مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي (7)

     


مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي (7)

         

  

  

أكتب اليوم عن نخبة من المربين الذين رحلوا عن هذه الحياة، كالأشجار الباسقة التي تظلل وتزهر وتثمر، اما ان ماتت، فأنها تكون قد تركت خلفها آلاف البذور، حتى تستمر الحياة ، تماما مثل المعلمات والمعلمين، بذورهم في تلاميذهم الذين توزعوا في اركان العالم، وتقدموا في كل دروب الحياة، لتروي قصصهم وحكايات المربين الأوائل الذين خطوا بحروفا مذهّبة  اجمل الأشياء في حياتنا. نعم، وأن كانوا غائبين اليوم ، لكن هذا لن يمنع ابدا من الأحتفاء بهم، من ذكرهم بالطيبات، من شكر زوجاتهم وعوائلهم، ومن اتخاذهم نماذج ناجحة في حياتنا. ومع ان الجهات الرسمية التربوية العراقية (مقصّرة) تجاههم، احياءا كانوا ام راحلين، في تكريمهم، وتعليق صورهم في مدارسهم، او تسمية الصفوف بأسمائهم على اقل تقدير، لكن والحال هذا، لن يمنعنا نحن الذين تتلمذنا على ايديهم، ورشفنا شيئا من محبتهم لنا، ان نقف اليوم ونشكرهم، ونعيد ذكراهم العطرة، ونترحم عليهم، بأمل ان يكون هذا تقليدا لدى جالياتنا العزيزة التي شاءت الأقدار والأيام وظروف العراق الصعبة ، وسياسات الحكومات الفاشلة، ان نختار اوطانا أخرى غير العراق، حتى نعيش بأمان.

  

                            

المربي الراحل ميخائيل يوسـف شـينا
من مواليد مدينة "تلكيف" التابعة لمحافظة نينوى في العام 1919، ورحل عن الدنيا في العام 2010. متزوج من السيدة كرجية كسـّو، ولهم اربعة بنات وأربعة بنين، 31 حفيد و 28 ابناء الأحفاد.
درس الأبتدائية والمتوسطة في مدارس تلكيف آنذاك، اما الثانوية فأكملها في الموصل، لعدم وجود مثيلتها في بلدة تلكيف. بعدها انتقل الى بغداد، وتخرج معلما في العام 1939، اي بعمر 20 عاما.
كان تعينه الأول،
- معلما في "مدرسة تلعفر" لمدة سنة واحدة،ثم
- معلما ومديرا للمدرسة في بلدة "كرمليس" ولمدة 4 سنوات، ثم انتقل
- معلما ومديرا في مدارس "تلكيف" لمدة 25 عاما.
في نهاية العام 1959 نقلت خدماته الى بغداد، وصار مديرا في "مدرسة الطاهرة للبنين" والتي كانت تقع في منطقة (سوق الغزل) في مقابل "جامع الخلفاء" حتى العام 1966، وهو عام انتهاء خدماته ورحيله من العراق. وعقب وصوله الى الولايات المتحدة مع عائلته، انصرف للأعمال الحرة وأعالة الأسرة الكبيرة.

  

           المرحوم ميخائيل شينا مع  مدير ناحية تلكيف

ولأن آخر ما يتبقى للأنسان بعد رحيله هو الذكر والذكريات، فأن السيدة كرجية، عقيلته تقول:( لقد كان انسانا حريصا، وحنونا، ودفع الأبناء نحو التعليم، اما بالنسبة لي (تقول) فقد عاملني مثل الملكات ان لم يكن اكثر، ولم يبقي عليّ اي قصور او نقص، ان كان في حياتنا بمدينة تلكيف او في بغداد، او حتى بعد وصولنا الولايات المتحدة). وتستطرد بحديثها:( لقد كان شخصية محبوبة، وتترك اثرا اينما حلت، وكم من مرة التقي بتلاميذه من تلكيف او الموصل او كرمليس، وهم يصطفون افواجا لألقاء التحية والسلام عليه بعد ان كبروا وأصبحوا آباءا او ذو شأن كبير). وكان من حسن الحظ ان يكون في بيت السيدة كرجية ابن الراحل (احسان) مع شقيقته (رجاء) وزوجها الدكتور (بيتر قلابات) والذين اجمعوا بأن  الراحل  - ميخائيل شينا – كان انسانا ذو مهابة كبيرة، وكثيرا ما كان البعض يخشاه نتيجة قوة شخصيته ومقدرته الفائقة على اقامة العلاقات وكسب الأحترام، الا ان  (احسان) يتذكر حادثة طريفة وقعت له في مدينة – تلكيف – حينما كان في الصف الذي يدرسّه والده، ويقول: انه كان يعامله مثل ما كان يعامل باقي التلاميذ، لا بل انه حدث في احد الأيام ان عاقبه بالضرب على يده امام الكل، لأن اضافيره كانت طويلة!
وبالحديث عن الأستاذ – المدير ميخائيل شينا، فأن الكل يجمع على انه كان انسانا ذا خصال سامية، وبقدرة ادارية كبيرة منحته ثقة مرؤسيه، ونتج  عنها تسليمه مهمة ادارة المدارس، وأخص منها (مدرسة الطاهرة) في بغداد، والتي كانت تعد واحدة من اكبر المدارس  بعدد طلابها من ابناء (الطيف المسيحي). ورغم انشغاله بالعمل بعد وصوله الولايات المتحدة، الا انه كان دائم الحضور في المناسبات المهمة، وقد منح بعض الوقت للكتابة وأبداء الرأي  عبر عدد من المقالات التي نشرت له في جريدتي (المشرق – للأستاذ حنا يتوما) و (الهدف – للأستاذ فؤاد منّا) والصادرة في مدينة ديترويت. اما الأستاذ "يلدا قلاّ" فقد ذكر مقطعا جميلا ارتأيت نقله للقارئ الكريم، من كتابه (نعمة الذاكرة – صفحة 3) ويقول: "وشاءت الصدف ان التقي بعد غياب طويل بزميل قديم، كان يوما يشغل ادارة مدرسة تلكيف التي انهيت فيها دراستي الأبتدائية. فأثارت تلك الملاقاة شعوري فكتبت كلاما موجزا عمـّا  كنت احمل نحوه من الأعجاب والأحترام والتقدير. ذلك الزميل هو الأستاذ ميخائيل شينا صاحب المقدرة الفائقة في التعرف على كبار المسؤلين الحكوميين في منطقة عمله. يصادقهم ويكسب حبهم وأحترامهم بقوّة شخصيته على نحو يجلب الأنتباه".

ربما تكون من محاسن الصدف ان اكون تلميذا في "مدرسة الطاهرة" للسنة الدراسية 1962 – 1963 وكنت حينها في الصف الثاني الأبتدائي، وتشاء الصدف (عرفتها مؤخرا) بأن يكون مديرنا المرحوم الأستاذ ميخائيل شينا. وقد تركت تلك المدرسة حادثتان كبيرتان في ذاكرتي، الأولى كانت حرق الكتب امام باب المدرسة الخارجي، وعرفت لاحقا بأن من قام بها هم (عصابات الحرس القومي) لأنها كانت تحوي على صور الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم عقب انقلابهم في شباط 1963، اما الحادثة الثانية فكانت ، ان نودي علينا نحن التلاميذ، للأصطفاف اما باب الأدارة والدخول فردا فردا وأستلام "هدية العيد"، اذ صادف عيد الميلاد المجيد، والتي كانت عبارة عن (قطعة قماش ملونة) تصلح لأن تكون قميصا او بيجاما او دشداشة! وقد حرص المدير على تسليمها بنفسه الى التلاميذ واحدا واحدا،  ومن سيكون يا ترى ان لم يكن المرحوم ميخائيل شينا؟

  

       صورة الأستاذ ميخائيل شينا مع العائلة  في تلكيف 1951

الذكر الطيب لهذا المربي الكبير، والشكر والتقدير والمحبة لزوجته الغالية وجميع افراد عائلته الكرام، وقديما قالوا ((اللي خلّف ، ما مات)).

     

                       

المربي الراحل حنا روفا شـعيوتا (رحيم شـعيوتا)

من مواليد مدينة تلكيف التابعة لمحافظة نينوى في العام 1930 ، وفي محلة (شعيوتا)، وتوفاه الأجل في مدينة ديترويت في العام 2013. كان متزوجا من السيدة فريال داود سـامونا، ولهم 4 بنين، و3 بنات، و14 حفيد.

   

اكمل الأبتدائية والمتوسطة في مدارس تلكيف، اما الثانوية فكانت في "كلية الموصل" الأهلية التابعة للآباء الدومنيكان، بعدها انتسب ل (الدورة التربوية) ذات السنة الواحدة، ليتخرج منها معلما وكان ذلك في العام الدراسي 51-1952. صدر تعينه الأول،
- معلما في مركز مدينة الكوت، بعدها
- تنسيب لمدة 40 يوما في مركز قضاء زاخو (آنذاك)، تلى ذلك
- معلما في مدرسة بقرية (بيرسفي)، من بعد ذلك تم نقله
- معلما في (تلسقف) في بداية العام 1959، وبعد مرور عام على ذلك، تم نقله مجددا الى
- مدينة تلكيف للتعليم في مدرستها الأبتدائية عام 1960، وبعد مرور 5 سنوات تم نقله الى بغداد بناءا على طلبه، لكن النقل في هذه المرة لم يساعده  نفسيا ولا صحيا، فعاد الى مدينة تلكيف ، ونسبت هذه المرة الى،
- متوسطة وثانوية تلكيف، لتعليم مادة (الديانة المسيحية)، وتم ذلك للأعوام 71 – 1977 بعدها نقل الى،
- مدرسة تلكيف الأبتدائية (الأولى) لمدة سنة، ومن ثم استحق التقاعد في العام 1978.

هاجر الى الولايات المتحدة مع عائلته في العام 1980 وقبيل انطلاق الحرب العراقية الأيرانية المدمرة. ويذكر الراحل (استاذ رحيم) في بعض الأوراق التي تركها قبل رحيله(كتبها في العام 2006)، بأنه كان من القلة المحظوظة في حياتها، ويسوق لذلك العديد من الأمثلة ومنها، زوجته العزيزة (السيدة فريال) وروح التفاهم الرائعة بينهما، وتشجيعها له في اداء مهامه الأنسانية، وثانيا،  فقد ساعدت جميع تنقلاته (المدرسية) على الأتصال بالعوائل المسيحية، وتعضيد ايمانها بالصلاة، وعلى تنظيم اوقات التلاميذ والشباب للعمل بدورات او صفوف (التعليم المسيحي)، لتقوية اواصرهم  وتعزيز مفاهيمهم عن الديانة. وحتى تكتمل  الصورة، فقد توفرت للأستاذ الرحل (حنا شعيوتا) فرصة ذهبية في كنيسة (ام الله) وبرعاية خاصة من الأب (عمانؤيل بوجي) لأفتتاح الصفوف من اجل تعليم (اللغة الكلدانية – السورث – السريانية) للمبتدئين، ومن ثم للمتقدمين،والمتقدمات، وخاصة للشمامسة، لما لها من اهمية في اجادة التراتيل والحفاظ عليها من الأندثار، وقد تطور هذا المشروع ليصبح (مدرسة كاملة) بصفوفها وتلاميذها ومعلميها ومعلماتها، ويضيف الراحل (استاذ رحيم) بأن الشماس (حنا شيشا كولا) ساعده لمدة سنة 96-1997، ثم رافقه الشماس (فيليب القس ميخا) والتحقت بهم السيدة (وديعة القس ميخا – زوجة الشماس فيليب)، ثم انضم الينا الأستاذ (كوركيس طوبيا كسّو)  لأدارة المدرسة وبمساعدة اثنان من  خريجوا هذه المدرسة هما (نبيل كرومي و روكسي جربوع)، فيما انصرفت الى التعليم فقط،  نتيجة وضعي الصحي.ٍ

لا يختلف اثنان من الذين عرفوا او زاملوا المربي (رحيم) بأنه كان مثالا للتواضع وعدم اظهار نفسه امام الآخرين، ويصفه الكثيرون بأنه كان مثل (الآباء الكهنة) بتصرفاته وأيمانه وإن لم يرتدي الزي الكهنوتي. على أنه كان انسانيا مخلصا في مجمل حياته، وحتى عندما كان معلما، ويسوق لذلك مثالا حينما كان في (تلسقف) حيث انه كان يقدم للتلاميذ دروسا اضافية من اجل رفع مستواهم العلمي، وكان يقوم بذلك في اعلى (سطح) المدرسة، لأن الصفوف كانت مشغولة بالتعليم الثنائي، مما جعل اهالي التلاميذ يتعجبون لهذا الأخلاص ويشكروه لجهوده الأستثنائية مع ابنائهم. ومن جملة من كتب عن الراحل، كان الأستاذ (يلدا قلاّ) في كتابه – نعمة الذاكرة ص 14- " لقد رأيت في شخصه الكريم كل الصفات الحميدة التي حببته الى جميع ابناء بلدته مثل الوداعة والتواضع والأمانة والأخلاص ومحبة القريب، وقلما تجتمع هذه الصفات في شخص واحد،  وأن من هواياته المفضلة كان الرسم والمطالعة وحفظ مواعظ الكهنة البارزين التي يكتبها في سجّل خاص يعود اليه بأستمرار".
لقد كان لي شـرف التلمذة على يده في صف  تعليم المبادئ الأساسية (اللغة الكلدانية)، وكنت معجبا بأسلوب تدريسه وحرصه الشديد على نقل خبرته وتجربته التعلمية لكل الحاضرين، صغيرهم وكبيرهم، وفعلا كان لي ما رغبت ، بأني تمكنت من كتابة اسمي بلغة اجدادي!
الذكر الطيب للمعلم الرائع حنا شعيوتا (رحيم)- والشكر والتقدير لزوجته العزيزة وأفراد عائلته الكرام، وقديما قالوا، حتى وأن ذبل الورد فأن رائحته الزكية لا تغيب، وألوانه الزاهية تبقى عالقة في الذاكرة.

       

                       

الراحل الأستاذ  جورج يوسـف أسـمر
ولد في مدينة "تلكيف" التابعة لمحافظة نينوى في العام 1939، وبالتحديد في محلة (أسمر). توفي في بغداد أثر نوبة قلبية مفاجأة في العام 1995،  متزوج من السيدة حسـينة رزو زيّا، ولهم اثنان من البنين وثلاث بنات، وعندهم للآن 11 حفيد.
أنجز تعليمه الأبتدائي والمتوسط والثانوي في مدارس مدينته العزيزة "تلكيف"، ثم انتقل الى بغداد  وتخرج في العام 1961 مدرسا للغة الأنكليزية . صدر تعينه الأول،
- مدرسـا في "ثانوية تلكيف"  ما بين الأعوام 1961 -1968 ثم نقل الى العاصمة بغداد،
- مدرسـا للغة الأنكليزية في  "ثانوية عقبة بن نافع" الواقعة في شارع فلسطين/حي المهندسين،  ما بين الأعوام 1968 – 1983 ، حيث نقل بعدها الى،
- "ثانوية الرافدين" والتي كانت تقع بالقرب من مدينة الثورة ما بين الأعوام 1983 – 1987 حيث استحق التقاعد بعد ان اتم خدمته والسنين المطلوبة. وأثر كل تلك السنين، اضطر للعمل في الأعمال الحرة من اجل اعالة العائلة حيث لم يكن (راتب التقاعد) مجزيا او كافيا للعائلة التي كانت تكبر كل يوم.

   

  الأستاذ جورج أسمر في سفرة جامعية الى حدائق الحلة - 1960

تصف السيدة "حسينة" عقيلة الراحل "جورج" ايامها معه بأنها كانت (من اجمل الأيام) لأنه ( انسان محب و ودود وخدوم ايضا)، وتزيد في القول: (انه كان يعاملني كالأميرات وهذا نابع من طيب روحه وحسن تربيته وأخلاقة)، وتضيف ( اني افتقده، وأفتقد عشرته الطيبة وأنسانيته، كان زوجا وأبا رائعا، وقد رحل عنّا مبكرا)، ثم تعود بها الذاكرة للوراء:( لقد قضينا 30 من اجمل سني حياتي معه، ولست مبالغة بالقول، بأني لم ارى زوجا  يعامل زوجته مثلما عاملني استاذ جورج، فقد كان مسامحا، ومثقفا وذو رأي عاقل وسديد)، اما عن تلاميذه فتذكر: (السرور الذي كان ينتابني بعد لقائي بالعديد منهم خاصة اولئك  الذين  يعرفون بأني زوجته، فيغدقون محبتهم وتقديرهم وأحترامهم لي، وكأنهم  يبعثوها له بالنيابة، وكم من مرة كانوا يقدمون خدماتهم او مساعدتهم  ويعيدون القول: انت زوجة استاذنا العزيز جورج، وأعتبرينا مثل ابنائك! كانت هذه الكلمات تنزل على صدري مثل قدح ماء بارد لتطفئ لهيب  حرارة فراقه).

      

      الأستاذ جورج أسمر مع الهيئة التدريسية في ثانوية تلكيف

اما ابنه (هيثم) فيتذكره بالقول:(كان انسانا طيبا بالفطرة حتى في معاملته لنا كأب،  ولم نراه عصبي المزاج الا ما ندر، وقد اكون من التلاميذ المحظوظين الذين تتلمذوا على يده لسنة واحدة في "ثانوية الرافدين"، ومع تبادل المحبة والأحترام بينه وبين التلاميذ، فقد تمكن من اقامة احلى الصداقات مع كل الكادر التدريسي، اينما حل وأينما مارس مهنة التعليم).

وقد اكون انا ايضا من المحظوظين الذين تشرفوا بالجلوس في صف الأستاذ "جورج أسمر"، اذ كنت تلميذه في الصف الثالث متوسط، وفي "ثانوية عقبة بن نافع" للعام الدراسي 1971- 1972 ، وكانت حصيلتي بدرسه للغة الأنكليزية في امتحان البكلوريا 84%، وله يعود الفضل الكبير، في طريقة تدريسه ولشخصيته السلسة والودودة والمحبة.
الذكر الطيب لهذا الأستاذ النبيل، والشكر والمحبة والتقدير موصول  للسيدة الغالية زوجته وبناته وأولاده جميعا.

كمال يلدو
تموز 2014


  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1230 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع