قصة ملك قتله ضباط جيشه وتشفّى به شعبه

  

   

إن ما يثير حقا عند العراقيين عاطفيا وليس موضوعيا،  وبعد مرور أكثر من نصف قرن على النهاية الفاجعة للملك فيصل الاول، هو ان يتم الترحم على الزعيمين عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف عند ذكرهما ، ويُحجب التلفظ بالرحمة على فيصل الثاني،علما أنه كان شهيدا لكونه قُتل مظلوما من دون وجه حق .

ولم يشهد أحد من العراقيين أنه قد آذى أحدا او ارتكب معصية أو انه كان ملكا فاسدا أو شريرا. ان مصرعه قد غيّر تاريخ العراق بجملته، كما هو حال كل الثورات الدموية في العالم، ولا يمكن مقارنة مصرع فيصل الثاني بمصرع ملك فرنسا ولا مقارنته بقيصر روسيا،  فقد اتجه تاريخ العراق اتجاهات متعددة ومتصارعة بعد عام 1958 أي اثر انقلاب 14 تموز الذي يعتبر مفصلا تاريخيا بين زمنين اثنين، سيحكم التاريخ عليهما بعد مضي أزمان.

    

دعوني الآن أقدّم هنا ما سجلته منذ أكثر من ثلاثين عاما من أحاديث نقلتها عن مربية فيصل الثاني، روزاليندا، لنتعرف عليه عن قرب.

حينما  تلقت روزاليندا دعوة رسمية لتكون مربية لقريب الأمير طلال ذي السنوات الست، ملك العراق فيصل الثاني، استعدت لذلك وقرأت الكثير عن البيت الهاشمي الحاكم في العراق .. وفعلا وصلت بغداد بطريق الجو، وأصبحت منذ تلك اللحظة مربية لفيصل الثاني وصديقته الوحيدة عدة سنوات.

  

غادرت روزاليندا بغداد بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها أبقت علاقاتها مع العائلة المالكة في العراق. وقد سمعت بأنها قد توفيت في العام 1999 . ولم يكن ابن الملك غازي تلميذها الوحيد، وإنما أيضا، كان هناك ولدا دوق جلوستير شقيق الملك جورج السادس وعم ملكة بريطانيا الحالية إليزابيث الثانية. ولم تتزوج ورحلت دون أن يكون لها أبناء.

قالت لي بالحرف الواحد:

لقد كنت أتلهف له صبيا لأنه كان يعاني نفس ما كنت قد عانيته في صغري، فهو مثلي قد فقد منذ طفولته عطف الأبوة، وفقد بعد ذلك عند مطلع نشأته حنان الأمومة لرحيل والدته الملكة عالية التي كانت تبّرني كثيرا. وقد كانت الملكة عالية قد أعلمتها بأن ابنها الطفل الوحيد يتعّلم بسرعة، ويتصّرف بذكاء منقطع النظير وكأنه رجل له وعيه بالمهمة التي انيطت به!. وكانت روزاليندا تصفه لي وكأنها معه قائلة :

           

كان هادئ الطبع، قليل الأكل، عفيف النفس .. كان يعشق الصمت، ويصغي لمن يصف له العراق القديم ويريد أن يجعل من العراق بلدا اخضر وكله أشجار تزدان بالأضواء، كما يرسم ذلك في لوحاته على الورق، وينتشي عندما يسمعه الآخرون انه رسام موهوب وهو ابن عشر سنين! وكان يعجب دوما بوصف الجنائن المعلقة في بابل عندما يقرأ عنها، ليقول:”أريد أن اجعل من العراق جنائن معلقة يراها كل العالم”!. لقد كان هذا جوابه على سؤال سألته إياه – كما تقول – لقد تعّلق بي ، وكأنه يرى في مربيته، امّا له! كان يصغي اليّ،ولا يناقش توجيهاتي له بصدد الاتيكيت وأدب التعامل وطريقة الكلام والتصرفات العامة والنمط الملكي في الأصول، علما بأن تربيته عراقية صرفة، ولهجته بالعربية البغدادية المفخمّة.. أما انكليزيته، فكانت رائعة اكتسبها بالإنصات والتعلم والقراءات المتنوعة.. كان يعشق السينما عشقا لا يوازيه شيء، ويفكّر بالرواية أو القصة التي يتابعها بشغف على الشاشة بالأسود والأبيض، وكثيرا ما أجد دموعه تنسل من عينيه على مواقف عاطفية يندمج معها. ولقد تبيّن لي أن هذه السيدة كانت تعرف فيصل صبيا وشابا كانسان من دون أن تتوغل في التفاصيل السياسية.

  

يقول أرشيف هذه المرأة إنها عملت في القصر الملكي العراقي للفترة 1943 – 1946. وهي فترة قالت لي إنها غير كافية جعلتها تتعلق بحب ذلك الصبي الملك الحزين ، وتعلمه الكثير وتلتقط معه أجمل صور ذكرياتها معه بكاميرتها القديمة التي لم تزل تحتفظ بها حتى الآن في منزلها – كما قالت – .. إنها لم تزل تتذكر ألعاب ذلك الملك الصغير وأفلامه السينمائية المفضلة وكانت بالأسود والأبيض ومراقبتها له إبان الفعاليات الرسمية التي قدر له أن يشارك فيها، وتتذكر الأزمات التي يمر بها إذ تجتاحه بين فترة وأخرى نوبات الربو Asthma الذي يؤذيه جدا خصوصا عندما تتوعك سماء بغداد، ويحل الغبار ضيفا ثقيلا على تلك السماء أياما عدة. تستطرد وتقول بكلماتها التي ترصها رصا، وهي تنظر اليّ وكأنني نزلت عليها من بلاد العجائب والغرائب: قد لا تدري أنني احتفظ بعدة رسائل جميلة كتبها صاحب الجلالة فيصل الثاني لي بانكليزيته الرائعة في سنوات عدة من الخمسينيات، وتعّلق قائلة بأنه كان يجيد الانكليزية أكثر من العربية! وكانت تقوم على خدمته والعناية به في بريطانيا، أثناء دراسته فيها.. صحيح انه كان يعيش في قسم داخلي في مدرسة سانت هيرست ، وأيضا في كلية هارو، لكنني أكون معه في أوقات فراغه.. وهو لا يعرف أي وقت للفراغ، فهو يقضي جلّ أوقات عطله بالرياضة ويعشق الهوكي ويغرم بكرة القدم والملاكمة .. كان يقرأ كثيرا ، وهو يختار كتبه ويشتريها بنفسه، وأكثر ما كان يعجبه أن يجد كتابا عن العراق بين يديه، ويهوى كتب التاريخ، وخصوصا عن بلاد ما بين النهرين، ليتعّرف على ملوكها بدلالة أستاذه مستر هاشمي..

 

وغرس فيه حب قراءة سير الزعماء والملوك..كان فيصل إنسانا بمعنى الكلمة، لا يفرّق بين البشر أبدا، لا على أساس الدين، ولا اللون، ولا العرق، ولا اللغة .. وكنت أجده يسأل عن عادات وتقاليد شعوب أخرى، ويهوى بعض الأطباق لعدة شعوب، ويفّضل الطبق الصيني على الرغم من قلة شهيته للطعام، إذ كان أكله قليلا. كان كريم النفس وكريم اليد ، ولكنه يعرف كيف يصرف نقوده .. كان يتصّرف تصرفات الكبار، إذ لم يكن كبقية المراهقين، ولا يستهتر بالآخرين. أبدا، فهو يحترم التقاليد والقيم التي ترّبى عليها، ويدرك انه ترّبى ويتعلمّ من اجل الملك. كان لا يصدر قراراته بسرعة، بل يتأنّى كثيرا في صنعها، ويستشير غيره في أمرها. حدثتني في أكثر من لقاء معها بأن فيصل الثاني لم يكن كبقية من كان في عمره، كان يرسم على وجهه ابتسامات حزينة.. ولم يتكلم إلا إذا سئل، ولم تعجبه الثرثرة أبدا ..

              

وهو اجتماعي بطبعه، تعّلم ألا يكون لوحده أبدا، فمنذ طفولته تعّود أن يحيطه الكبار، وقد عرفت أن خالته الأميرة عابدية بدأت ترعاه بعد وفاة أمه التي كانت له سندا، وبموتها فقد الملك الصبي فيصل الثاني كل فرحه، ولكنه كان إنسانا عجيبا في كظم حزنه، وهو لا يغتاظ أبدا، إذ عرف بهدوء طبعه، ويأخذ الأمور بسلاسة، ويستمع طويلا حتى يقول كلمته.. كان يعجبه احتساء الشاي بالحليب ويعجبه استقبال الشباب العراقي من الفتوة والكشافة، ويتعامل معهم صديقا وواحدا منهم.. ويرحب دوما منذ صغره، بجولات في شوارع بغداد ،

  

إذ كان يرغب أن يكون في سيارة مكشوفة ليحيي شعبه الذي يصفق له كلما يراه.. كان يعشق الصور الفوتوغرافية ومراقبة الأفلام السينمائية.. كان يحب الرسم وبدأت هوايته منذ سن مبكرة. كان يتكلم مع مربيته ومعلمته بالانكليزية التي نجحت في غرس جملة كبيرة من التعابير والمصطلحات النادرة والثمينة في ذهنيته، وعلمته كيفية النطق بها منذ صغره حتى يمكنه في المستقبل أن يتمّيز بها على ملوك الأرض وزعمائها .. ولكن القدر لم يمهله لينفع العراق بمثل هذا الملك الذي يبدو انه لم يخلق للعراق أبدا! أطرقت روزاليندا قليلا ، وكأنها كانت تفكّر في أمر مهم، ثم التفت وقالت لي:

أتدري ما قاله لي فيصل في احد الأيام التالية، وفي آخر لقاء معه؟ قلت لها : ماذا قال؟ قالت: قال: انأ عند وعدي لك، أريد أن اجعل من وطني العراق جنائن معلقة يراها كل العالم! وهنا انتبهت، فقلت لها : ولكن لم يستطع أن يحقق أمنيته إذ لفّه القدر البائس، ليأخذ العراق طريقا من نوع آخر في مسيرة تاريخه! قالت:

لا ادري لماذا نفد صبر العراقيين ليقتلوا ملكهم وكل عائلته..؟؟

أجبتها : انك لا تعرفين الظروف التي عاشها العراقيون.. وان فيصل ذهب ضحية لسيئات ارتكبها غيره. واستطردت قائلا:

لقد ولد وعاش ورحل وهو لم يدرك المشكلات الصعبة التي كان يعيشها العراق منذ زمن طويل.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

775 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع