمية في العاصمة بغداد عام 1955، متزوج من سيدة أمريكية، ولهما ولدان.
درس الأبتدائية في (مدرسة الحارثية) ثم انتقل الى (متوسطة المنصور) وأكمل الثانوية في (الأعدادية العربية) وهي احدى مدارس الكرخ وتقع بالقرب من (جسر الشهداء). درس “التربية وعلم النفس” في الجامعة المستنصرية، وحاز على شهادة البكالوريوس عام 1977. خدم بعدها المدة المقررة للعسكرية وتسّرح منها . عمل قبل هذه المرحلة رساما في مجلة (مجلتي والمزمار) ثم رساما للكاريكاتير لمدة سنتان في “جريدة التآخي” وذات الشئ في “جريدة الجمهورية”. في العام 1980 قرر ان يزور احد اصدقائه الدارسين في الولايات المتحدة الأمريكية بولاية (نورث كارولاينا) . شاءت الظروف ان تندلع الحرب العراقية الأيرانية، وترافق ذلك مع تلبد سماء الوطن بالغيوم أثر صعود صدام الى سدة الرئاسة،  فأمتثل الى نصائح الأهل وألاصدقاء في التريث بالعودة للعراق لحين ما ما تتكشف الصورة. تمضي نيران الحرب عميقا في الجسد العراقي، وتبدأ بحصاد خيرة الشباب، فيصبح أمل العودة ابعد وأبعد حتى وصل الى يومنا هذا، فتلك الرحلة التي بدأت كزيارة، تواصلت لتصبح اقامة دائمة. لقد اضطر للعمل (نتيجة تبدل خطط العودة)، فوجد طريقه لأحدى دور الطباعة والنشر فعمل معهم في قسم التصميم، ودام ذاك حوالي 16 سنة، اما في السنين الأخيرة فهو منغمر في الرسم عند “التكليف” وعلى اساس القطعة، ويقوم بعمل بعض التصاميم، كما انه عمل في محل لبيع “الأدوات والمستلزمات الفنية” وفي الآونة الأخيرة يقوم بتدريس مادتي (الرسم - أكرلك) و (الكاريكاتير) في احد المعاهد بولاية - نورث كارولاينا - اضافة الى استمراره في الرسم على اساس “القطعة” .

       

كانت مناسبة حلوة تلك التي اطّل بها الفنان التشكيلي (رائد الراوي) على الجمهور بمدينة ديترويت اثر تلبيته لدعوة ( منتدى الرافدين للثقافة والفنون) عبر الأستاذ المسرحي د. علاء يحى فايق، للمشاركة في امسية لأستذكار الفنانان الراحلان (نوري الراوي و مكي البدري ـ يوم الجمعة 6 حزيران) . يدور الحديث عن شريط الذكريات وبغداد و (الراحل) وولايته (نورث كارولاينا)، فكانت النتيجة ( سـجادة) عراقية جميلة بكل الوانها ورسومها.
بدأت كلامي معه بالسؤال:

كيف رسـت مراسيك على شواطئ الولايات المتحدة؟؟

وكان جوابه: بالحقيقة انها كانت اعتباطية وصارت بالنهاية تحصيل حاصل. ففي البداية قصدت امريكا لزيارة صديق كان يعيش فيها ، ومع حلول وقت عودتي، اندلعت الحرب مع ايران، وأعلن عن غلق المطارات، وفات موعد بطاقتي للعودة، فصابني التوجس والخوف، و كنت قد انهيت خدمتي العسكرية للتو، فطلبت مني العائلة والعديد من الأصدقاء التريث قبل العودة، حدث هذا  مترافقا مع تصاعد حملة (المطاردة والمضايقة) لكل الذين لم ينتموا رسميا للبعث، ونظرا لعملي في جريدة الجمهورية، وطبيعة رسوم الكاريكاتير النقدية التي كنت اقدمها، فقد كنت (في مرمامهم) إن صح التعبير ولم أرغب ان اكون (صيد رخيص او لقمة سائغة) لدهاليز غرفهم المظلمة،  يومها لم اكن أملك سوى (300 دولار) مصرف جيب لتغطية رحلة العودة، امّا صاحبي الذي زرته فلم يكن ميسور الحال ، فأضطررت للعمل كي اتدبر أمري، وهكذا مرت الأيام والسنين، فمن حرب الى حرب، ومن نظام الى نظام، وصرت احسب الوقت ليس بالأيام والشهور، بل بعشرات السنين!

وكيف عاملتك الغربة؟؟

يقول: انها لم تكن اختيارية، بل كنت مضطرا لهذا القرار اولا، وثانيا صُدمتُ بمقتل صديقي (منعم الزهاوي) في الحرب، فأصابني الرعب منها ، وعانيت كثيرا بين أهلي الذين يقولون لي إرجع (ربما نتيجة الضغوط) وواقع يقول لي لا ترجع، فوقعت حينها تحت وطئة اليأس والكآبة، وبين مطرقة الحنين للأهل و سندان الشوق لبغداد والأصدقاء، فلقد كانت تلك الأيام ايام صعبة حقا، ساهمت في ان أتجلد أكثر مع مشاعري وحنيني.

           

وكيف فرّغت تلك الشحنات؟؟

بالحقيقة كنت أرسم، كنت ارسم السكيتشات، كنت ارسم اي شئ، المهم ان ارسم حتى اهدأ وترتاح روحي. فقد احسنت توظيف (عقوبة) الكبت والكآبة، الى الأنتاج الأبداعي. اما حينما اتذكر تلك الأيام، فكم اتمنى لو كنت امتلك (عقلية اليوم، بروح الماضي) لكان تعاملي مع الحدث بشكل افضل، وبالحقيقة ، فقد طوّعتني الأيام وصقلتني التجربة، وتجلّت الكثير من مشاعرنا النقية والصافية لابل قل، اننا كبرنا. اما تحويل المعاناة الى رسم، فلم اجد تفسيرا لها إلا كوننا اناس قادرين على تحويل أكبر الكوارث الى حالات ابداعية فذّة!
ولأن الحديث يدور مع شخصية تنحدر من أب كان له حضوره البارز في الساحة الفنية والثقافية التشكيلية العراقية، فما كان ان نختصر ذاك البيت الذي ترعرع فيه رائد لهذا ..

     

فهو يقول: ربما اكون من (الأولاد) المحظوظين في نشأتي مع هذه العائلة، فقد كان بيتنا (في الحارثية) مليئ بالكتب واللوحات الفنية، ومرسم بكامل عدّه وعديده! كما كنّا نمتلك (كرامافون) يسمعنا أبي من خلاله اروع المعزوفات الموسيقية الكلاسيكية كل يوم جمعة، فقد كنت شاهدا على والد كان يقضي جلّ وقته في البيت بين ثلاث محاور، اما الكتابة أو القرأة او الرسم! فكيف تريدني ان أنشأ؟ ولعلي هنا اذكر شيئا حسنا عن (أُمي) الغالية، فهي التي لم تُدخر جهدا في محبتنا وتربيتنا ودفعنا لما هو جيد وخيّر لحياتنا.

وهل شـجعك الرسام “نوري الراوي” على الرسم؟؟

يقول رائد: ابدا لم يشجعني في البداية، وللحق ايضا، فهو لم يشجعني على القرأة أو الكتابة (ولليوم لا ادري لماذا، فربما لتجربة سلبية مرّت عليه)، وكان همّه ان أحصل على درجات جيدة في المدرسة. في صغري، كنت (اتجسس) أتفرّج عليه وهو يرسم، وللحقيقة أقول، انه اول من اعطاني (أقلام ألوان) وكنت لما أزل (5) سنوات من العمر فقط، اذ كنت أرسمُ آنذاك خطوطا لا اتذكر معناها أو مغزاها!
لقد كان بيتنا عبارة عن (كورة) يجتمع فيها خيرة الرسامين والفنانين والسياسين والشعراء والأدباء العراقيين، وإذ تسعفني الذاكرة، فإني اتذكر من تلك الأسماء والوجوه: الراحل منير بشير، حافظ الدروبي، راكان دبدوب، خالد الرحال وأسماء كثيرة، لكن (وللمزحة فقط) فأن والدتي كانت (تدوخ) من هذه العزائم وكثرة الضيوف (جيبي جاي، و ودي جاي) لكنها كانت تعمل كل هذا وأكثر عن طيبة قلب وخاطر، الذكر الطيب دائما للوالدة الغالية بهيجة صالح سليمان. وتمر الأيام، فبدأ يحثّني على الرسم، وكنت (نادرا) ما اسمع منه تعليقات كانت بسيطة في محتواها ، على ان اروع اللحظات كانت تلك التي تكون بحضور اصدقائه الفنانين او الشخصيات الكبيرة (رائد: جيب اعمالك وراويها للفنانين) وبالحقيقة لم تكن في العالم نشوة كتلك التي كانت تتملك روحي الصغيرة آنذاك.
اوقفت الأستاذ رائد الراوي لأسئله عن رسوماته في البداية فقال:

اتذكر وأنا حدثا، فمع وفرة الكتب والمجلات الفنية الكثيرة في بيتنا، أحببت رسوم (مايكل انجيلوا) كثيرا، وبدأت مسيرتي بعمل تخطيطات للوجوه (معظمهم اصدقائي) ، ومع الأيام، تملكت نوعا من الفكاهة انعكست على الرسوم، وفعلا صرت اعمل مجلات صغيرة لأبناء الطرف وأسميتها (الصباح) ولابد من القول بأن أخي (أحمد - يعيش الآن في فرنسا) والذي كان متعدد المواهب في الرسم والخط والتصوير وكتابة الشعر، ساعدني كثيرا بأخراج مجلة (الصباح). ومع نهاية عقد الستينات صرت ارسم الكاريكاتير، ونشر اول رسم لي بشكل رسمي في الصفحة الأخيرة من مجلة (الف باء العراقية - العدد 19 - كانون أول 1971) تحت باب الهواة.


لماذا درست علم النفس ولم تدرس في الأكاديمية؟؟

يقول الفنان رائد: بالحقيقة إن هذا الأمر مازال لليوم يترك مرارة في نفسي، فقد كانت امنيتي ان ادخل الأكاديمية، لشغفي بالرسم، ولأن معظم اصحابي دخلوها، لكن كان لوالدي المرحوم موقفا آخرا فقال لي يوما: انت تعرف الرسم، فلا حاجة للأكاديمية، إذهب وأدرس فرعا آخرا! وهكذا كان.أما للذين يتذكروا تلك المرحلة، وشروط الدخول للأكاديمية، فسيعرفوا بأن أهم شرط لم يكن متوفرا فيّ آنذاك!
وبالفعل قدمت اوراقي للجامعة المستنصرية ودرست فرع (علم النفس) .
يبقى السؤال عالقا في الفضاءز.

  

بمن تأثرت من رسامي الكاريكاتير؟؟

وكان جوابه: في المقدمة منهم تأتي رسوم الأستاذ “بسام فرج” ، وبعدها رسوم وموضوعات الأستاذ “مؤيد نعمة”، ثم جاءت التأثيرات الأخرى عبر مشاركتنا في (معرض گابروفو) الدولي للكاريكاتير العالمي في بلغاريا عام 1975، فأنفتحت على عالم رائع من الرسوم لفنانين من (الأتحاد السوفيتي، جيكوسلوفاكيا، بلغاريا وبولندا) والتي كانت تتميز بالبساطة والبساطة فقط!
عدت ودرست الأمر مع نفسي، وأخترت منذ تلك الفترة فلسفة و(طريقا) للرسم مازلت لليوم مطيعا له، الا وهو: الرسم البسيط والأبتعاد قدر الأمكان عن التعليق، متعمدا ان اترك الرسم يتحدث عن نفسه، وأن أمنح فرصة للقارئ (المشاهد) لكي يخرج بالحصيلة.
وسألت الفنان رائد إن كانت الذاكرة تسعفه ببعض الذكريات عن نشاطات تلك الأيام؟؟

فقال: طوبى لتلك الأيام كم كانت حافلة وجميلة، وأصاب من سمى ذلك الزمان ب “عصر المبدعات والمبدعين”. فبين العمل في ثلاث صحف، والدراسة الجامعية والألتزامات الشخصية والعلاقات والصداقات، فقد كان مايزال عندنا متسع من الوقت للنشاطات العامة، تصور! تسألني إن كنت اتذّكر، نعم اتذكرها:
1) معرض كل العاملين في (مجلتي والمزمار) عام 1974، وقد اقيم في الهواء الطلق وتحت نصب الحرية العظيم.
2) المشاركة في معرض (گابروفو) في بلغاريا عام 1975
3) تأسيس (جماعة رسـامي الكاريكاتير العراقيين) عام 1976 والتي تشكلت من الأساتذة نزاز سليم، مؤيد نعمة، بسام فرج، عبد الرحيم ياسر، ضياء الحجار ، موسى الخميسي ومن شخصي أنا.
4)أقمنا معرضا تشكيليا لرسوم الكاريكاتير عام 1976 في (قاعة كولبنكيان) بالقرب من ساحة الطيران، وقد ساعدنا بأقامته الراحل نوري الراوي.
5) في العام 1979 شاركت (جماعة رسامي الكاريكاتير العراقيين) بمعرض في بلجيكا، ومثّلنا هناك كل من الفنانين مؤيد نعمة، عبد الرحيم ياسر وشـخصي أنا.
بعد تلك الرحلة أردتُ أن أعرف منه عن نشاطاته في الولايات المتحدة فقال: مثل أي نبته حينما تقتلعها من أرضها وتزرعها في أرض اخرى، فإن كتب لها الحياة سـتخضّر ولو بعد حين! هكذا قصتي مع الرسم. وكان الهم العراقي مركز وجعي وسبب غربتي حاضر مع كل ضربة فرشاة او رسم قلم!  فبعد أن قررت البقاء في هذه البلاد، انصرفت للعمل والأعتماد على نفسـي، فعملتُ كثيرا ورسمتُ كثيرا، لكن في هذه المرة كانت رســـوماتي لي وليس للنشر (على الأقل لفترة مؤقتة وحتى تنجلي الغيوم)، فرسمت الكثير من السكيتشات، والرسوم الطبيعية والفكاهة الممزوجة بالسريالية والخيال، وراسلت بعض المجلات الأمريكية، واشتركت في عدة معارض أيضا. ومع الوقت عملت على نسج خيوط شبكة من العلاقات بالفنانين الأمريكان في ولايتي، وصرت اقدم أعمالي في (المعارض المشتركة) وأصبحت عضوا عارضا بشكل دائمي في المركز الفني لكل الرسامين الأمريكان والعالميين بمدينة (شارلوت - نورث كورولالينا) وأحمل دعوة دائمة معهم. وقبل سنوات شاركت ضمن (جمعية فناني شارلوت) بمعرض في - مقدونيا - ، علما ان هناك عدة (كاليريات) منتشرة بعدة مدن ، أنشرُ فيها لوحاتي ورسـومي، وهذه بالحقيقة تساعدني بطريقتين، الأولى معنوية وهي تلك التي تعيد الحياة لصلاتي بالناس، والثانية مادية، إذ انها توفر لي مصدرا ماليا اضافيا يساعدني كثيرا في مشاريعي المستقبلية.

  

وهل خدمتك التكنلوجيا الرقمية بشــئ ، فضحك وقال:

إنها أروع شـئ ، انها أروع ابتكار وإكتشاف، نعم لقد خدمتني كثيرا، فقد ساعدتني على إعادة التواصل مع الكثير من الأحبة الذين افتقدتهم نتيجة الغربة وظروف الوطن الصعبة، وشكرا ل (الفيس بوك) إذ صرت اتواصل مع اصدقائي الكثيرين ومنهم الفنانين ( فيصل لعيبي، حسـن رضا و منصور من - مجلتي والمزمار) كذلك مع (رضا رضا - المانيا/ كفاح محمود - هولندا/ أمير تقي - الأمارات)، كما تفاجأت مؤخرا حينما علمت بأن الأخ (علي إبراهيم الدليمي) قد أخذ أحد أعمالي ونشرها في مجلة “الف باء” البغدادية.
ويضيف الأستاذ رائد قائلا:

يوما بعد يوم أشعر بالتقارب أكثر مع أهلي وأصدقائي الذين فارقتهم منذ سنين، والفضل كل الفضل يعود لهذا (اللعين) الفيسبوك!فقمت بنشر بعض رسوماتي عبر صفحتي، وصارت تأتيني التعليقات من العراق و اوربا، وهي بالحقيقة تمنحني طاقة وشحنات تشجيعية كبيرة، لكن أدّل الكلام يبقى طلبهم لي : ( نحن نحتاجك، لا تنسانا، لا تبخل علينا) وبالحقيقة، فإني عندما أقرأ هذه الكلمات “تطفر الدمعة من عيني” وأعود طفلا صغيرا يحن اليهم وإلى عشرتهم الجميلة. وما يزيدني فخرا، فأن الكثيرين مازالوا يتذكرون (جماعة الكاريكاتير)، ومن الطريف ان أذكر بأني وبعد كل هذه السنين، استلمت دعوة من (امانة بغداد) يطلبون فيها معلومات عن “سيرتي الذاتية” وذلك بغية ضمها الى كتاب ينوون اصداره عن مجموعة المفكرين والرسامين، والأطرف من ذلك، بأن الكتاب يشير اليّ وليس الى استاذي نوري الراوي!
امّا عن علاقة الفنان بالعائلة و والده بالذات فقال: بالحقيقة ان قرار الغربة كان مـرّ المذاق على كلانا، أنا والعائلة، وضاعت عندي المقاييس في التفريق بين الضحية والجلاد. فالجلاد الذي جعل منّي ضحية، حولني الى جلاد لوالدتي وبقية عائلتي، وعشت مرارة كبيرة وحنين عظيم للعائلة، لكن وللأسف دون جدوى. لكني من الجهة الأخرى، فقد أقمتُ معهم جسورا للتواصل حرصت عليها كثيرا. اما أول لقائي بهم من جديد فقد كان عام 2004، اي بعد 24 عاما من الغربة، ثم التقيتهم مرة أخرى في أربيل عام 2007، اما آخر لقائي مع الوالد فكان عام 2010، حينما أقمنا معرضا تشكيليا مشتركا أنا وهو على “قاعة الأورفلي” في العاصمة الأردنية عمّان ، وكان تحت عنوان (معرض الثمانين عاما) وتشرفت بعمل دليل المعرض آنذاك.
وحينما سألته عن مصير (إرث الوالد) من أعمال ورسوم وكتب ومقتنيات شخصية قال:

لقد ترك الراحل الكثير الكثير، إذ كان شديد المحافظة على الصغيرة والكبيرة، وتقوم الغالية شقيقتي (ســـحر) الآن بتصفية تلك التركة وبما يليق بمسيرة الوالد، علما انها كانت قد تبرعت بقسم من الرسوم الى (جمعية الفنانين التشكيلين) وقسم آخر الى (وزارة الثقافة العراقية) والقسم الأخير مازالت تحافظ عليه رغم ظروف البلد الأمنية الصعبة.
ولطاما كان الحديث عن الراحل نوري الراوي، اردت أن اعرف شيئا عن آخر ايامه فرد الأستاذ رائد بالقول:

لقد كانت صعبة! عليه وعلى عائلتي وعلـيّ ايضا. إذ تدهورت صحته كثيرا وعانى من ذلك حتى وافته المنية يوم 15 آيار 2014 في مستشفى اليرموك ببغداد. لكني احسـب نفسي من القلائل المحظوظين في هذا الزمان. فقد تمكنت من تأمين اتصال ( الكتروني) معه عبر شبكة الأنترنيت بأسبوع واحد قبيل رحيله. حيث تمكنّا من التواصل عبر شبكة (السكايب - صورة وصوت)، فشاهد اولادي وشاهدوه ايضا، وســمعت ضحكته من بعيد! وفرحت لذلك حقا، ولا انساها أبدا. وعلى ذكر الوالد، ففي بداية حياتي التشكيلية، كان هناك (البعض) ممن شكك في قدراتي الفنية، فصار ينشر الأشاعات على إنّ (والده يساعده!) وكان هذا الأمر يضايقني كثيرا، لابل إنّ مسألة السير في (ظّل الكبار) عملية متعبة جدا، وتحتاج الى جهد اضافي لأثبات شخصيتك! ولم أكن من السعداء (آنذاك) لورود اسمي مقرونا بإسم والدي، إذ كنت اسعى لأثبات شخصيتي والتحليق عاليا بإنفراد، فصرت أكتب إسمي (رائد الراوي) فقط، لكن وبعد مضي كل هذه العقود والسنين والجراح وما جنيناه من سنوات الغربة، صرت أحن لذلك الأسم، وله بالذات، وكم أشعر بالفخر بأني قد ورثت عنه طريق الفن التشكيلي الصعب. لقد رحل عنّا، وترك إرثاً و أثراً كبيرين، وهو يستحق الذكر الطيب مني دوما.
وبالعودة الى سيرة الأستاذ رائد، حاولت أن أتعرف على آخر اهتماماته

فقال: لقد كان الأنسان دائما مركز اهتمامي ، وها انت ترى الدمار الذي حل بالوطن ، وسيل الجراد الذي يحرق  كل شئ بما فيها الثقافة والأنسان وكأن أرض هذه البلاد لم ترتوي من الدماء بما فيه الكفاية ، فأني لم اتمكن من مغادرة هموم الأنسان العراقي التي تراها  في كل الخطوط والرسوم ، وأحاول تقديمها ليس للمشاهد العربي فقط بل للقارئ الأمريكي، اذ رسمت ضد الطائفية والفساد والظلم والفقر والجوع ومازلت، أما لمشاريعي الشخصية فبالحقيقة كانت عندي أحلام كثيرة في الماضي، ومع مرور الوقت، حاولت الأمساك ببعضها والحفاظ عليها من الضياع! وهي عبارة عن (احلام) منها:
** طبع كتاب رسوم كاريكاتيرية عن مضار التدخين - بالأنكليزية.
** مذكرات طفولتي في بغداد - باللغتين العربية والأنكليزية.
** كتاب يتضمن رسوم كايكاتيرية عن الأقدام البشرية! وهذا كان حصيلة تجربة مريرة عشتها مع (قدماي) حينما خضعتا لعملية جراحية أجريت لهما وأقعدتني البيت لمدة ثلاثة أشهر، وكان من حصيلتها هذا الكم الهائل من رسوم الأقدام.

اما عن اولادي، فأني سعيد بكلاهما، لكن احدهم يبدي اهتماما أكبر بالرسم والفن، رغم اني امنحهما ذات الأهتمام والتشجيع على الفنون والرسم، لكن الآخر يبدي جدية أكبر. وفيما يخص مشاريعي الشخصية، فإني منكب الآن لأخراج بعض الأفلام (الكاريكاتيرية) مستخدما رسومي وبالأستفادة من برنامج يوفره - تلفون الآي فون - وشركة محلية للأفلام المتحركة، وقد انتجت للآن 3 منها.

أُمنيتي للعراق: بس السـلام والأمان، وأن يبقى البلد متوحد، وأُريد الوطن أن يكون مثلما كان أيام طفولتي، ومثلما يخطر على بالي هســّة، حلو وجميل و يتســّع لكل ابنائـه.

كمال يلدو
كانون أول 2014

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1180 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع