سنوات صدام مذكرات بقلم المترجم الخاص سامان عبدالمجيد ـ الحلقة السادسة

   

              سنوات صدام ـ الحلقة السادسة

   

                

بدأ الكتابة بدافع الملل، صدام يراجع مسودات روايته الأخيرة تحت القصف!!

في مارس 2003 كانت الحرب في بداياتها الأولى. كانت بغداد غارقةً تحت القنابل.

هل كان صدام يعد مخططات لهجوم مضاد مع جنرالاته؟ أم أنه كان ينظم دفاعات العاصمة مع ابنه قصي؟ في هذه الساعات المأساوية أرسل صدام مبعوثاً إلى المكتب الصحافي ليطلب مسودات روايته الأخيرة! كنت أعرف منذ زمن طويل أنه كان يؤلف كتباً، لأنني كنت مكلفاً بترجمتها إلى الإنجليزية وبإعادة قراءتها. لكنني لم أكن أتصور يوماً أنه سيعهد إلي بمثل هذا العمل في مثل هذه الظروف الحاسمة. ولا أخفي أنني حتى النهاية لم أفهم شيئاً من شخصية الرئيس العراقي.

                     

كان «عمله» الأخير، الذي ظل في شكله المخطوط، يحمل عنوان: «اخرجوا أيها الشياطين!*». عنوان لا شك غريب يبرره صدام في إحدى المقدمات. قديماً كانت الأسرة في القرى العراقية إذا أصاب أحد أفرادها مرض استدعت معالج القرية لاستئصال المرض.. فيقوم هذا الرجل بربط ذلك المريض بالسرير ثم يشرع في ضربه وهو يصرخ:

أخرجوا أيها الشياطين!

الرواية الأخيرة

كانت الرواية بالفعل شحنة شرسة ضد اليهود.. «الشياطين» كما يصفهم صدام، لقد تخيل قصةً تجري أحداثها في العراق في عهد نبي الله إبراهيم، وهي تصور أحد الأجداد ويدعى إبراهيم وأحفاده الثلاثة، زكريا وعيسى ويوسف، الذين يرمزون لرسل الديانات السماوية الثلاث موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام. فقد كان صدام يريد أن يقدم ترجمته الشخصية عن ميلاد البشرية.

فزكريا الذي يحمل اسماً تقليدياً يمثل الشر بعينه، وقد ألبسه صدام بشكل كاريكاتوري ساخر كل العيوب والنقائص والآفات. فهذا الشخص، الذي كان لا يطاق منذ طفولته، كان متسماً ببخله الذي كان يسري في دمه، وكان يعشق تدبير المؤامرات. أما أخواه عيسى ويوسف فقد كانا، على العكس منه، كريمين، صادقين وشجاعين.

في بداية الرواية يدعي زكريا أمام جده إبراهيم أن المال هو أهم وأثمن شيء في الحياة:

- الأفضل أن تستثمر رأسمالك من أن تتعب نفسك في العمل والكد!

صدم هذا الكلام إبراهيم، مثال الفضيلة، وبالمثل أثار غضب حفيديه الآخرين، فرد أحدهما على زكريا قائلاً:

- لا! إن الأهم في الوجود هو الشرف والكرامة والأخلاق.

وأخيراً، وبعد العديد من التطورات الطارئة، طرد إبراهيم زكريا من البيت العائلي وأقصاه من القبيلة. لكن قبل أن يغادر أعطاه إبراهيم حصته من الإرث. ومنذ ذلك الوقت صار زكريا مرابياً، وهكذا عاش من المال الذي كان يقرضه. وشيئاً فشيئاً صار غنياً، وانطلق في تجارة الأسلحة.

ولم يعرف تعطشه للسلطة وللمال حداً من الحدود، فصار، بمكيافيليته، يستأجر الشباب لكي يحرض القبائل بعضها على البعض الآخر، فيبيعون لها السيوف والدروع. وهكذا صارت القبائل تتقاتل فيما بينها، وصار زكريا يكسب، ويراكم ويدخر الأرباح فوق الأرباح.

في منتصف الرواية يدس صدام قصة عاطفية، حيث يقع زكريا، وبكثير من الوله، في حب فتاة موعودة لأحد أقاربه، فيحاول بشتى الوسائل أن يغزو قلبها. ويذهب في ذلك إلى حد محاولة اختطافها، لكن الجميلة تتمكن في الأخير من الإفلات من أنيابه الشرسة.

وفي الأخير تنجو الأخلاق وينتصر الخير، ويسقط القناع عن زكريا، الذي يقتله رجال مستقيمون، بعد معركة حاسمة تجري أحداثها في سهول بلاد ما بين النهرين. وبذلك يخلص صدام، بعد هذه الأحداث الفوضوية، إلى أن العراق قد شهد فترة طويلة من الازدهار والنمو، لأن الشياطين قد هزموا شر هزيمة.

ترى من أين جاءته كراهيته لليهود؟ إن صدام - كما ذكرت سلفاً - كان يولي أهمية خاصة للقضية الفلسطينية، التي كان يصفها في الدعاية الرسمية بالقضية المركزية. ومع ذلك، فقد كان الجميع يحرص في الخطابات العراقية الرسمية، مثلما هو الشأن في خطابات الدول العربية الأخرى، على التمييز بين «اليهودية» وبين «الصهيونية»، وبين «يهودي» و «إسرائيلي». ففي القرآن الكريم يمثل اليهود، على غرار المسيحيين تماماً، جزءاً من أهل الكتاب.

والحال أن صدام في حدود العام 1999 قد اخترق هذه القاعدة عن قصد وسبق إصرار. ففي إحدى خطبه هاجم اليهود هجوماً مباشراً بصفتهم يهوداً: «... وأقول اليهود لأن اليهود أشرار.. ولا أقول الصهيونية فقط بصفتها حركة سياسية». هذه الأقوال لم تأت على أي حال من ارتجالات المنابر أو زلةً من زلات اللسان، فقد كان صدام يريد أن يصدم لكي يتحدى إسرائيل ويستفزها. لقد أراد أن يقول بهذه الكيفية: «لست أخاف من أحد وأنا أقول ما أفكر به!».

لكن لنعد لروايات صدام. لقد كتب صدام مخطوطته الأولى في منتصف التسعينات . كان يرسل النص إلى مكتب الصحافة لطباعته بمعدل خمسين إلى ثمانين صفحة مكتوبة في كل مرة. كان خطه أنيقاً، وكانت طريقة نسخه تقوم على الخطوط الطويلة. كان السكرتير الصحافي علي عبدالله يصحح الأخطاء الإملائية والنحوية، وكان صدام يطلب منه أيضاً التحقق من المراجع التاريخية ومن التواريخ أيضاً.

              

كثيراً ما كنت أسائل نفسي كيف كان صدام ينظم أموره، فقد كان ينهك نفسه في العمل، ولم يكن ينام إلا قليلاً. وفي الأشهر التي سبقت الحرب، وفي الوقت الذي كنا نتصور أنه غارق في قضايا الدولة، كان لا ينقطع عن إرسال عشرات الصفحات المكتوبة بخط يده لطباعتها وتصحيحها، وقد كنا نعيدها إليه في بضع ساعات، وكانت تعود إلينا في اليوم نفسه مصححة مدققة. وأكثر من ذلك، فقد كان يحدث أن يشتغل على العديد من النصوص في الوقت نفسه.

في البداية، كنت أظن أن صدام كان يسعى لأن يجلب لنفسه مجداً آخر غير المجد السياسي، مجداً أدبياً. فلعله كان يريد أيضاً الهروب من ضغوط حياة السلطة اليومية وأن يترك بصمةً مكتوبة في التاريخ، وحين ترجمت رواياته أدركت أن صدام كان يعبر فيها عن ذاته تعبيراً كاملاً. كان يتناول الكثير من الأفكار ومن الموضوعات، ففي الظاهر لم يكن يقتنع بخطبه وبظهوره المتكرر في التلفزيون، فقد كان في حاجة لأن يتواصل بوسيلة أخرى أيضاً.

                  

دروس في التاريخ

كانت الكتابة بالنسبة إليه فرصةً أيضاً لإعطاء العراقيين دروساً في التاريخ. ففي روايته «القلعة الحصينة»، وهو كتابه الثاني، تأتي البداية أشبه بدليل سياحي حقيقي. فقد جمع وثائق كثيرة حول المدن التي تنتصب على سهول نهر دجلة، وقد طلب فيما بعد من علي عبدالله استشارة المؤرخين وعلماء الآثار لإثراء هذه المخطوطة.

تجري الحبكة بعد الحرب الإيرانية ـ العراقية مباشرة. وبطل القصة ويدعى «صباح»، وهو ضابط في الجيش العراقي، يقع في أسر الإيرانيين. وبعد أن يهدأ الصراع ينتسب «صباح» إلى كلية الحقوق بجامعة بغداد، وهناك يلتقي بالبطلة «شاترين» وهي فتاة كردية.

في تلك الأثناء، كان على الطلبة أن يتلقوا تدريباً عسكرياً في الجيش. وفي الرواية يجري هذا التدريب في الموصل، المدينة الكبرى الواقعة شمال العراق. يذهب «صباح» بسيارته إلى التدريب ترافقه «شاترين» وأخوها محمود، وطالبة أخرى تدعى عايدة، وعلى الطريق من بغداد إلى الموصل، تصبح كل مدينة يمرون بها موضوعاً لوصف دقيق.

وحين يصل إلى تكريت، مسقط رأس صدام، ينطلق الراوي في استطراد طويل على مدى خمس صفحات أو ست، فيروي أن المدينة كانت في البداية مسيحية قبل أن يفتحها المسلمون، ويذكر قصة القس «سطيح»، الذي بدلاً من أن يسلم ويعلن اسلامه، فضل أن يرمي نفسه من على حصانه في بحر دجلة من على جرف صخري.

                     

ونكتشف في الرواية أيضاً أن تكريت هي المدينة التي ولد فيها قائد الحرب الشهير الكردي الأصل صلاح الدين، الذي صد الصليبيين خارج حدود القدس عام ألف ومئة وسبعة وثمانين ميلادي. وقد كان صلاح الدين بطلاً عند صدام وعند المسلمين كافة أيضاً.

وكان صدام يتناول في كثير من الأحيان موضوعات تهمه كثيراً، كموضوع ربط الحاضر بالماضي والاستفادة منه لبناء المستقبل. فقد كان يكتب هذه المقاطع على انفراد ويطلب من علي عبدالله أن يدرجها في المكان الذي يختاره هو بعد أن يعيد صياغتها في شكل حوارات. وقد كان هذا الاستطراد يأتي طويلاً أحياناً إلى الحد الذي يستدعي تقسيمه إلى أجزاء كثيرة وتوزيعه على شخصيتين أو ثلاث.

كان هؤلاء الأشخاص يحاورون أنفسهم على مدى أربع أو خمس صفحات، وفي أسلوب ثقيل وغامض في كثير من الأحيان. لم تكن عربية صدام رديئةً ولكنه كان يكتب على عجل. فقد كان يضع أفكاره على الورق بلا ترتيب على نحو ما تتبادر إلى ذهنه. وحتى حين كان يعرض أفكاراً بسيطة كان يصيغها بأسلوب معقد وجمل حافلة بالأسماء الموصولة والضمائر الشخصية والنعوت من كل نوع.

وكان يتوه في التلميح والتعريض وفي التفاصيل التي لا قيمة لها. ولذلك فقد كنت أجد صعوبة في ترجمتها إلى الإنجليزية، لأنني كنت مضطراً إلى تقطيعها إلى جمل لا نهاية لها. وكان القارئ لا يلبث بعد قراءة بضع صفحات أن يدرك أن صدام لم يكن كاتباً جيداً، فليس كل كاتب شبيهاً بنجيب محفوظ.

   

حديقة صدام السرية

لكن هذه الروايات كانت حديقة صدام السرية. فبواسطتها كان ينقل أفكاره إلى العراقيين حول كل الموضوعات وليس فقط السياسية منها. كان مثلاً يقدم نصائح للنجاح في الحياة الزوجية: «على الرجل أن يحترم زوجته وأن يفي بحاجاتها! وعلى المرأة من ناحيتها أن تكون مطيعة لسلطة زوجها، لأنه صاحب الكلمة الأخيرة ولأنه رب أسرة ومسؤول عن هذه الأسرة».

                   

وكان يناشد الآباء أيضاً العمل على تقوية شخصية أطفالهم بواسطة بعض الألعاب. ففي «زبيبة والملك»، روايته الأولى، يطرح صدام تأملاته حول السلطة ونمط الحكومة، فهو يقدر أن القادة يجب أن يكونوا قريبين من الشعب. ومن خلال «زبيبة»، وهي فتاة فقيرة، يستطيع الملك المعزول عن الحقائق ان يعيد بناء الصلات مع الرعية. ومع ذلك لا يمكننا القول إن صدام كان يطبق هذه المبادئ في الواقع بل كان في غالب الأحيان يعكس تلك المبادئ.

كانت أعمال صدام «تباع»رسمياً في العراق، لكنها كانت على وجه الخصوص ، توزع على أعضاء حزب البعث، وعلى أعضاء الحكومة والموظفين في الدولة. لم يكن صدام يوقع هذه الأعمال إلا بكلمة «المؤلف»، لكن جميع الناس كانوا يعرفون صاحب تلك الأعمال. وقد كان السر معلوماً من قبل الكافة، فقد كانت عباراته المفضلة المعروفة عند كل العراقيين هي التي تكشف أمره، وقد كان الناس يكتشفون بسهولة جمله «المقدسة» عنده.

بالطبع كانت الصحافة العراقية تمدحه وتتملقه. فقد وصفه ناقد أدبي مشهور ب«الكاتب العبقري»، وبـ «مؤلف هذا الكتاب الجدير بالاحترام»، وهي العبارة التي لم يستعملها مع أي كاتب آخر قط. فقد أضاف هذا الناقد: «بتواضعه الجم وموهبته الهائلة رفض المؤلف الكشف عن اسمه!».

وقد امتزج تعاظم صدام اذن ببعض التكتم والسرية. فأثناء ترجمة «زبيبة والملك» اتصل بي هاتفياً أحد المترجمين، وهو سلمان الواسطي، وكان عارفاً بالشعر، ليخبرني أنه كان ينوي أن يوجه رسالة للرئيس حتى يقترح عليه تعديلات أدبية وأسلوبية تشجيعاً له على توقيع الرواية باسمه.. وقد تكون الحروف الأولى من اسمه «ص. ح.» كافية لهذا الغرض.

وقد نقل السكرتير الصحافي هذا الاقتراح إلى الرئيس، لكن هذا المترجم لم يتلق أي رد على الإطلاق. كان صدام قد بدأ في الكتابة بدافع الضجر والسأم. فعند الكتاب العراقيين تعني كلمة «رواية» «الملحمة الحربية» وتعني «القصة العاطفية» ونادراً ما تعني الاثنتين معاً ولا تعني شيئاً آخر غيرهما. لكن صدام ما لبث بعد حرب الخليج الثانية أن تحول على التلفزيون إلى ناقد أدبي، مناشداً المؤلفين دمج الأنواع الأدبية فيما بينها.

- عندما تكتبون رواية لا تكتفوا فقط بذكر الأحداث العسكرية، بل حاولوا أن تدرجوا قصةً عاطفية ما بين رجل وامرأة على خلفية من الحرب، ما بين ضابط وممرضة مثلاً!

        

في 1992 استدعى صدام ثلاثة كتاب مشهورين إلى القصر. كان يريد تكليفهم بكتابة مذكرات غزو الكويت.

كان عليهم أن يرووا قصة «أم المعارك»، ولكن ليس بكيفية جافة أو بطريقة عملية فقط. فقد كان صدام يريد قصة حية تروي قصة جنود الفرق والضباط العراقيين:

- لا تكتبوا أن القصف الأميركي قد بدأ في ساعة كذا وأن الرئيس أو ذاك الفريق قد أعطى الأمر بفعل هذا الشيء أو ذاك، بل اكتبوا «عند الفجر استيقظ قائد الوحدة في ساعة مبكرة، فقد كان عليه أن يلتحق بخط المواجهة، وبينما كان يحلق ذقنه، إذا به يسمع دوي عمليات القصف الأميركية الأولى...».

على مدى شهور عديدة، ظل المؤلفون الثلاثة يتحاورون طويلاً مع العساكر الذين شاركوا في غزو الكويت، إلى أن صدر كتاب سميك تحت عنوان «مسيرة أم المعارك». وقد أعاد صدام شخصياً قراءة النصوص وسجل ملاحظاته عليها، مضيفاً إليها على الخصوص هذا المقطع: «في الساعة الخامسة صباحاً من ذلك اليوم الثاني من شهر أغسطس 1990، نظر الرئيس في ساعته ثم التفت إلى مساعده في المعسكر قائلاً: «لقد دخل رفاقك الآن!»، فرد عليه هذا الأخير غير مصدق: «دخلوا إلى أين يا سيدي!؟» فرد عليه الرئيس بلا تردد: «إلى الكويت!»

مكتبة الرئيس

في المكتب الصحافي، كانت إحدى مهماتنا تتمثل في شراء كتب مخصصة لمكتبة صدام. فقد كان يشترط جلب نسختين أو ثلاث من كل عنوان، وكنا نشتري ما لا يقل عن مئتين إلى ثلاثمئة كتاب كل سنة، وكانت القوائم التي يرسلها إلينا جد متنوعة. كان يميل إلى كتب التاريخ وكتب الدين، وكان يحب مذكرات الشخصيات التاريخية، كمذكرات الجنرال الأميركي «نورمان شوارزكوف» حول حرب الخليج.

     

وكان مفتوناً ب«ستالين» و«نلسون مانديلا» والجنرال «ديغول» الذي كان يرى فيه الرجل الوطني الذي يملك الشجاعة في مواجهة الهيمنة الأميركية في العالم، وكان صدام يطلب منا كتاب «المسرح العالمي» ل»بريجنستاي» الخبير السابق في قضايا الأمن في البيت الأبيض، والذي كان يتناول القضايا الجيوسياسية.

                                 

وكان آخر كتاب طلبه منا كتاباً لـ «هوشي منه» حول الفييتكونع وتقنيات حرب العصابات داخل المدن - فلعله كان يريد الاستفادة من هذه التقنيات قبل المواجهة مع الأميركيين، وقد تمكنا في الأخير من العثور على هذا الكتاب بعد جهد جهيد. وكان يطلب منا أحياناً مؤلفات نفدت نسخها أو قديمة جداً فلم نكن نجد بداً من البحث عنها في المكتبات وعند بائعي الكتب القديمة.

لم ولن أعرف على الإطلاق إن كان ولع صدام بالأدب وبالشعر ولعاً حقيقياً أم مجرد تصنع ومخادعة. فعلى غرار الخلفاء العباسيين، كان صدام يسعى لأن يكون حامي الفنون،ففي 1998 طلب من أحد الشعراء وكان يعمل في المكتب الصحافي، أن يحضر إلى القصر مرتين أو ثلاثاً كل أسبوع ليلَقنه قواعد كتابة الشعر والعروض والقوافي،وكان كثيراً ما يسرب إلى رواياته أبياتاً شعرية من قريحته. ففي قلب خطابه المتلفز في بداية الحرب في مارس 2003 أدرج بعضاً من أشعاره:

أشهروا سيوفكم بلا خوف

ستشهد عليكم النجوم

أوقدوا ناركم ودعوا اللهيب يشتعل

لترهبوا عدوكم الذي يريد أن يجعل

منا عبيده!

وكان على علي عبدالله أن يتحقق من جديد من أن الرئيس لم يرتكب أخطاء نحوية أو لغوية!

ثقافة.. بالعافية

كان صدام يتصرف كنصير للآداب، فيدلل الشعراء ويغدق عليهم العطاء. وكان كلما نشرت الصحف نشيداً وطنياً أعطى صاحبه مبلغاً يتراوح ما بين 000,200إلى مليون دينار (من 100 إلى 500 دولار)، وهو مبلغ مهم إذا ما قورن بمرتب الموظف الذي لا يجاوز خمسة دولارات شهرية فبقصيدتين شعريتين في كل شهر يستطيع الشاعر أن يأخذ أكثر مما يأخذ وزير!

وكان صدام قد أنشأ نظاماً لمكافأة الشعراء داخل وزارة الثقافة. ففي كل خميس كانت تجتمع لجنة خاصة لانتقاء الأعمال الشعرية. لم يكن يشترط في هذه الأعمال أن تكون أصيلة بل كان يجب أن تخضع لقوانين الشعر العربي وأن تمدح الثورة والرئيس. وكان الشعراء يوزعون إلى فئات عديدة. وكانت نخبة هؤلاء تنتمي إلى طبقة شعراء أم المعارك (أي شعراء حرب الخليج لعام 1991)، وإلى شعراء القادسية (أي شعراء الحرب الإيرانية - العراقية).

وكانت تتفرع عن نخبة القافية هذه ثلاث فئات أخرى بمكافآت مصنفة على التوالي بـ 000,100 دينار (50 دولاراً) و 000,50 دينار (25 دولاراً) و 000,25 دينار (5,12 دولاراً). وكانت الإكرامية تسري أيضاً على برامج التلفزيون، فإن راق لصدام حصة من حصصه، منح مبلغاً قد يصل إلى مليوني دينار (1000 دولار) لمنشط حوار سياسي أو ثقافي مثلاً.

وقد صار صدام في الفترة الأخيرة أكثر سخاءً تجاه الفنانين، فمنذ العام 2000، وحتى يحسن أوضاعهم ويعوضهم عن ارتفاع الأسعار، أصدر أمره لوزارة الثقافة بإعداد قائمة بكل الفنانين العراقيين. وقد صنفوا إلى ثلاث فئات، وصاروا يتلقون علاوة تحدد تبعاً لأعمارهم (من 000,50 إلى 000,150 دينار شهرياً، أي ما يعادل من 25 إلى 75 دولاراً)، وقد كانت المجموعة الأولى تضم فئة من أطلق عليهم اسم «الرواد» أي القدماء من الفنانين، وكانت أسر المفقودين منهم تتقاضى الإكرامية عنهم.

كان فنانو «الدولة»، أي واجهة النظام البعثي، يتلقون أفضل المكافآت، بل وأكثر من ذلك، كان هذا النظام يشجعهم على السفر إلى الخارج للمشاركة في المعارض والمهرجانات والحفلات الساهرة. ففي عهد صدام كان على الثقافة المدعومة بقوة أن تنمو وتتطور في إطار غاية في الصرامة، على غرار ما كانت عليه الثقافة في عهد ستالين أو موسوليني.

لم يكن من الضروري أن يكون المثقف مسجلاً في حزب البعث حتى يستفيد من تشجيعات الدولة، لكن أي فنان منشق أو مرتبط بالمعارضة من قريب أو بعيد مصيره الإقصاء من هذه القائمة. أما الفنانون «المخربون» أو المهمشون فقد كان ينظر إليهم كفنانين «سيئين»، لأنهم لا يساهمون في بناء المجتمع من أجل رخاء الشعب.

وإن هم احجموا عن مهاجمة الرئيس أو النظام بشكل مباشر، فلا أحد يتعرض لهم بالسجن أو التعذيب، بل كانت مصالح الأمن تكتفي بتجاهلهم، تاركة إياهم أحراراً يمارسون فنهم دون أي مضايقة أو إزعاج.

*الگاردينيا: الرواية أسمها ـ اخرج منها يا ملعون ـ

للراغبين الأطلاع على الحلقة الخامسة

http://www.algardenia.com/fereboaliraq/9292-2014-03-08-20-27-40.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

716 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع