عيد الشكر في التاريخ الأمريكي

                                           

                         د. منار الشوربجي


غداً الخميس عطلة رسمية في الولايات المتحدة بمناسبة عيد الشكر، وهو عيد وطني لا ديني، صار مرتبطا في الأذهان ببدء موسم التسوق المصاحب لأعياد الميلاد.

ففي الخميس الرابع من نوفمبر كل عام، يعد الأميركيون وليمة من لحم الديوك الرومية، وأطباقا مختلفة من القرع العسلي. وفي صبيحة الجمعة التالية، التي صارت تعرف بـ«الجمعة السوداء»، يبدأ موسم التسوق الذي يستمر حتى أعياد الميلاد.

وتعبير «الجمعة السوداء» ترجع جذوره إلى وقت كان فيه معظم المتاجر الكبرى يعاني طوال العام من الديون، التي تكتب في الميزانية باللون الأحمر، ثم تبدأ تتحرر من ديونها في تلك الجمعة وتحقق أرباحا، فيختفي اللون الأحمر في جداولها ويحل محله اللون الأسود.

لكن عيد الشكر نفسه مرتبط بقصص وأساطير ترجع لبداية نشأة الدولة الأميركية، فهو اليوم الذي احتفل فيه المهاجرون الأوائل مع سكان البلد الأصليين، أي الهنود الحمر، بأول موسم حصاد لهم في أميركا الشمالية، وهو بالتالي احتفال بالنشأة الأولى لأميركا. والرواية الرسمية التي يتعلمها الأطفال في المدارس، تصف المهاجرين بـ«الحجيج».

فالإنجليز البروتستانت الذين هربوا من الاضطهاد الديني إلى هولندا، استقلوا مركبا اسمه «مييفلاور»، ووصلوا به عام 1620 إلى ما يعرف الآن بولاية ماساتشوستس، واعتبروها بالنسبة لهم «أرض الميعاد»، ومن ثم اعتبروا أنفسهم كالحجيج.

وقد كانت الرحلة شاقة وصعبة ومات فيها الكثيرون منهم، لكن الذين أكملوا الرحلة وصلوا للشواطئ الأميركية في نهاية نوفمبر وبداية الشتاء القارس، ولم تكن لديهم أدنى دراية بالأرض التي سيعيشون فيها. لكن الهنود الحمر استقبلوهم بحفاوة، وعلموهم الزراعة والصيد.

وكان سكوانتو، وهو من قبيلة الوامبانواج، يعرف الإنجليزية وعلى رأس من استقبلوهم وعلموهم، فزرعوا واستعدوا للشتاء التالي جيدا، وما إن جاء موسم الحصاد حتى أقاموا تلك الوليمة التي قدموا فيها الطعام للهنود الحمر وشكروا الله على عطاياه، وشهد الهنود الحمر «احتفالا لم يشهدوا مثله من قبل».

ويحتفل أطفال المدارس بالعيد عن طريق ارتداء ملابس الطرفين، فـ«المهاجرون» يرتدون القبعات والملابس الثقيلة، بينما «الهنود الحمر» شبه عرايا ويلبسون الريش.

والحقيقة أن الرواية الرسمية لما جرى في تلك المرحلة من تاريخ أميركا، تنطوي على الكثير من الأساطير. فالقصة تُحكى طبعا من وجهة نظر المهاجرين الذين رحلوا إلى أميركا الشمالية.

لذلك، فهم ورعون ويشار إليهم بـ«الحجيج»، بينما سكان البلد الأصليون من الهنود الحمر، يقدمون باعتبارهم بدائيين تلقوا الطعام من الحجيج في ذلك العيد، الذي كانوا فيه مدعوين للاحتفال والشكر. لكن القصة الحقيقية كما يقول المؤرخون، تذهب لما هو أبعد من ذلك. فسفينة «مييفلاور» لم تكن بداية الهجرة والاستيطان الإنجليزي في أميركا الشمالية، كما تزعم الرواية الرسمية.

والاستيطان الأوروبي عموما كان قد بدأ قبل أكثر من قرن، بوجود فعلي للإسبان والهولنديين قبل الإنجليز، ومع ذلك لم يعتبر أبدا في كتب التاريخ الأميركية هو البداية، إذ ظل التركيز دوما على الاستيطان الإنجليزي.

لكن حتى بالنسبة للإنجليز لم تكن «مييفلاور» هي البداية، فكل من زار ولاية فيرجينيا يعرف ما تؤكده كتب التاريخ عن مدينة جيمستاون، التي استوطنها الإنجليز قبل أعوام طويلة من وصول سفينة «الحجيج».

لكن ما جرى في فيرجينيا، كما تحكيه الوقائع، لا يصلح لأن يكون «بداية التاريخ» الذي تنشده دولة تقدم نفسها باعتبارها استثناء أخلاقيا، فالثابت أن من أتوا إلى فيرجينيا أسروا الهنود الحمر ووضعوهم في السجون، وأجبروهم على تعليمهم فنون الزراعة في تلك المنطقة.

ومن الثابت أيضا أنهم جاؤوا بحثا عن الذهب، لا بحثا عن الخلاص الروحي، وظلوا يحفرون الأرض وينبشون القبور، بدلا من الزراعة التي تعلموها لاحقا.

ليس هذا فقط، فحتى قصة «مييفلاور» نفسها فيها الكثير من عدم الدقة. فالذين أتوا على السفينة لم يقدموا الطعام للهنود الحمر، ولا هؤلاء شهدوا احتفالا غير مسبوق. فـ«الحجيج» لم يصلوا لأرض جرداء، بل كانت ممهدة للزراعة، زرعها الهنود الحمر قبل قدومهم واحتفلوا بموسم الحصاد لقرون.

لكن حين قدمت مييفلاور، كانت الأرض شبه خالية من سكانها الذين هلكوا في وباء شرس حل بالمنطقة وأجهز على قرى بأكملها.

أما الشاب سكوانتو، فهناك روايات كثيرة مختلفة لدى المؤرخين، المؤكد منها أنه خطف وهو لا يزال طفلا في 1605، وتم ترحيله إلى إنجلترا التي عمل فيها كخادم لعدة سنوات، قبل أن يباع كعبد في إسبانيا.

لكن سكوانتو هرب من العبودية، وعاد لإنجلترا ليقنع واحدا من «الحجيج» ليصحبه معه في رحلة مييفلاور ليعود إلى بلاده. ويقول بعض المؤرخين إن سكوانتو عاد لقريته ليجدها خالية تماما، بعد أن راح سكانها ضحية الوباء.

ويعتبر الكثير من الأكاديميين والمؤرخين أن الرواية الرسمية لعيد الشكر تحتاج لإعادة نظر، فهم يرونها تروج لاحتفالات تهنئ الذات، أكثر من أنها تأخذ التاريخ على محمل الجد أو تحكي وقائعه بطريقة منصفة.

ويرون أن الرواية الرسمية لعيد الشكر، لا تعطي فرصة لأطفال المدارس ليدركوا أن السكان الأصليين كانت لهم حضارات قبل قدوم المهاجرين، ولا تسمح لهم بالتعامل بطريقة أكثر رصانة مع ما تعرض له السكان الأصليون من مذابح على أيدي المهاجرين.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1115 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع